بلاغة الدهشة في ديوان «غيوانية حلالة» للزجال عبد الرحمن فهمي

لم يَقْرَ في خَلَدي أَنَّ أبْلَغَ وسيلة لتقديم أي عمل إبداعي هي العملُ الإبداعي ذاته، والدراسة النقدية «الموضوعية « مهما تعمقت في تناول الأعمال الإبداعية، لا تغني عن الإبداع.
وعليه فإن استقراءنا لديوان «غيوانية حلالة» تشي بتلفّعه بقيم فنية متنوعة تتلبس الذات على جهة ما هي محور يتقاطع مع السّيْري والغيري بين الذات والآخر، إن تجاوراً أو تجاوزا لخلخلةً الترسبات الاجتماعية وطمحةً لبناء رؤية أكثر واقعية ينبض بها لا وعي القصيد المنسكن في الحالات الانفعالية التي عاشها الشاعر عبد الرحمن فهمي أو عاينها أو تفاعل معها. وليست هذه الرؤيات بنية شكلية منفطمة عن الصور التعبيرية في شقها الإنساني والاجتماعي، بل هي رؤيات تختزل مواقف الشاعر في تذويت الأنا التي من خلالها يكتب الشاعر فهمي عبد الرحمن بالتشكيل وبالمعاني المضمرة والظاهرة، تارة من الباطن الاجتماعي والنفسي، وأخرى على خلفية نقدية للواقع، ما جعل زجله مرآةً مجلوة تعكس للمتلقي تجربته الزجلية على جهة ما هي رؤيات نقدية لِما يعتور الواقع المحموم من تداعيات تحاملية، وذلك بلغة تتمحرق بين الإمتاع والإقناع، متكئًا على بلاغة الإيجاز في دقة المعنى واختزال اللفظ في مرآة الذات.
يحقق ديوان «غيوانية حلالة» بلاغة الإدهاش من خلال المعنى المباغت في الصور الشعرية الكثيفة الدلالات، والتي تشي برؤية وجودية لفّعت قصائد الديوان بلغة زجلية رقيقة تنآى بشاعريتها عن الصور السريالية، وتتمحرق بين الإبهام و الإيهام مما يؤكد غنى التجربة الزجلية عند عبد الرحمن فهمي التي أسعفته لتحقيق المسافة الجمالية التي تستهلك وجدان القارئ وتأسر المتلقي في مقام الدهشة النصية، حيث الومضة الشعرية قوية ومندمغة مع الرؤية الوجودية للشاعر. فالمدينة/ القنيطرة الموصوفة من قبل الشاعر ليست منعزلة عن ذاته، إذ يعبر الشاعر من خلالها عن تفاعله وانفعاله مع مؤثثات هذا المدينة بخاصة «حلالة» واللقلاق مما يردم الهوة بين ذات القصيدة وذات الأنا أو ما يسمى «تذويت الأنا الشاعرة» التي تجعل من الكلمة مصقلة للروح، بهذا المعنى يصنج الشاعر فهمي محققا وجوديته بين الأنا والذات والمدينة قائلا:
حبيتك يا قنيطرة
وحبي ليك ابيض صافي
ابيض من النقرة
واصفى من الذهب الوافي
إلى أن يقول:
بينكم، منكم نغرف نروي ذاتي
نصقل روحي بكلمتي
إن المتأمل للغة الزجلية عند الشاعر فهمي يلفيها مشْربة بإواليات تخييلية يتنامى فيها الزجل بالحدث والحدث المضاد من خلال أبنية تشكيلية للسياق المتنامي داخل أنهاج لغوية معقدة، تتشابك مستوياتها خارج تخوم التنميط والمواضعات والأنظمة المحددة سلفا للفكر والوجود والخيال.
وعليه تتناسج شعرية اللغة في ديوان (غيوانية حلالة) في ثلاثة مستويات:
أ) مستوى المشاهدة ب) مستوى التأمل ج) مستوى التخييل

أ) مستوى المشاهدة:
تكون العلاقة اللغوية وصفية أفقية وفق مطالع ومقاطع جعلت من رقش التحبير: إزجاء للتعبير، ومن تناسل الحروف: جُبّة الكلام، ومن تلابيب القصيدة: تشاكلا للإبداع؛ فلا غرو إن وسم الشاعر سفره الزجلي بغيوانية حلالة على جهة ما أن حلالة ونغم الغيوان ثاويان في منطقة وسطى بين النداوة والجساوة وهما معاً: نافذة على اللذاذة، واللذاذة النغمية مسلك إبداعي إلى عالم الطبيعة الصائتة بتعبير ابن عربي.
فعن هذه الغيوانية المُقصّدة، إن لم أقل المزجّلة، يقول الشاعر فهمي مخرجا القصيدة من طينيتها إلى عرجونيتها:
ما بين الورد طلعت حلالة
زينت لمدون وسالو الجوالة
إلى أن يقول:
وهما هملوك
أنت للهم حمالة
أنت شهد لوطان
أنت فالخد خالة
وعليه تحمل الكتابة إلزاما قسريا لا معدى من اعتبارها نواة أساسة لتحقيق القصيدة والإنجاز الشعري، فعن عميق هذه الرؤية المنسكنة بماء الشعر، يقول فهمي عبد الرحمن في قصيدة رشة حيث جعل اللباس لحدا إن لم نقل كفنا:
عزيوني يا ناسي فراسي
راني ميت
ومدفون فلباسي

ب) مستوى التأمل:
إذا كان التأمل ابناً بارّاً للمعرفة، فإن التأمل الوجودي يلّمعه بمعجم لغوي لا تحمله الغرابة فيعتاص وترهّلُه الليونة فيصير ذا فهاهة، حيث تمظهرت العبارة الزجلية في ديوان (غيوانية حلالة) برداء صوفي غير طرقي، وهذه محمدة للشاعر فهمي، لأن التصوف الطرقي حوار مع المطلق بلغة رامزة إن شعرا كما عند الحلاج، أو زجلا كما عند التستاوتي؛ في حين أن اللغة الصوفية المزجلة عند فهمي بيانُ صحوٍ عن مقام سكر كما هو الأمر عند عبد الرحمن المجذوب.
وعليه فتأمُّل عبد الرحمن فهمي اتكأ على لغة تأرجحت بين الإدلاء والإيحاء مؤثثة مشهده الزجلي، حيث استدعى الزجال الكائنات اللغوية لبسط معان حكمية ترقرقت بماء التجويد بعدما نثر سَماد المغايرة على تأملياته، ما حوَّر الذات إلى فعلٍ لإيقاع الكتابة الزجلية المنفعلة بإيقاع المنطق، يقول مستحضرا كرامات العربي بوجمعة:
سيدي العربي بوجمعة
انا فضريحك شمعة
نذوب دمعة دمعة
ونضوي على هل لمكان

ج) مستوى التخييل:
التخييل استجابة جمالية تربض بين الشعور والعقل إن تشْييئا أو أنسنة لأنه بين الشعور والفكر ما بين الذات والعقل من خيط يتوارى حتى لا يبين و يحتد، ذلك أنه: لا الشعور كفيل لوحده بإنجاز شعر إن لم نقل زجلا و إلا لاستحال إلى ترجيع ذاتي، ولا الفكر قمين ومقتدر على رسم ملامح القصيدة؛ وإن اقتدر فلن يعدو كونه ترصيصا لمقولات نِضْوَة من المعنى الشعري، لذلك جنح الشاعر إلى شعرنة الحقائق وتحقيق الشعرية في ديوانه من خلال إوالية التشكيل البلاغي الذي كسر خطية الدلالة السياقية المنمطة طالما التخييل فاعل مؤثر في إنتاج دلالة القصيدة.
فابتداء من عنوان الديوان باعتباره قصيدة استهلالية مكتنزة: جنح الشاعر إلى انزياح دغدغت صورته السمعية وجدانَ المتلقي استعاريا لأن العنوان نص موازٍ خليق بتسليم المتلقي مفتاح احتواء ما توزعه القصائد من صور، وقمين بأن يجعل المتلقي ينفعل ويتفاعل مع ما يحقق الدهشة الأولى إبّان مباشرةٍ نصية لأفق التخييل في القصيدة الشعرية.
وعليه فاستعارية العنوان استندت إلى التشيئ، فحلالة شيئ مجرد بصري، والغيوانية شيء محسوس سمعي، إذ أحدث الإسناد حربائية المعنى بين الكائن التشييئي والممكن التخييلي الذي ينعطف على تلقيات حيرى لا تلفي مستقرها إلا في اضطراب آتٍ من حقل بصري وآخر سمعي، حيث تتلاطم الرؤيات مبأَّرة ومنبئة عن توزع في التركيز على ما يراد وما لا يراد.
فإذا كانت الغيوانية إوالية سمعية فإنها تنسَج بها لحمة الكتابة. وإذا كانت الحروف تجسيدا لنزيف القلم، فللسمع قلم ناتئ متجلٍّ في تشكيل معاناة حلالة ووخزها بالاقتلاع، وكأن الشاعر يقرر أن الكتابة معاناة، هذا ما جعله يسم إحدى قصائده بعنوان (عييت) إحالة على معاناة الشاعر ومؤثثاته الزجلية وباعتبارها نزيفا للقلم، يقول:
هزيت ايامي على كتافي
وجريت
كلت نسبق زماني
ونسالي بكري
راني عييت
و قد انسحبت استعاريات الشاعر على متن ديوانه، ولعل المقام الزمني أضيق من إحصائها، لذلك نصطفي منها اقتضابا قوله عن القصيدة:
هزيت لقوافي على كتافي
حطيتهم وقيد لعوافي
كبيت المعنى كاز
وشعلت لقصيدة
لقد استدعى الشاعر في هذا المقطع استعارات تصريحية خيلت العلاقة بين القصيدة والذات، فصرح بالمشبه وهي القوافي وكنى عن المشبه به و و العوافي، وأبرز ما يحيل عليه وهو الاكتواء بنار الكتابة، كما صرح بالمستعار له وهو قوله: حطيت وكنى عن المستعار وهو قوله: شعلت.
والأمثلة محاكاةً لهذا أكثر من أن تحصى في الديوان.
وبالجملة اختلجت هذه القراءة جوابا عن عدة أسئلة انفرجت عن سياحة قرائية لديوان (غيوانية حلالة) حاورت لغة الذات والحدث، توصيلا وتشكيلا، منزاحيْن عن المعيار المشترك بين الكائن اللغوي والكائن الإنساني ما حقق دهشة بلاغية اخترقت سجف حساسية الوجود إلى شفافية التواجد.


الكاتب : د. أنس أمين

  

بتاريخ : 10/11/2020