«باريس أبدا» للروائي أحمد المديني

 

في عشق مدينة تستنفِد ولا تنفَد

«هذه يا سيدي مدينة تستنفِد ولا تنفد، أحشاؤها عميقة وزواياها غميقة، ولذلك تناسل فيها الشعراء المغامرون والروائيون الأنبياء، وتوافد عليها كل ذي موهبة ليسقى من معين فتنتها، ويمسه جنّهُ لو مسَّهُ» ص 26
يعود الروائي المغربي أحمد المديني إلى مغازلة معشوقته الأبدية «باريس» بنص جديد وسمه بـ»باريس أبدا: يوميات الضفة اليسرى 2020-2019».
يتعقب المديني من الضفة اليسرى فاتنته باريس، يقتفي أثر عشاقها، يحاور فصولها، يتنقل بين مقاهيها ومكتباتها ويشتمّ رائحة الحياة وهي تنبعث من مسام الكتب التي طالما «أعمى عينه بين رفوفها» وصارت رائحة الكتب تنفذ الى رئتيه يحس بها «وكأنها أريج أو نيكوتين يعدل المزاج» ص23.
باريس التي كُتب عنها الكثير من «مدار السرطان» لهنري ميلر إلى «شيفرة دافنتشي» لدان براون و»خمسة أيام في باريس» لدانيال ستيل، شكلت دوما رمزا للحضارة والانبهار لدى العديد من الكتاب العرب أمثال طه حسين في «صوت باريس»، رفاعة الطهطاوي في»تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، و»عراقي في باريس» لصمويل شمعون وسهيل إدريس في «الحي اللاتيني» .. وربما هذا ما يفسر افتتان المديني بهذه المدينة التي خصص لها ثلاثة كتب بدأها بـ «نصيبي من باريس» و»فتن كاتب عربي في باريس» قبل أن يشهر هذا العشق الأبدي بينهما في «باريس أبدا» الصادرة هذه السنة عن «منشورات المتوسط»، هو المفتتن بهذه المدينة «المستحدثة من جماع بصري وشتات حسي وشعوري»، مدينة لا يعرف كاتبنا لمثلها «قدرة على إخفاء المفاتن والأسرار وإدهاشك كلما أظهرت أنفك إلى الخارج بحس الفضول، فمنحت للأدباء من أبنائها والغرباء وأتاحت لهم ما يصنع أعظم الأدب وأبهجه…» ص9.
فهل نحن أمام سيرة ذاتية في قالب يوميات؟
سؤال يتبادر إلى ذهن القارئ كلما توغل في القراءة، وهو يستعير عين المديني يتنقل بها بين شوارع باريس، باحثا عن معالم خريف غاب لأول مرة وغابت نُذُره الصفراء التي تفتح أبواب الشتاء، في ما يشبه «ثورة ناعمة» على انتظامية الفصول والأزمنة في عالم اختلت كل موازينه، وبين أطفال المدينة الكوسموبوليتية في يومهم الدراسي الأول قبل أن يحط الرحال فجأة، وفي هبوط اضطراري ببرشيد، حيث يتداعى شغب الطفولة نديا، وحيث فاس دمعة الفراق الأولى التي قادته بعد عراك مع مخالب الحياة إلى ولادة ثانية، لكن هذه المرة من رحم الكتابة.
عن التدشين الأدبي للعلاقة مع المدينة، يقول المديني، إن كتابه الصادر في 2015 «نصيبي من باريس» جاء من «مدخل التعرف ورسم المعالم الكبرى وتهجي الحروف الأولى لدهشة القادم وبهجة اللقاء بالمختلف، مكانا ومعلما وثقافة، من غير انفعال بخطة رسم طرق سالكة بين ذات وموضوع». أما في كتابه الثاني «فتن كاتب عربي في باريس»(2019) فقد تجاوز المديني حالة الانبهار والدهشة، واختمرت رؤاه حول مدينة صارت تكتب ذاتها ويراها بعين تقشر وتكشف عن اللب فقط، ليصل اليوم إلى «باريس أبدا» نص جديد مبنى ومعنى، رغم أنه مستنبت من نسوغ سابقة.
إن كاتبا وروائيا مثل أحمد المديني، يعتبر الكتابة إبداعا ومسؤولية وانخراطا في الهم المجتمعي، يصر من خلال هذه اليوميات التي ترصد اليومي العابر والحدث السياسي(29 نونبر2019:حضور مراسيم تشييع الرئيس الفرنسي جاك شيراك:ص36) والانشغال الثقافي(وصلتني دعوة لحضور معرض القاهرة الدولي للكتاب: يومية 15 يناير2020….. «بلدان العرب تريد مهرجانات، أدباء ومفكرين يؤثثونها وهم يشحذون المكرمات… هذا البلد لا يجترح المعجزات. كل ما هنالك ـ وهذا فرق أساس، أن به شعبا يقرأ) يصر على أن الكتابة أيضا موقف يعلن من خلاله الكاتب انخراطه في قضايا المجتمع الكوني والمحلي، الكاتب االقلق بمعنى القلق الإيجابي المولد والمنتج للأفكار ، وفي هذا الصدد يكتب المديني إن كتاب باريس»تجربة ذاتية فيه كثير من سيرة صاحبه ولا شك في قالب اليوميات الصعب، والذات بما هي محفل شخصي، وعاء جمعي عند الكاتب تستغرقه وتفيض، وهي تمتص وتستوعب خارجها وتنشغل بقضاياه الملحة والحرجة، مجتمعية، إنسانية، وعديد قضايا فكرية ونظرات أدبية…ما اعطى لهذا العمل صبغة السيرة الذهنية والثقافية».(ص11). فاليوميات إذن تجربة كتابية وسياق ثقافي وفكري أو سرد تأملي لا يكتفي بالحدث والوصف والصور بل يتجاوز الى إنتاج الموقف والرؤية الخاصة مما يحدث.
قارئ هذه اليوميات الممتدة من 1شتنبر 2019 الى31 دجنبر 2020 يلاحظ أنها قد تتنظم متتابعة، لتتباعد زمنيا، وقد تنقطع بعد ذلك لتُستأنَف ، ما يدفعنا الى القول بوجود استمرارية تتسم بالانقطاع وهو ما يتعارض مع تعريف الناقد الفرنسي «جورج ماي» المحدد بالاستمرارية والمرتبط بالانتظامية في الكتابة، عكس الناقد فيلب لوجون الذي لا ينفي عن اليوميات شرطها الأدبي في غياب الانتظام اليومي في الكتابة، ولكن شريطة الإشارة الى التاريخ المضبوط لليوميات، وهو ما انتبه إليه المديني حين كتب عن الانقطاعات التي حدثت عند تدوينه ليومياته، وهو يتساءل في ص101: « هل يجوز تدوين اليوميات استدراكا؟ أطرح سؤالي هذا لأنني توقفت عن كتابتها منذ شهر لمانع السفر أخصص وقتي ومزاجي كليهما له، وأفتقر الى لتركيز خلاله/ ولا كتابة بدونه. أقول، طبعا، يجوز وأنا أقفز هنا عن الشرط الزمني القرين بهذا النوع من التعبير»، مضيفا أن «محتوى اليوميات ليس حصرا دائما على حدث وإحساس ساعاته المعدودة، أومن بالزمن المتصل والشمولي، لذلك يقترن تدوين اليوميات بالمستمر، وحاضره يتهادى بين أزمنة».
إن الأهم في هذه المشاهدات اليومية يبقى مرتبطا بالصدق والحقيقة في ما يُنقل ويُدوَّن من بوح ذاتي أو حديث مونولوجي داخلي، يلجأ إليه الكاتب في لحظة من لحظات حياته» إن وجد ما يمر بالخاطر» متأملا أو معلقا حتى لا تنفلت التفاصيل من أسر الزمن المنفلت، وتدوين تجربة حياة قد تذوب تفاصيلها في زحمة الحياة.. تجربة محورها الذات التي تنكتب في يوْميِّها العابر، ممهورة بسحنات المارة من كل الأعراق، وظلال الفصول ومناورات السياسيين، وهموم الكتابة والكتاب. يقول المديني: «ذات الأديب هي التي تقوده في مسالك الحياة، وتفتح له خزائن المدن وينظر إلى الوجوه والأشياء» ص.26
لحظة تحول كبرى ستعرفها هذه اليوميات، سواء على مستوى المشاعر الجوانية التي يحس بها القارئ ، أو على مستوى جمالية الموصوف، أو مزاج الواصف. يمر الوقت بطيئا، تتبلد الأحاسيس، ويتوقف الزمن. كيف لا وقد حل الوباء بباريس وأصبح العمر ريشة في مهب كوفيد يتفقدها المديني كل صباح، وهو يكابر بالمقاومة الصامتة.
يستعيد المديني في يومياته ما حصل منذ بداية الحجر إلى ما بعد كورونا ومعها يستعيد تفاصيل هذا التحول في حياته، وحيوات الكثيرين من حوله في مدينته ، فحتى الربيع جاء يزف قدومه» فلا يجد على الأرصفة وعلى الشرفات من ينتظر قدومه» ص116 .ا
في 9 مارس 2020، سيجد المديني نفسه في قلب العاصفة، « لاطعم، لا إحساس شيء كالكمد… لا رجاء يفتح في الأفق والرؤوس منكسة قد أثقلت على ظهورهم كآبة السماء، وهذا ببساطة وفداحة، لأنه قد حل بيننا، ضيفا ثقيلا، هكذا بلا استئذان، هو الوباء» ص112: المستشفيات امتلأت ورائحة الموت تعم الأمكنة، العابرون يتلبسهم الخوف وكل إنسان مشروع حياة مؤقتة.
يكتب المديني «إذا مررتُ أمام الأسواق والصيدليات، أرى صفوفا مثل خط سكة حديدية بلا نهاية، برأسي ثقل علاجُه قهوة سوداء مركزة لم يعد لها وجود بعد أن صدر قرار إغلاق المقاهي والمطاعم. لا معنى في الخارج في باريس بدونها، هي محفلها وزينتها والمجتمع رحب الصدر، الجدير بالمعاشرة، لذلك حرصت طيلة سنوات هنا على اكتشافها والتيقن من جودتها واختصاصها مثل عالم آثار في الحفور، أعتبرها مع المكتبات وفصل الخريف رأسمال عاصمة الانوار» ص120
كل هذا الضجر و من الزمن البطيء ، لا تبدده إلا الكتابة التي لها القدرة على عبوره بانسيابية تمحو كل ندوب هذا الوباء من الروح « الزمن يمتد أمامي وحولي رجراجا لا أحسبه بالساعات ولا المواعيد والالتزامات، هذا كله معلق إلى أجل. يدور في رأسي بطيئا … أستطيع كذلك أن أجمده من حين لآخر، إذ أنفصل عنه في القراءة والكتابة فأنتقل الى عالمهما»(ص 124).فقد كان الكتاب «بعض ملاذ، هو كذلك دائما، هو عندي والكتابة صنو الحياة، كذلك عشقهما خورخي سامبرين، سأقول مَهرَبا، وسعيت إلى تجربة موراكامي بحثاً عن ملجأ، لأعترف، عن مهرب».
الكتابة عن المكان، وعن المدينة بالتخصيص، كتابة يمتزج فيها المكان بالشخوص وبالذكريات والحنين، ويذوب فيها الزمن وهذا ما دأب عليه المديني وهو يحتفي بالمدن في كل كتاباته، خاصة باريس المدينة /العالم التي قدمها لنا نوافذ مشرعة وسفينة يبحر فيها، متنقلا بين الشؤون والشجون والبلدان. يقول المديني « تقاربت المسافات وتعولمت الثقافات وتمازجت القوميات، نرى صيغة الأوطان وحدودها تتقلص ويظهر مفهوم مختلف للوطن والمواطن. الكتابة عن مدينة وهي مركز إشعاع، عندي زيادة عن التجربة الفردية فيها، عناق لأرض جديدة نعيش فيها في رغد وحرية وأمان».
يقول الناشر في كلمة عن الكتاب:
«هذا هو الكتابُ الثالثُ الذي يكتبه أحمد المديني عن باريس المدينة – العالَم. وبتُّ على ثقةٍ متينةٍ أن انقطاع زياراتي إلى باريس قد يكون مردّه هو الكتاب الثاني للمديني (فتن كاتب عربي في باريس)، والذي شرفتُ بنشره عام 2019، ولم يكن بسبب الجائحة؛ لأنِّي حين احتجتُ الذهابَ إلى باريس وتهيَّأتُ لها، أرسل لي الأستاذ المديني كتابه هذا بُغيةَ نشره، فسارعتُ لقراءته. وفي أثناء القراءة، وجدتُ أعذاراً، اختفتْ معها حاجتي للذهاب إلى باريس ورغبتي التي كنتُ هيَّأتُها كذلك.
أنا من النوع الذي يُحبُّ السفر كثيراً، ولكنِّي دائماً أبحث في المدينة عن حياتها اليوميَّة، وأتمنَّى لو عندي عُمُرٌ مَديدٌ، فقط لأعيشَ في المُدُن التي أُحبُّها بضع سنوات، تكفيني للتعرُّف إليها كما ينبغي. لكنِّي أعتقد الآن أن هذا الإشكالَ حُلَّ مع مدينة باريس، بفضل هذا الكتاب.
أنا هنا لا أُقدِّمُ للقارئ العربي كتاباً عن باريس، بل أُقدِّم له باريسَ كلَّها، سحبها أحمد المديني من تحتِ أقدام سَاكِنِيْها، ونَثَرَهَا في هذا الكتاب نَثْرَاً عذباً، له موسيقى ستسمعونها وأنتُم تقرؤون.»
من أجواء الكتاب نقرأ:
«قضيت هذا اليوم متنقلاً بين مشاغل شتى، خاصةٍ وعامة، لا أكاد أستقرّ على أمر. أضع يدي، فكري، على شيء، فينسرب مني حبيبات رمل. عزوْت هذا في البداية إلى طول تركيز وانكفاء على الذات فرضه الحجْر جرّاء وباء فيروس كورونا 19 دام شهرين ونصف، وحين رُفِع الحجر في الحادي عشر من أيار/ مايو- أيار، لم نعرف ماذا نفعل به، في الحقيقة بأنفسنا. ها هو الخارج الذي مُنعنا من الاتصال به أسابيعَ طويلة، إلا بتقنين شديد وتوقيت صارم، عاد مُتاحاً، وإن بمقدار، وها هو الفراغ الشاسع الممتد بلا نهاية، في مدينة صرت أحسبها انتُزعت مني وأنا أسير بداخلها، تُستعاد، لكني في سرّي، لا أريد أن أفصح عن هذا، أخشى العودة إليها، ربما ضيّعت طريقها، ضيّعتها كلّها، والوباء الذي يواصل حصد أرواح الآلاف حصدها بدورها وما أبقى سوى على الذكريات، كلُّ منا سيحاول أن يلملم شظاياها ليصنع منها بقايا مدينة، بقايا كتابة إن هي تماسكت أعضاؤها ولغتها لتعطى معنى ما. كان الكِتاب بعض ملاذ، هو كذلك دائما، هو عندي والكتابة صنو الحياة، كذلك عشقهما خورخي سامبرين، سأقول مَهرَبا، وسعيت إلى تجربة موراكامي بحثاً عن ملجأ، لأعترف، عن مهرب».


الكاتب : حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 09/09/2022