«بلاغة اللغة الدارجة وآفاق التأويل» للناقد المصطفى بن سلطانة.. عبور مائز في ما بين المعنى القائم والمعنى المحتمل

 

يعتبر مؤلف «بلاغة اللغة الدارجة وآفاق التأويل» قراءة نقدية اجترحها الباحث والناقد المصطفى بن سلطانة في منحى عام يتعلق بأهمية إعادة النظر وتجديد السؤال حول الذاكرة الثقافية الوطنية المغربية، بما هي بعد تَتقوَّم به الهوية الحضارية للجماعة البشرية في وحدتها المتكثرة بين باقي الأمم على كثرتها الموحدة كونيا. ثم في منحى خاص، ذاك الذي ربطه المصطفى بن سلطانة بأن ثمة قدرا ساقه إلى فكرة صون ذاكرة فنية آيلة للانقراض المادي والانمحاء التداولي، ويقصد بذلك المنجز الغنائي الذي يجسد تمثلات نساء رودانة في شكل نسيج مُدوْزن بلغة دارجة شفوية، يتداخل فيه المقدس الديني والأسطوري والوجداني مرآة لسيرورة تاريخية لمعيش محدد في مكان بعينه من لدن وعلى خصر ذوات بعينها هو «رودانة حين غنت النسوة « . هذا السفر الذي أراده بن سلطانة في تراث جادت به ‘ كريحة ‘ أي قريحة نسوة رودانة هو استقراء لعلاقة الدال بالمدلول العاميين بغرض مد جسور فهمٍ آخر في سماء تأويل ينطلق خلف آثار الدلالات الممكنة داخل اللغة في زمن المتون نفسها، لا لتوصيفها وفك شفراتها وحسب؛ ولكن لصناعة خلفيات جمالية وقواعد توليدية تؤسس لرؤية قرائية مختلفة ومائزة بعيدة جدا عن القراءات النمطية المألوفة التي تتخذ من التراث الشفوي تيمتها .
لم أستغرب هذا التحويل؛ أو لنقل تغيير زاوية النظر، لأنني لمحت على غلاف الكتاب من الداخل إشارة تفيد بأن الكاتب المصطفى بن سلطانة باحث مهتم وناقد شغوف بالفنون المشهدية ، بالفن في منحاه الجمالي البصري، بالفيلم الوثائقي؛ فاجتراح الخلفيات إذن وتغيير زوايا النظر للعبور إلى الجمالي في عمقه لا في ظلاله، أضحى حرفته.
لعل موضوع الكتاب قد أصبح بينا؛ إنه رصد علاقة الدال والمدلول العاميين، ونقل ما تم رصده من الشفوي إلى المكتوب-المدوَّن في اتجاه تأويل يستهدف من ورائه الرائي بعدسة النقد لا التقديس كشف حقيقة الوجود التاريخي بكل مستوياته وبالتحديد، ذاك الوجود الذي غنته نسوة رودانة والذي تتجذر روحه في صلب الكينونة السوسية (منطقة سوس في الجنوب المغربي) ..
إن رصد خبايا هذا السمت التعبيري لا يخلو من صعوبات، أكثرها وطأة حد القلق وربما الردة عن إتمام العمل، هو أن الباحث سيجد نفسه بصدد «تراث مُتخلى عنه ومتروك لمصيره المجهول تداوليا «كما يخبرنا بن سلطانة في الصفحة(42) من الكتاب . بالإضافة إلى ذلك، نجد أن اللواتي نظمن وغنّين منهن من صارت إلى عدم، ومنهن من اعتزلن وأخريات منهن صرن كما السمت عينه إلى مصير مجهول . لكل هذه الصعوبات وتلك التي تنفثها اللغة جراء امتداد واتساع أفق تداولها، تأتي بين ما يسطُرُه بن سلطانة إشارته؛ بل تحذيره بأن من يقترب من هذا المتن الفني لن يبلغ فيه الأنس أو الإمتاع المطرز بعبق قريحة المسكونات المهووسات القابضات على خصر الكينونة المشتركة في تعدد صيغها بالفعل وبالقوة ما لم يكن عاشقا، فقط وفقط لأن مَنْ ختَمَتْه إيقاعا وتوقيعا، هي سليلة رودانة العصية .
إن إعادة طرح سؤال المتن، دلالة المكان وشعرية الذات ثم سبر غور البعد الجمالي الفني في القصيدة/ «الغُناية» هو ما تبتغيه هذه الرؤية النقدية ضدا على الدراسات التي لا تتجاوز حدود النبش في الجانب التاريخي، بما هو سياق مؤطر لفعل النظم وحسب. وهنا يورد بن سلطانة كمثال في العيطة ذاك الربط بين القايد عيسى بن عمر والشيخة خربوشة، وهذا ما يسحب عن هذا التراث خصائص هويته الأدبية . من هنا جاء اهتمام بن سلطانة باللغة، فخص لها قولا مفصلا تحت عنوان «بلاغة الوصف في الغناء النسائي الروداني « عبر تيمة التشبيه .. ويقين بن سلطانة هو من صلب حدس الجرجاني الذي به أبصر أن «فقرنا إلى التأمل يكون أشد كلما كان فعل الوصف أوْغَل في التفصيل…» ففي الصفحة (45) يمتعنا بأغصان شعرية – كما يسميها- بليغة في التدقيق والتقعير، حينما تتجاوز حدي التشبيه في صورته المألوفة إلى تعددية يغدو بها التأويل أغصانا قطوفها دانية، إذ يصير التشبيه في الوضع والهيئة؛ بل والحركة باعتبارها هي ما به يُشدُّ نظرنا للمشبه به، فنقرأ :
خدها تكولي وردة
سايْحة ديما فوك لْما
ف جْنان الباشا
هي تابْعة غير لْحاكمْ
أما بخصوص لغة وأسلوب المؤلَّف، فتلكم تستدعي نبشا خاصا بمعاول حفريات شديدة الدقة والحذر. لقد وجدت نفسي أمام كتابة رصينة ومُربكة تصادر للقارئ حقه في أن يأخذ نفسه أثناء القراءة؛ لأن بنية الجملة طويلة جدا، والكلمات فيها منتقاة بدقة جعلها بن سلطانة تحضر ببعدين دلاليين في تساوق واضح؛ إذ يتجذران تارة في منحى أدبي صرف، وتارة في منحى فلسفي تجريدي محض. هذا الأمر يحيل على طبيعة ذلك الإبيستمي الذي ينهل منه الكاتب الناقد المصطفى بن سلطانة . فهذه الموسوعية مقلقة بالمعنى الذي يُتعب القارئَ وهو يحاول جاهدا القبض على المعاني في ما يقرأه . هذا القلق هو عينه ما أربك بن سلطانة وجعله يقر بأن كتابة في هذا الشأن لا تخلو من صعوبات؛ فالقلق يتعمق كلما جاءت اللغة لتوصيف أو تعيين موضوع القول في منطوق «الغنَّاية» بالدارجة في صيغة شكلت، في اعتقادي، العمود الفقري للغناية /القصيدة، ألا وهي صيغة التشبيه.
هذا القلق لا يتمخض إلا عن قراءة يكون المطلب وراءها هو شغف لا يبلغ كنهه إلا عاشق الكلمة في جميع صيغ توليف المعاني بها . وكيف لا يتعمق هذا القلق إذ يثوي وراء هذه الدراسة النقدية «بلاغة اللغة الدارجة وآفاق التأويل» شغف وولع بالكلمة مُدوْزنة على إيقاع سجية نساء بات الحكي والحديث فيهن نظما هو هو لسان حالهن.. فالتشبيه يحضر في «الغناية» على علة اقتران خاص واستثنائي جعل بن سلطانة يعترف مرة أخرى بأنه وجد نفسه أمام إعادة طرح سؤال قلق اللغة داخل اللغة كما يسميه الفيلسوف جاك دريدا في كتاباته التفكيكية.
هي اللغة -هنا- الآمرة من عمق احترافية يمتثل فيها السلوك النظمي لضغط الإحساس الوجودي، فتأتي صهوة طيعة لبيان متمرد على المعايير البلاغية والمسكوكات الاستقرائية. لقد تجرأ التشبيه وأطلق للدلالة العنان في علة التركيب بين الهيئة والوجه وعلة الاقتران شرطا بموجبه يصبح الغصن الواحد في «الغناية» مدى مفتوحا لإمكانيات متعددة من التأويل. على سبيل المثال ما نقرأه مع بن سلطانة في ما تنشده الرودانية لتوصيف جمال العروس (وهو هنا أصل التشبيه) :
طاحْ السَّرْ عْليك كِيفْ طاحْ الباشا ع لْحكام
طاحْ الَّسرْ عْليك كيفْ طاحْ القاضي ع لْكتوب
طاحْ السَّرْ عليك كيفْ طاحْ جَّليجْ ع الرّْخام
هكذا تلوح آفاق التأويل شاسعة وقريبة، فكلمة «السَّرْ» لوحدها يبين بن سلطانة أنها استعملت كناية وتوصيفا لسمو واستثنائية جمال العروس؛ غير أنها تصنع استثنائيتها مما تحيل عليه من دلالات الجلال في رحبة الصوفيين ودير القديسين، في ارتباط جذري بما هو نوراني (الغصن الأول)، ودلالات العلم والمعرفة عبر تجليات الوجاهة، الينبوع، الكشف، الاجتهاد والحكمة (الغصن الثاني)، ثم دلالات الحس المرهف الذي به تُلمَّع الذاكرة البصرية علامة على الذوق، الجمال، الفن والحذق (الغصن الثالث) .
بنفس هذه الجرأة، تجرأ الناقد المصطفى بن سلطانة على فعل التأويل وسار به إلى أقصى أمدائه حدادا ماهرا لا مجربا مبتدئا، ويظهر ذلك في فصل من فصول مؤلفه تحت عنوان «حين يناور الجزء الممحوق، فنيا «، حيث لم يناور البتة؛ بل بلغة واضحة غير متمنعة ولا مترددة أضاء للقارئ سراديب المعيش اليومي المشترك الذي نهلت منه نساء رودانة ما به تغَنَّيْن بجمالهن وما به قلن الكينونة في صيغة التأنيث الحمالة لسادية وقهر وجبروت ذكورة، حين طفح بهن الكيل منها شَدَدْن بها الخصر ورقصن على إيقاعاتها فكتبن صفحة/وثيقة تاريخية؛ هي هذه التي سجل لهن بن سلطانة صكَّ ملكيتها بختم «رودانة حين غنت النسوة » ..


الكاتب : فاطمة حلمي

  

بتاريخ : 09/11/2020