الْأَخَوَانِ

الْمَوْتَى الَّذِينَ يَجِبُ أَنْ يُدْفَنُوا فِي مَقَابِرِ الْمُدُنِ يَسْتَحِقُّونَ الشَّفَقَةَ. فَحِينَ يُوضَعُونَ فِي عَرَبَاتِ نَقْلِ الْمَوْتَى، وَيُمْضَى بِهِمْ عَبْرَ الشَّوَارِعِ، يَبْدُونَ وَكَأَنَّهُمْ يَتَأَلَّمُونَ وَيَئِنُّونَ؛ بَعْضُهُمْ يَتَأَسَّفُ لِعَدَمِ وُجُودِ أَرْيَاشٍ عَلَى نَاوُوسِهِ، وَالْبَعْضُ الْآخَرُ غَيْرُ رَاضٍ عَنْ عَدَدِ تِيجَانِ الزُّهُورِ. وَهُنَاكَ مَنْ لَا تَتْبَعُهُ سِوَى سَيَّارَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ، وَيَشْعُرُ بِالْأَسَى. أَهْلُ الْمُدُنِ لَا يَفْهَمُونَ كَيْفَ يُكَرِّمُونَ الَّذِينَ يَنَامُونَ تَحْتَ التُّرَابِ، النَّوْمَ الَّذِي لَا نِهَايَةَ لَهُ. نَفْهَمُ هَذَا الْأَمْرَ جَيِّداً فِي الْبَادِيَةِ، وَلَيْسَ فِي أَيِّ مَكَانٍ آخَرَ أَكْثَرَ مِنْ بَلَدِيّةِ سْفَارْتْسِيُو، فِي فِيرْمْلَانْدَ.
إِذَا مُتَّ فِي بَلَدِيّةِ سْفَارْتْسِيُو، فَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ سَيَكُونُ لَكَ نَاوُوسٌ مِثْلُ أَيِّ شَخْصٍ آخَرَ. نَاوُوسٌ أَسْوَدُ مُرْضٍ مِثْلُ ذَلِكَ الَّذِي دُفِنَ بِهِ الْقَاضِي وَمُفَوِّضُ الشُّرْطَةِ، فِي الْعَامِ الْمَاضِي؛ لِأَنَّ نَفْسَ النَّجَّارِ هُوَ الَّذِي يَصْنَعُ كُلَّ النَّوَاوِيسِ، وَلَيْسَ لَدَيْهِ سِوَى نَمُوذَجٍ وَاحِدٍ، فَقَطْ. تَعْلَمُ أيضًا أَنَّهُ سَيَتِمُّ نَقْلُكَ إِلَى الْكَنِيسَةِ عَلَى مَتْنِ عَرَبَةِ شَحْنٍ، سَيَتِمُّ طِلَاؤُهَا بِاللَّوْنِ الْأَسْوَدِ لِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ. لَيْسَ عَلَيْكَ أَنْ تُفَكِّرَ فِي الْأَرْيَاشِ، أَبَداً: فَنَحْنُ لَا نَعْرِفُهَا. لَكِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّ الْخُيُولَ سَيَكُونُ لَهَا أَنْسِجَةٌ بَيْضَاءُ عَالِقَةٌ بِأَحْزِمَتِهَا، وَسَوْفَ يَتِمُّ الذَّهَابُ بِكَ بِتَمَهُّلٍ وَمَهَابَةٍ مِثْلُ فَلَّاحٍ. لَا تَتَضَايَقْ بِشَأْنِ التِّيجَانِ، فَنَحْنُ لَا نَضَعُ زَهْرَةً وَاحِدَةً عَلَى التَّابُوتِ، لِأَنَّ الْعَادَةَ تُمْلِي أَنْ يَكُونَ شَدِيدَ السَّوَادِ وَلَامِعاً جِدًّا وَلَا يَحْجُبُهُ شَيْءٌ. لَا تُشْغِلْ بَالَكَ بِفِكْرَةِ أَنَّهُ لَنْ يَكُونَ مِنْ نَصِيبِكَ مَوْكِبٌ كَبِيرٌ بِمَا يَكْفِي، فَسَوْفَ يُشَيِّعُكَ جَمِيعُ أَهْلِ الْقَرْيَةِ. وَلَا تَتَسَاءَلْ إِنْ كَانَ هُنَاكَ أَنِينٌ وَدُمُوعٌ خَلْفَ نَعْشِكَ، فَنَحْنُ لَا نَبْكِي الْمَوْتَى َأَماَم كَنِيسَةِ سْفَارْتْسِيُو. لَا نَبْكِي عَلَى شَابٍّ، فِي رَبِيعِ الْعُمْرِ، مَاتَ عِنْدَمَا كَانَ عَلَى وَشْكِ الْبَدْءِ فِي إِعَالَةِ وَالِدَيْهِ، حَتَّى نَبْكِيَ عَلَيْكَ. سَيَتِمُّ وَضْعُكَ عَلَى حَامِلَتَيْنِ سَوْدَاوَيْنِ أَمَامَ مَبْنَى الْبَلَدِيَّةِ الرِّيفِيِّ، وَسَيَتَجَمَّعُ حَوْلَكَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَكُلُّ النِّسَاءِ سَتَكُونُ مَنَادِيلُهُنَّ فِي أَيْدِيهِنَّ؛ وَلَنْ يَبْكِي أَحَدٌ. وَسَتَبْقَى الْمَنَادِيلُ مَطْوِيَّةً جَيِّدًا، وَلَنْ تُوضَعَ عَلَى الْأَعْيُنِ. لِذَلِكَ لَا دَاعِيَ لِلْخَوْفِ مِنْ أَنَّنَا لَنْ نَمْنَحَكَ الْكَثِيرَ مِنَ الدُّمُوعِ مِثْلَ أَيِّ شَخْصٍ آخَرَ. كُنَّا سَنَبْكِي لَوْ كَانَتْ هَذِهِ هِيَ الْعَادَةُ، وَلَكِنَّهَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ. أَنْتَ تُدْرِكُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ هُنَاكَ حُزْنٌ كَبِيرٌ وَكَثِيرٌ مِنَ الْبُكَاءِ عَلَى قَبْرٍ مَا، لَكَانَ الْأَمْرُ مُؤْلِمًا عَلَى الَّذِي لَا يَتَحَسَّرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ. يَعْرِفُونَ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي سْفَارْتْسِيُو، إِنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ الْعَادَاتِ الَّتِي اسْتَمَرَّتْ مُنْذُ مِئَاتِ السِّنِينِ.
وَبَيْنَمَا أَنْتَ هُنَا، أَمَامَ الْكَنِيسَةِ، فَأَنْتَ كَائِنٌ عَظِيمٌ وَرَائِعٌ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّكَ دُونَ أَزْهَارٍ أَوْ دُمُوعٍ. لَا أَحَدَ يَأْتِي إِلَى الْكَنِيسَةِ وَيَسْأَلُكَ مَنْ أَنْتَ. نَقْتَرِبُ مِنْ نَعْشِكَ فِي صَمْتٍ وَنَتَأَمَّلُهُ. وَلَكِنْ لَا يَخْطُرُ بِبَالِ أَحَدٍ أَنْ يُسِيءَ إِلَى الْمَيِّتِ بِالرِّثَاءِ. نَقُولُ، فَقَطْ، إِنَّهُ أَخَذَ إِجَازَتَهِ. وَالْأَمْرُ لَيْسَ، عَلَى الْإِطْلَاقِ، كَمَا هُوَ عَلَيْهِ فِي الْمَدِينَةِ حَيْثُ سَتُدْفَنُ فِي أَيِّ يَوْمٍ كَانَ. فِي سْفَارْتْسِيُو، سَوْفَ تُدْفَنُ يَوْمَ الْأَحَدِ، بِحَيْثُ سَتَكُونُ حَوْلَكَ الْبَلَدِيَّةُ بِأَكْمَلِهَا؛ وَالْفَتَاةُ الَّتِي كُنْتَ تَرْقُصُ مَعَهَا فِي أُمْسِيَةِ الْقِدِّيسِ يُوحَنَّا الْأَخِيرَةِ، وَالرَّجُلُ الَّذِي كُنْتَ تَتَبَادَلُ الْخُيُولَ مَعَهُ فِي الْمَعْرِضِ الْأَخِيرِ، وَمُعَلِّمِ الْمَدْرَسَةِ الْعَجُوزِ الَّذِي كَانَ يَعْتَنِي بِكَ عِنْدَمَا كُنْتَ طِفْلاً صَغِيراً، وَالَّذِي نَسِيَكَ رَغْمَ أَنَّكَ لَمْ تَنْسَهُ، وَالنَّائِبُ الْقَدِيمُ الَّذِي لَمْ يَتَفَضَّلْ أَبَدًا بِتَحِيَّتِكَ. لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا هُوَ الْحَالُ فِي الْمَدِينَةِ حَيْثُ لَا يَكَادُ النَّاسُ يَنْتَبِهُونَ إِلَى جَنَازَتِكَ وَهِيَ تَمُرُّ.
حِينَ نَأْتِي بِالْأَحْزِمَةِ الطَّوِيلَةِ وَنَضَعُهَا تَحْتَ التَّابُوتِ، سَيُتَابِعُهَا الْجَمِيعُ بِكَثِيرِ الِاهْتِمَامِ. وَيَا لَهُ مِنْ حَارِسِ كَنِيسَةٍ جَمِيلٍ فِي سْفَارْتْسِيُو! إِنَّهُ جُنْدِيٌّ عَجُوزٌ؛ لَكِنَّهُ يَبْدُو كَمُشِيرٍ، بِشَعْرِهِ الْأَبْيَضِ الْمَحْلُوقِ وَشَارِبَيْهِ الْمُلْتَوِيَّيْنِ وَلِحْيَتِهِ الْمُدَبَّبَةِ. يَمْشِي مُسْتَقِيماً بِقَامَتِهِ الْمَمْشُوقَةِ، بِخِفَّةٍ وَثَبَاتٍ. فِي يَوْمِ الْأَحَدِ، يَرْتَدِي مِعْطَفاً نَظِيفاً مِنَ الْقُمَاشِ النَّاعِمِ. وَهُوَ الَّذِي سَيَكُونُ فِي مُقَدِّمَةِ الْمَوْكِبِ. وَبَعْدَهُ يَأْتِي رَئِيسُ الْمَرَاسِيمِ، الَّذِي يَتِمُّ اخْتِيَارُهُ مِنْ بَيْنِ مَعَارِفِكَ، وَالَّذِي يُمْسِكُ بِعَصاً سَوْدَاءَ؛ وَقَدْ لَا يَكُونُ لَهُ نَفْسُ تَأْثِيرِ حَارِسِ الْكَنِيسَةِ. قَدْ تَكُونُ قُبَّعَتُهُ وَاسِعَةً جِداً أَوْ قَدِيمَةً. سَيَكُونُ مُحْرَجاً أَيْضاً؛ وَلَكِنْ، مَتَى لَا يَشْعُرُ بِالْحَرَجِ مَنْ يُمْسِكُ عَصَا الْحِدَادِ؟ ثُمَّ تَأْتِي فِي نَاوُوسِكَ مَعَ الْحَمَّالِينَ السِّتَّةِ، وَخَلْفَكَ الْقَسُّ وَالشَّمَّاسُ وَالْقَرْيَةُ وَالْبَلَدِيَّةُ بِكَامِلِهَا. تَأَكَّدْ مِنْ أَنَّ جَمِيعَ الْأَبْرَشِيَّةِ سَيُرَافِقُونَكَ إِلَى الْمَقْبَرَةِ. وَلَاحِظْ أَنَّهُمْ سَيَبْدُونَ جَمِيعاً مُتَوَاضِعِينَ وَفُقَرَاءَ. إِنَّهُمْ لَيْسُوا كَأَهْلِ الْمَدِينَةِ أَنِيقِينَ؛ إِنَّهُمْ مُجَرَّدَ أُنَاسِ سْفَارْتْسِيُو الْبُسَطَاءِ، فَقَطْ. وَاحِدٌ، عَظِيمٌ وَجَلِيلٌ، فَحَسْبُ؛ أَنْتَ فِي نَاوُوسِكَ، أَنْتَ الَّذِي مَاتَ.
سَيَسْتَيْقِظُ الْآخَرُونَ فِي الْيَوْمِ التَّالِي لِلْقِيَامِ بِأَعْمَالٍ شَاقَّةٍ وَخَشِنَةٍ. سَيَكُونُونَ بِمَلَابِسَ بَالِيَةٍ مُرَقَّعَةٍ جَالِسِينَ فِي أَكْوَاخِهِمْ. سَيَظَلُّونَ يُعَانُونَ، مُضْطَهَدِينَ وَأَذِلَّاءَ، بِسَبَبِ الْفَقْرِ. إِذَا رَافَقَكَ شَخْصٌ غَرِيبٌ إِلَى حُفْرَتِكَ، فَسَيَكُونُ كَئِيباً لِرُؤْيَةِ مَنْ يَتْبَعُكَ أَكْثَرَ مِمَّا سَيَكُونُهُ بِالتَّفْكِيرِ فِيكَ. لَنْ تَحْتَاجَ، أَبَداً، إِلَى فَحْصِ الْيَاقَةِ الْمُخْمَلِيَّةِ لِمِعْطَفِكَ إِنْ كَانَتْ قَدْ بَدَأَتْ تَبْيَضُّ عِنْدَ الْحِفَافِ. لَنْ تَحْتَاجَ، بَعْدَ الْآنِ، إِلَى طَيِّ وِشَاحِكَ الْحَرِيرِيِّ الطَّيَّةَ الَّتِي تُخْفِي الْمَزْقَ. لَنْ تَحْتَاجَ، بَعْدَ الْآنِ، إِلَى اسْتِجْدَاءِ تُجَّارِ الْبَادِيَّةِ لِمَنْحِكَ بَضَائِعَهُمْ بِالنَّسِيئَةِ. لَنْ تَشْعُرَ بِقُوَاكَ تَتَلَاشَى؛ لَنْ تَبْقَى هُنَا فِي انْتِظَارِ الْيَوْمِ الَّذِي تَتَكَلَّفُ فِيهِ بِكَ الْبَلَدِيَّةُ. وَلَا أَحَدَ مِنَ الَّذِينَ يُرَافِقُونَكَ مَنْ لَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مِنَ الْأَفْضَلِ أَنْ يَكُونَ مَيِّتاً، أَنَّهُ مِنَ الْأَفْضَلِ الصُّعُودُ إِلَى السَّمَاءِ عَلَى سُحُبِ الصَّبَاحِ الْبَيْضَاءَ، عَلَى أَنْ يَبْقَى عَلَى قَيْدِ حَيَاةِ الْمِحَنِ الْمُتَعَدِّدَةِ.
حِينَ نَقْتَرِبُ مِنْ سُورِ الْمَقْبَرَةِ، حَيْثُ الْحُفْرَةُ جَاهِزَةٌ، سَنَقُومُ بِاسْتِبْدَالِ الْأَحْزِمَةِ الْجَنَائِزِيَّةِ بِالْحِبَالِ الْقَوِيَّةِ. فَيَصْعَدُ حَامِلُو التَّابُوتِ عَلَى أَكْوَامِ التُّرَابِ وَيَتْرُكُونَ التَّابُوتَ يَنْزَلِقُ. وَبِمُجَرَّدِ أَنْ يَتِمَّ الْأَمْرُ، سَيَقْتَرِبُ الشَّمَّاسُ مِنْ حَافَّةِ الْقَبْرِ وَيَشْرَعُ فِي الْغِنَاءِ: «أَمْضِي إِلَى الْمَوْتِ أَيْنَمَا تَوَجَّهْتُ…». وَحْدَهُ الشَّمَّاسُ يُغَنِّي الْمَزْمُورَ؛ لَا الْقَسُّ وَلَا أَحَدَ مِنَ الْأَبْرَشِيَّةِ يُسَاعِدُهُ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يُغَنِّيَ مَهْمَا كَانَتْ رِيحُ الشَّمَالِ قَارِسَةً، وَمَهْمَا كَانَتِ الشَّمْسُ بَاهِرَةً تَلْفَحُ الْوُجُوهَ.
الشَّمَّاسُ عَجُوزٌ وَلَمْ يَعُدْ صَوْتُهُ قَوِيًّا. يَعْرِفُ الْيَوْمَ، جَيِّداً، أَنَّهُ حِينَمَا يُغَنِّي عَلَى الْأَمْوَاتِ، فَإِنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَمَا كَانَ عَلَيْهِ فِي شَبَابِهِ. لَكِنَّهُ رَغْمَ ذَلِكَ يُغَنِّي؛ مِهْنَتُهُ تُلْزِمُهُ ذَلِكَ. إِنْ خَذَلَهُ صَوْتُهُ، تَمَاماً، فَسَيَضْطَرُّ إِلَى التَّخَلِّي عَنْ مَهَامِّهِ، وَسَيَكُونُ ذَلِكَ ضُرًّا عَلَيْهِ. كَمَا أَنَّ الْأَبْرَشِيَّةَ بِكَامِلِهَا تَضْطَرِبُ حِينَ يُغَنِّي الشَّمَّاسُ الْعَجُوزُ؛ تَتَسَاءَلُ مَا إِذَا كَانَ صَوْتُهُ سَيَسْتَمِرُّ حَتَّى نِهَايَةِ الْمَزْمُورِ. لَا أَحَدَ يُغَنِّي، لِأَنَّ الْعُرْفَ لَا يَسْمَحُ بِذَلِكَ. نَحْنُ لَا نُغَنِّي، أَبَداً، فِي مَقْبَرَةِ سْفَارْتْسِيُو. وَلَا نُغَنِّي، حَتَّى، فِي الْكَنِيسَةِ، بِاسْتِثْنَاءِ التَّرْتِيلَةِ الْأُولَى صَبِيحَةَ الْمِيلَادِ.
وَمَعَ ذَلِكَ، فَإِنْ أَصْغَيْنَا جَيِّداً، سَنُدْرِكُ أَنَّ الشَّمَّاسَ لَا يُغَنِّي وَحْدَهُ؛ ثَمَّةَ صَوْتٌ يُرَافِقُهُ. وَلَكِنَّهُ يُشْبِهُ صَوْتَهُ تَمَاماً، لِغَايَةِ أَنَّ الصَّوْتَيْنِ مَعاً يُشَكِّلَانِ صَوْتاً وَاحِداً. وَهَذَا الصَّوْتُ الْآخَرُ، هُوَ صَوْتُ رَجُلٍ مُسِنٍّ، قَصِيرِ الْقَامَةِ، يَرْتَدِي لِبَاساً صَوْفِيًّا رَمَادِيًّا طَوِيلاً، وَأَكْبَرَ سِنًّا مِنَ الشَّمَّاسِ. لَكِنَّهُ يُثَابِرُ فِي مُسَاعَدَتِهِ بِكُلِّ مَا يَمْلِكُ مِنْ صَوْتٍ. لَهُ، تَمَاماً، نَفْسُ الْجَرْسِ. سَنَنْدَهِشُ إِنْ لَمْ نُلَاحِظْ أَنَّ الرَّجُلَ الْمُسِنَّ لَهُ نَفْسُ الْأَنْفِ، أَيْضاً، وَنَفْسُ الذَّقَنِ وَنَفْسُ الْفَمِ؛ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنَ الشَّمَّاسِ سِنًّا وَأَكْثَرُ وَهَناً، فَقَطْ. فَنَفْهَمُ، إِذَنْ، أَنَّ الرَّجُلَ الْمُسِنَّ شَقِيقٌ لِلشَّمَّاسِ، وَنَعْلَمُ لِمَاذَا يُسَاعِدُهُ.
لَمْ يَنْجَحْ فِي حَيَاتِهِ، أَبَداً؛ فَقَدْ كَانَ حَظُّهُ، دَائِماً، سَيِّئاً. لَقَدْ أَفْلَسَ، فِيمَا مَضَى، وَوَرَّطَ الشَّمَاسَ فِي بُؤْسِهِ. بِسَبَبِهِ تَعَرَّضَ أَخُوهُ لِلْعَدِيدِ مِنَ الْمَشَاكِلِ. حَاوَلَ الشَّمَّاسُ أَنْ يُسَاعِدَهُ عَلَى الْمَسْكِ بِزِمَامِ الْأُمُورِ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُمْكِنُ تَدْبِيرُ شُؤُونِهِمْ. لَاحَقَهُ النَّحْسُ وَخَانَتْهُ الْقُدْرَةُ. كَانَ أَخُوهُ مَصْدَرَ وَهَجِ الْأُسْرَةِ، وَهُوَ نَالَ وَأَخَذَ، فَقَطْ، وَلَمْ يَمْنَحْ شَيْئاً، أَبَداً. يَا إلَهِي، مَا عَسَاهُ يُعْطِي؟ عَلَيْكَ أَنْ تَرَى الْكُوخَ حَيْثُ يَعِيشُ، فِي الْغَابَةِ. يَعْرِفُ أَنَّهُ كَانَ ثَقِيلاً وَحَزِيناً، وَهَمًّا لِأَخِيهِ وَلِلْجَمِيعِ.
وَلَكِنْ مُؤَخَّراً، أَصْبَحَ رَجُلاً ذَا أَهَمِّيَةٍ، يُمْكِنُهُ رَدُّ بَعْضٍ مِمَّا أَخَذَ. وَهُوَ، الْآنَ، يُسَاعِدُ أَخَاهُ الَّذِي كَانَ الْوَهَجَ الْوَحِيدَ وَالْفَرَحَ الْوَحِيدَ فِي حَيَاتِهِ. يُسَاعِدُهُ عَلَى الْغِنَاءِ، وَبِالتَّالِي عَلَى الْحِفَاظِ عَلَى مَنْصِبِهِ. لَا يَدْخُلُ الْكَنِيسَةَ لِأَنَّهُ يَظُنُّ أَنَّ كُلَّ الْأَنْظَارِ تُرَكِّزُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يَرْتَدِي مَلَابِسَ سَوْدَاءَ. لَكِنَّهُ يَأْتِي كُلَّ يَوْمِ أَحَدٍ أَمَامَ الْبَلَدِيَّةِ الرِّيفِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ تَابُوتٌ، يَتْبَعُهُ حَتَّى الْمَقْبَرَةِ. يُضَحِي بِالظُّهُورِ فِي لِبَاسِهِ الرَّمَادِيِّ الْبَالِي، وَبِصَوتِهِ الْبَائِسِ يَدْعَمُ صَوتَ أَخِيهِ. لَا يَجْهَلُ أَنَّهُ يُغَنِّي بِشَكْلٍ رَدِيءٍ لِلْغَايَةِ؛ يَقِفُ مُنْعَزِلاً، وَرَاءَ الْجَمِيعِ، وَلَا يَجْرُؤُ عَلَى التَّقَدُّمِ إِلَى حَافَّةِ الْقَبْرِ. وَلَكِنْ فِي آخِرِ الْمَطَافِ، إِذَا هَمَدَ صَوتُ الشَّمَاسِ، فَصَوتُهُ سَيَسْتَمِّرُ.
فِي الْمَقْبَرَةِ، لَا أَحَدَ يَضْحَكُ مِنْ هَذَيْنِ الصَّوْتَيْنِ. سِوَى حِينَ نَعُودُ إِلَى الْمَنْزِلِ وَنَنْتَفِضُ مِنْ مَهَابَةِ التَّكْرِيمِ، حِينَئِذٍ نَشْرَعُ فِي الضَّحِكِ مِنَ الْغِنَاءِ؛ مِنْ غِنَاءِ الشَّمَّاسِ كَمَا مِنْ غِنَاءِ أَخِيهِ. الشَّمَّاسُ لَا يَهْتَمُّ بِهَذَا، لَيْسَ مِنْ طَبِيعَةِ مِزَاجِهِ أَنْ تُقْلِقَهُ مِثْلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ. وَلَكِنَّ الْمُسِنَّ يُعَانِي مِنْ الْأَمْرِ، وَيَرْتَجِفُ طِوَالَ الْأُسْبُوعِ مُفَكِّراً فِي يَوْمِ الْأَحَدِ. وَرَغْمَ ذَلِكَ، فِي كُلِّ يَوْمِ أَحَدٍ يَصِلُ فِي الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ أَمَامَ الْبَلَدِيَّةِ الرِّيفِيَّةِ.
وَلَكِنَّكَ فِي تَابُوتِكَ لَا تَجِدُ هَذَيْنِ الصَّوْتَيْنِ سَيِّئَيْنِ لِلْغَايَةِ. فَهَلْ نُرِيدُ أَلَّا نُدْفَنَ فِي سْفَارْتْسِيُو بِسَبَبِ غِنَائِهِمَا؟ يَقُولُ لَنَا الْمَزْمُورُ إِنَّنَا أَيْنَمَا تَوَجَّهْنَا نَمْضِي إِلَى الْمَوْتِ. وَعِنْدَمَا يُغَنِّيهِ هَذَانِ الْعَجُوزَانِ، اللَّذَانِ قَضَيَا حَيَاةً بِأَكْمَلِهَا فِي الْمُعَانَاةِ، الْوَاحِدَ لِأَجْلِ الْآخَرِ، نَشْعُرُ أَكْثَرَ مِنْ أَيِّ وَقْتٍ مَضَى، بِمَدَى صُعُوبَةِ الْحَيَاةِ وَنُهَنِّئُ أَنْفُسَنَا عَلَى مَوْتِنَا.
أَلْقَى الْقَسُّ التُّرَابَ عَلَى التَّابُوتِ وَقَالَ دُعَاءً. وَالصَّوْتَانِ اللَّذَانِ تَوَقَّفَا عَنِ الْغِنَاءِ، عَادَا إِلَيْهِ مِنْ جَدِيدٍ: «سَأَذْهَبُ إِلَى الْجَنَّةِ…»؛ لَا يُغَنِّيَانِ أَفْضَلَ مِنْ ذِي قَبْلِ؛ بَلْ إِنَّهُمَا أَكْثَرَ ضُعْفاً وَأَكْثَرَ صَرِيراً. وَلَكِنْ، حِينَ إِذْ يُغَنِّيَانِ، يَمْتَدُّ أَمَامَكَ فَضَاءٌ فَسِيحٌ حَيْثُ تُحْمَلُ فِي سَعَادَةٍ تَوَّاقَةٍ، وَكُلُّ مَا يَنْتَمِي إِلَى الْأَرْضِ يَبْهَتُ وَيَتَلَاشَى. الصَّدَى الْأَخِيرُ الَّذِي قَدْ تَسْمَعُهُ هُوَ، وَرَغْمَ كُلِّ شَيْءٍ، هَمْسٌ مِنَ الْحَنَانِ وَالْوَفَاءِ، وَهُوَ أَفْضَلُ مَا صَادَفْتَ فِي الْعَالَمِ؛ وَهُوَ مَا يُرَافِقُكَ وَيَرْفَعُكَ فِي زَفِيفِكَ الْمُضْطَرِبِ…

من المجموعة القصصية «أواصر خفية»، صدرت سنة 1894.
سلمى لوغرلوف (20 نوفمبر 1858 – 16 مارس 1940) روائية سويدية حائزة على جائزة نوبل في الأدب سنة 1909


الكاتب : تر جمة: جمال خيري

  

بتاريخ : 22/07/2022