النص الأدبي والممانعة في التعريف

 

تمهيد:

ليس النص الأدبي توليدا لغويا قائما على التركيب والدلالة، في تساوق مع حدود الإعراب، ولا هو برهنة على حجية العقل والمتكلم به، ولا هو انعزال مسيج بما فيه مستغن عن غيره.
النص الأدبي حياة متفردة الأفعال والأحداث والإنجاز، حياة تصنع على عين اللغة، فيها التلازم و التداول والتواتر والإقناع والمحايثة، وعلامات بها يهتدى بها إليها.
النص الأدبي تفاعل الذات بعوالم الاستغراق، والعبور إلى مجاهل الكلام، في خروج تام عن الأقيسة وصياغة ما لا يستجاز في سائر الكلام.
النص الأدبي انتظام داخلي على نحو مخصوص، وائتلاف متفرد على نسق مخالف، أي أن النص الأدبي ترتيب في قول بليغ قانونه الخالفة لا المشاكلة. ولأنه حجة ذاته في بناء إعراب معانيه، فهو على خلاف غيره يعرب نصه بما فيه، وينشئ المعاني الثقال وهي معان ثوان أرقى من المعاني الأُولى .
وللنص ما يمنحه الممانعة في ألا يكون نمطيا، ما الذي يجعله مغايرا وغير قادر للاختراق والتحديد؟ و ما الذي، وهو بتلك الخصوصية، يجعله مدار اشتغال ومناط قراءة وإقراء؟ وما الذي سيكون عليه حين ينزاح من أصالته الى تدريسية تقترب منه وهي تنقله الى ذائقة الناشئة؟
تلك أسئلة نزعم أنها جديرة بالتأمل والمراودة حتى تستقيم جملتها على الجودي؟ ونسعى الى مقاربتها منهاجيا بغية التحقق من إجرائيتها ومدى صمود حجيتها أثناء المقاربة التي اخترناها لها.
* النص الأدبي والممانعة في التعريف:

إن النص الأدبي، وهو يتحصن بالممانعة عن التحديد، لا يعني أنه جموح ومتنطع ، قدر كونه سيالا لا يرتضي حدا جامعا مانعا، ولا ينزع الى ثبوت دائم. إنه متحول بالضرورة والسيرورة، محصن بأسئلة دقيقة لا تقفو أثر الإقناع، قدر سعيها الى الحيرة والارتياب ، يعبر بها الأزمنة و يتخطى الأمكنة، أي أنه يسعى الى الانفصال عن المعيارية والتحول من الدغمائية الى السحر الذي يخلفه النص الأدبي أثناء القراءة الفاعلة والمتفعلة، أي التفاعل مع العالم وليس مع دعاة التبشير الإرسالي الذين يفعلون النص مجرد وعاء لا غير .
النص فاعلية قرائية تفتح شهوة اللذة، و تتيح ان يكون القارئ مفتوحا على المستقبل وقابلا للتطور باستمرار. ولذلك ارتأينا أن نجلو النص الأدبي من خلال ثلاثة أنواع وهي:

1 – النص المفارق:

نص نسيج وحده. تفرد عن النصوص بمفارقات المبنى والمعنى في الطبيعة والبناء واشتغال اللغة والعلاقات بين المعاني والتأويل وفي الهوية والذات.
نص مخالف ومغاير،لا يستقيم لمعيار غرضه التحديد والتصنيف ، نص جمع أنساق الشعرية الساحرة والذهول النثرية الساردة حتى أضحى جنسا خاصا يحدد ماهيته بذات خصائصه.
وهو نص محير، يجنح الى التساؤل أكثر من الركون الى اليقين. نص متفلسف، ولا يقر لفلسفة عليه بسلطان، نص جمع وعيه من تخوم النسيان .
ويعد النص الصوفي سند هذا النص المفارق، إذ يشكل لا وعي المسافر في أبعاد الروح دليلا على رؤية النص المفارق، كما أنه حلم يحايث المتخيل في وحدة وجودية متكاملة ،تخارج غيرها من البنيات النصوصية.
فنصوص النفري وابن العربي والحلاج والبسطامي وغيرهم من أهل العرفان تعد تحويلات مفاهيمية ومعرفية شعرية يصعب إخضاعها لبلاغة تنتظم لنسق جمالي بدوي انبثق من خطاب فقهي في الأساس. وبهذا المعنى يكون النص المفارق مخالفا وقائما على المغايرة، أي أنه نص جامح يكسر مواضعات العقل والأقيسة المنطقية.
ولأنه الحلقة المفقودة نقديا في تراثنا النقدي، فقد ظل غير معلوم به لا يحقق له الحضور الجمالي والمعرفي الذي يقود الى بلاغة جديدة تخص طبيعته وتتساوق ونسقيته في التشييد والتفسير0

2 – النص الحي :

نص لا زمني أي أنه فوق وقته، لا يفنى بفناء زمنه، استجمع قوة البقاء من داخله لأنه يحيا بما يريد من تمام وكمال. نص اختص بالسمو فوق التاريخ واعتشب من عشبة الخلود. خصوصيته لايستمدها من خارجيته ، ففعل الجمال قائم فيه، يسري في عروق حياته، أي أن تاريخيته حافة به وليست صلبه اللغوي أو تماسكه الداخلي.
نص لا يبلع ولا يتخلق، أي أنه لا يترهل بفعل الزمن، ولا يتهلهل بفعل العراقة أو اللأصالة. عناصر أصالته تقوم ببقائه لأنه حافظ على جوهريته، فنصيته من مقتضيات الخطاب فيه.أي النصية تنظيم نسقي، وفق تداولية سياقية تحيا مع تعدد القراء والمتلقين.
وتعتبر النصوص الشعرية القديمة : «الشعر الجاهلي والعباسي والأموي..» أسانيد للنص الحي، فهي نصوص ظلت قائمة في الحياة مواكبة لكل المسارات من غير مساس بها أو تعديل في طبيعتها تعبر من جيل الى جيل محافظة على حياتها وطراوتها، بل كل جيل يمنحها من حياتهـ حياة أخرى.
إن النص الحي لا يحيا بحياته فحسب ولكنه يحيا بتعدد الحيوات، التي يمنحها له قراؤه. هناك يكون ثراء النص وغناه ويخلد في زمنه ويفارق مكانه .
من شروط النص الحي أن يكون له معيار معروف يعرف به وتبنى عليه خصائصه وتطرق به طرائقه وتحلل به معانيه ومداليله . فهو نص معياري رغم أنه نص خلاق قائم على الذوق و الرأي الخاص ويصح فيه الترهين أو التحيين، أي نقله من زمنه الى زمننا بأسئلة اليوم وراهنية المتلقي ، لذلك ظل النص الحي قابلا لمنطق الاحتمالات والممكنات، ولم يكن أبدا منغلقا أو منكفئا على ذاته في عزلة شبه ميتة .

3 – النص الاصيل:

لاتتأتى أصالة النص من عراقته، بل كونه مشرعنًا من خصوصيات تداوليته، أي أن شرعيته ممأسسة باعتراف رسمي به . لذا حرص النقد على « الدعوة مبكرا إلى أهل صناعة الشعر « كما شدد على ذلك ابن سلام الجمحي في طبقاته.
النص الأصيل – مرويا كان أم مكتوبا- يقوم على إبدال نسقي، تكون فيه تداولية اللغة التي تندغم في الذات والأنا الإبداعية ولا يكون منغلق البنية التعبيرية، وله رواة كثر يشهدون بصحته وحجيته.وهو نص يعبر عن الأنا الجمعية الثقافية، له هوية نسقية كبرى تعود على الأمة أو الجماعة او القبيلة. يكون أداة تربوية للأمراء والنبلاء وعامة الناس له جمهور واسع من المتذوقين . معروف المؤلف ينسب إليه ويرفع إليه، محقق من هويته خال من اللحن أو الوضع.
وتعتبر المعلقات الجاهلية والمفضليات ودواوين الحماسات وغيرها من النماذج الدالة عليه والواصفة له .
النص الأصيل تمت مراقبته وحددت حقوق مؤلفه وتم السماح له بالتداول بين القراء والمعلمين، وهو ما نجده في الكراريس والكتب المدرسية المتداولة والمزكاة من الجهات الرسمية.وهو نص تلتقي فيه النخبة وغيرها، وقد يكون وظيفيا في الأغلب الأعم. إذ يحول من مساره العام الى اشتغال مخصوص تربوي وغيره ، وغالبا ما يتم تطويعه لغايات يحددها السياق الذي انطرح فيه، ويستنكف عن أدبيته أو جماليتها حسب المقاربات التي وظف لأجلها.

المصادر و المراجع:

– عبد الرحمان بودرع «النص الادبي الذي نحيا به» دار كنوز الطبعة الاولى 2019. الاردن.
– سعيد يقطين .»الفكر الادبي العربي : البنيات والانساق».دار الامان الطبعة الاولى 2014 الرباط.
– محمد مفتاح. «مشكاة المفاهيم : النقد المعرفي والمثاقفة « .المركز الثقافي العربي . ط1 . 2000 .بيروت/ البيضاء
– محمد مفتاح .»التشابه والاختلاف نحو منهاجية شمولية». المركز الثقافي العربي الطبعة الاولى 1996.بيروت /البيضاء.
– محمد مفتاح «المفاهيم المعالم نحو تأويل واقعي» . المركز الثقافي العربي ط1..1999 بيروت /البيضاء.


الكاتب : أم الفضل الصابر ماء العينين

  

بتاريخ : 14/08/2021