بمناسبة مرور 50 عاما على صدور «العنف في الدماغ» وصدور الطبعة الجديدة : صنعة التجريب ومسار كتابة

هذه هي المرة الأولى التي أجدني فيها مَسوقاً للحديث عن مجموعتي القصصية الأولى، بكيفية منهجية وموضوعية، بمناسبة مرور خمسين عاما على صدورها. وأول ما أحتاج إلى تسجيله، أن القول عندي، هنا، يصبَح مثار شجون ومدعاةً لتأمل قبْليِّ وبعديّ في آن، يخُصّان الحياة والكتابة وارتباطَهما بأوضاع فردية وجمعية. بمعنى، أنني مطالب بأن أفتح كتاب حياة بدأت بشكل معلن ومرسّم مع صدور «العنف في الدفاع» (الدار البيضاء، منشورات الأطلنط 1971). كتبت قبل هذا التاريخ نصوصا متفرقة تراوحت بين التعليق والخاطرة، نُشرت جلها في جريدة» العلم»، وارتسمت فيها بعض سمات ونزوع ما سأكتبه مستقبلا، يمكن اعتبارها أقرب إلى ما يسمى «بروفة»، وخطاطة بحث عن نص تصورت أنه غير مكتوب بعد، يواجه نصا أدبيا لم يقنعني، بين شعر ونثر، وطفقت منذئذ أغامر بحثاً عنه وتجسيداً، تدريجياً، لعله الذي أثمر كتابي الأول، جاء على غير طراز واستقبل كذلك، لذلك أحدث في ما بعد تأثيراً لم أتوقعه له في البداية، ولا يختلف حوله اثنان، من زمرة أهل الأدب، طبعا.
أحسب أن سياق ومحيط وضع هذا العمل مهمّان لإدراك قيمته، بالنسبة لصاحبه، وللفترة التي صدر فيها، وكذلك لنوعية تلقيه، والمقام الذي تنزّل فيه ضمن المشروع الكلّي للسرد في الأدب المغربي الحديث. لقد انتميت بعد تخرجي من كلية الآداب، والتحاقي بالتعليم، وبداية حَبْوي في إنشاء الأدب، أنا ابن الدار البيضاء، إلى مجموعة» أنفاس»(Souffles) الأدبية، والتشكيلية، كان من أبرز القائمين على تجربتها الشاعران عبد اللطيف اللعبي، ومصطفى النيسابوري، والرسامان الراحلان محمد المليحي ومحمد شبعة. وقد عرفت هذه المجموعة، في مرحلتها الأولى (لأنها انتقلت إلى مرحلة ثانية بنهج إيديولوجي ـ سياسي، لم أحضرها ولا أغلب المؤسسين والعاملين) بمجلتها الحاملة للإسم نفسه، وكذلك بنشاطها الثقافي الذي كانت تمارسه بتنسيق مع (جمعية البحث الثقافي)، كان الأديب وعالم الاجتماع عبد الكبير الخطيبي من مسؤوليها، وبصفة خاصة من خلال اللقاءات الأسبوعية المنتظمة لأعضائها، في الرباط غالبا. حضرت أغلبها من سنة 1969 إلى مغادرتي المغرب للتدريس بالجزائر(1972)، كنت العنصر المعرّب الوحيد تقريبا (إلى جانب الفنان شبعة) في مجموعة أنفاس، أعضاؤها عُرفوا بلسانهم الفرنسي، وثقافتهم وكتابتهم الوطنية وفي أفق فرنكفوني، امتدادهم خارج المغرب كان مُشايعاً لهذه الثقافة، وذا بعد متحرر ورؤية تقدمية للعالم الثالث. إن اختلاطي وقتا لا بأس به مع هذه الجماعة واقتناعي بتوجهاتها الفكرية والإبداعية، الموسومة بالتمرد والتجديد القصويين حملاني على الاختلاف عن التقليدي في الكتابة الأدبية ببلادنا، ودفعاني نحو أفق يتحرر من قيود النماذج الأدبية لحاضري، والأساليب المتبعة، ما وافق عندي ميلا أصليا كان لهبُه سيتأجج بلا شك، وإن نفخ هذا الانتماءُ جمره في، ولا شك. ورغم انغماري في هذا المحفل الجماعي، فقد كنت أحس بكثير من الوحدة، فالقوم من حولي لسانُهم فرنسي، وطموح تجديدهم يصبّ في النهاية في قالب وقلب الأدب الفرنسي ويغذّيه، رغم أوهام بعض من أنه (أنهم) يفجّرون الفرنسية من الداخل (كذا!)، وإن حمدت لهم، لبعضهم، تعاطفا كحبل سري جمعني وإياهم مع بعض ما كنت أكتب، وأفكر فيه، أيضا، وأحاول أن يصل إليهم في مجالسنا، وخاصة مع صديقي آنذاك مصطفى النيسابوري، ابن مدينتي، وخلّي الدائم.
كانت الوضعية المالية للمجموعة هشة حقا، وتصدر مجلتهاSouffles بشق الأنفس، أما الإصدارات الشخصية فنادرة حقا، ولذلك، وعندما أسّس الرسام محمد شبعة «منشورات أطلنط» لهذا الغرض وبروح (الأنفاسيين)، وعرض عليّ نشر كتاب، فالرجل فتح أمامي باب أمل وفرصة أولى أن أصبح كاتبا بقوة الأشياء، بالطباعة لا بالنية أو الاحتمال، خاصة جاء العرض من تشكيلي عالي الكعب وأستاذ في مدرسة الفنون الجميلة، يزينه أيضا أنه مثقف عربي تفكيرا وقومية ولغة، قطب رحى المجموعة، فشعرت أن»هذياني» وقع في عينه، هو الطنجاوي العربي الأصيل، ومن ورائه اقتناع الجميع بما اعتبروه موهبة ناشئة، و»بضاعة» يمكن أن يراهنوا عليها في مضمار تمثيل تصور أدب طلائعي، متمرد على القوالب، وفيّاضٍ لغةً، ومتدفقٍ تعبيراً، ومجنِّح خيالاً، ومتلافٍ هادر إحساساً ومعنى، قوامُه ذاتٌ صارخة متقلبة بين وِزر الماضي وعبء التركة الاستعمارية، وطموح انتزاع إرادة حرة، في مجتمع متحرر من الاستبداد والاستغلال الرأسمالي والقهر بأنواعه، بعد نيل الاستقلال الأول مما كان يمثل برنامج المعذبين في الأرض(فرانز فانون) والإيديولوجية الماركسية بتياراتها، في مواجهة السياسة الوطنية المحافظة. هذا بعض تقويم المرحلة لنص غرد تماما خارج سربه.
قلت «هذياني»، أشير به، عدا محاولات أولى، إلى ما كنت شرعت أكتبه ولا أنشره، لنُدرة منابر وفرص النشر، أولا، ولقلقي من نوعه، كيف أعبر فيه، وما أبحث عنه، وخاصة الشكل المتفجر الذي احتواه لو حوى فعلا، ثانيا. لقد تعلمت في كلية فتية للآداب، كلاسيكية التدريس وتراثية المواد مضمونا ومنهجية، صلتُها بالأدب الحديث واهنة، بالأحرى مبتدئة. وما نلته وبعض أقراني زاداً من هذه الناحية اكتسبناه وحدنا، ُمسَدّدَ الهدف أو مبعثراً، غالبا. لا أعرف كما لا أذكر، كيف شُدِدت إلى فلك الأدب الحديث، شعرا وقصة ونقدا أبعد من المبنى والمعنى التقليديين، وبتّ أحلق فيه بالتدريج، إلى أن أضحى مقامي وإليه مآلي، وإن كنت سأبقى مدينا لمرحلة التعلم، هاته، فهي من حيث زوّدتني بثقافة عربية لغوية بلاغية وجامعة، هي عُدّة لا غنى عنها لكل حامل قلم أدبي، طموحه أن يمتلك أسلوبا متميزا، لا أن يكتب مقلدا إمّعة. تعلمت وأدركت كذلك أن بلوغ الحديث بتجديد خلاق لا تزويق يتطلب الاستناد إلى قديم مؤسس وتراث أصيل، وعليهما المعول. ولم أحِد عن مبتغاي بعد تخرّجي، قُلْ مضيت فيه بلا هوادة، مندفعا بجموح الشباب الأول، ورغبة جامحة تعوي في داخلي لأتهجّى الحياة، وأتجدد تعليما وتثقيفا بكل ما هو جديد وذو اتصال مكين بهموم الواقع، وحاجات التغيير الصارخة في بلادنا آنذاك، في تلك المرحلة الحرجة التي تلتها كل سنوات القمع والرصاص. ومن غير أن أضطر للانتماء مباشرة إلى تنظيم سياسي تقدمي (اسم الماضي) وأنا فيه ضمنا، كما كنت في التنظيم الطلابي بدون مطمح لزعامة، وجدتني في قلب معمعة المجتمع والقول، معا، لا سيما أعيش في الدار البيضاء، معقل العمل السياسي والنقابي، ومحفل الحياة بمباهجها وعنفها، تفتَح في وجهي طرقا لم أعرفها، تشحذ إحساسي وتهيّج مشاعر كامنة، من زمن التعلم في مدينة فاس عديد سنين، على وجه البراءة ومحمل الفطرة والرومانسية، وفي نفسي تضطرم مشاعر غامضة، بقيت أُهدْهدُها إلى أن خرجت بالرغم مني، في الشكل الذي ارتأت، كأني لست صاحبها، ولا يَراعي خط كلماتِها. أظن، هكذا وُلِدَت على الأغلب كتابة المحدثين من أبناء جيلي، إذ اخترقت جلد التقليد، وقشرة التعلم الأول للأجناس الأدبية العصرية، ومضت تتنفس بصعوبة هواءً تستنشقه من نتاج مقروء حديث مبعثر، أو من رَجع صدى حول الأفكار والمفاهيم المجددة في الحقل الأدبي، بالأحرى في وسط الصحافة الثقافية، أو بعض النقاشات والمساجلات، هنا حيث غلبة الإيديولوجي على الإبداعي، والنظري يتفوق على النصي.
وبالطبع، لا كاتب يولد من عدم، خلافا للنزعة» لقيطية هُجنوية Batardisme تدعيها أقلامٌ هذه الأيام، ممن يتنطعون أو بحماس مسرف أنهم «جيل بلا آباء!» علما بأنها نعرة سُمعت في أزمنة سابقة، لا جديد فيها وما لبثت أن استوت في أعمال منسقة كتابة ومعنى وأفق إبداع، أي لم تبق لقيطة شتاتا بلا نظام وإيقاع، أو أمشاج كلمات لا هي شعرٌ ولا إلى النثر تنتمي بسبب. قد يستغرب قولي هذا من عرفوا كيف تهجيّ الأدبي، الموسوم بالتمرد وخرق القالب، هو صحيح، لكن الأصح أنه تهجٍّ له ما سبقه، أعني تعلم المتن والدرس الأدبي الكلاسيكي، والاطلاع بانتظام، ودائما على تجارب الرواد والراسخين، والاستفادة منها حيث ينبغي. ولقد تهيأ لي بين فاس والدار البيضاء، والرباط، أيضا، أن أعاشر كتابا وشعراء وصحفيين مغاربة نابهين، قبل أن تخفّ رجلي إلى المشرق العربي، وأختلط في المؤتمرات والمنتديات برهط كبير منهم وأحاديثهم. دنوت منهم، فوجدت من احتضنني بصدر رحب، ومن جاملني أو أشفق عليّ كيف أخوض دربا وعراً يريد أن يبقى حكرا عليه، ومن أخذ بيدي متوسِّما فيّ موهبة، ولا أخفي من جرّب معي ومع غيري أن يتأستذ ويستأسد، ويدخلني كالشاة في قطيع ما انفك يرعاه، فيما كنت وضعت نصب عيني رفض وضع الشاة والقطيع، معاً، وإن اقتضى الأمر التغريد خارج السرب طرّاً، مُطلِقا العنان لغناء لكَم بدا طويلا نشازاً، ووقتا على غير نسَق، وتارةً، باعثاً على الريبة، إذ كيف يجرؤ مُنشدُه الخروج على العزف العام، بلحن الواقعية المحاكية والتعليمية والبلاغة الرسالية، بالتزام حرفي أو نقدية أو حتى إيحائية، كما هي الأنساق القولية المتداولة منذ الستينات وعلى امتداد السبعينات قبل أن تستجد أساليب متغيّرة في القصة القصيرة والرواية، بصفة خاصة، إلى جانب الديوان الشعري، طبعا، تزيد، أولا، ترسيخها في أدبنا الحديث الذي يستمر عندي في طور التأسيس، ثم تأهيلاً وتجديداً باكتساب خصائص الفن قبل المعتقد، والهجْس بإحساس الذات دون أن تغمرها الجماعة.

إنني أذهب إلى اختصار، بل اختزال كثير مما رسم ملامح مرحلة ثقافية أدبية، ومجتمعية، أيضا؛ أذهب ربما إلى إصدار أحكام، من غير أن أسهب في وضع مقدماتها، الموجودة في مضانها، مما درستُه وشرحتُه في أبحاث جامعية ونقدية، وفَعَل غيري كذلك من مقاربات متنوعة. والحق، لم أجد بُدّاً من تعيين هذه المقدمات، والإشارات كجزء من الظروف العامة، المسماة موضوعية، تحيط ب»نزول» العمل الأدبي، وهذا من غير أن يظهر أني أقدم على نحو مضخم ولا مستهول لمجموعتي القصصية، كتابي الأول:» العنف في الدماغ». وما كنت لأفعل لولا انصرام هذا الزمن المديد على صدورها، ولظهورها في زمن منعطف من كل النواحي، ستدشن هي فيه، بشهادة النقاد والدارسين، كما ذكرت، مرحلة كتابة سردية مجددة تماما، تجريبية. ولأننا، وهو ما يشهد به التراكم النصي النسبي،على أي حال، قطعنا شوطا لا بأس به، سواء في بناء صرح أدبنا الحديث، بلغاته، وكذلك، وهو هام، أنشأناه، كما يتميز في نصوص ونماذج معتبرة سوّيت في هيئة منسّقة من ناحية الاجتهاد في وضع أدوات الصناعة الفنية والتعبيرية، والامتلاء في تصوراته ورؤاه ومعانيه ودلالاته الكبرى، مما يليق بأدب يختزن ويعبر عن وجدان وشواغل الإنسان في زمنه الخاص وقلب الزمان، وكله في نطاق تصور يجعل من الخطاب الأدبي مركزيا وبناء أدبيته مبتغى للكتابة إلى جانب شاغله.
أعي الآن أن اهتمامي بأولوية العملية الأدبية، بالانتصار لها في مواجهة التسخير الإلزامي والرسالي وحده للأدب جاء مبكرا، ربما سابقا لأوانه، أي بالتأكيد قبل تبلور الاتجاه الشكلاني في دراسة النصوص وتحليلها الذي سيأخذ حيزا لا بأس به ابتداء من عقد الثمانينات في عمل الدارسين بالجامعة المغربية تتلمذاً وتأثراً باللسانيين والسيميائيين الفرنسيين. لا غرابة، فالنصوص هي أرضية عمل واجتهاد النظريات وتسوّغ عملَ المناهج ومنها تُبنى ومفاهيمها، وإن كان عليّ أن أوبّخ هذا النقد الذي لم يلتفت إلى نصوصنا ويعالجها من المنظور الأدبي البحت إلا بعد شفاعة النقد الغربي الجديد، المتشبع هو بنصوص أدبه الخاصة، الأمّ.
أحب أن أضيف لهذه الملاحظات، في نطاق الشكل دائما، إحساساً بالمفارقة ألحّ عليّ طويلا وأنا في بداية مغامرتي القولية، أُرجِعُه إلى المزاج الفردي، وأَصِلُه بمفهومٍ للكتابة منزاحٍ عن ما ساد في محيطي، وما زال ، رغم أني من ناحية المبادئ والثقافة السياسية مؤمن كليا بدور الأدب في التوعية والدفاع عن قيم التحرر والعدالة والتقدم، مسلمات…مفارقة تتجلى في كوني لا أكتب على هدْيها، قد ذهبتُ بكتابتي منذ نصوص المجموعة الأولى نحو آفاق مغرقة في التجريد والتجريب الشكلي الذي لا يسمح لها بالظهور الجلي، ولا للخطاب المبثوث بالتبليغ بأيسر الوسائل، وعلوّ نبرته فوق غيرها، نظير ما نعرفه في القصص والروايات الواقعية بأنواعها. في هذا كنت مختلفا تماما عن محيطي الأدبي، شبه منقطع الصلة عنه، بينما أنا منه وفيه، بما جعل كتابتي غريبة داخله، لا مألوفة، وغير مرحب بها وحتى منبوذة، لأنها ليست ُمكتوبة على منوال، مسخّرة سلفا ل»الخدمة»، ولا صاحبها، على الرغم من التزامي «النضالي» في الحياة السياسية، التي أحببت دائما أن لا تتحكم في شجوني وانشغالي الحميمي، أرى الكتابة في قلب هذا الانشغال، هي والحياة كذلك، كما كان يحب خورخي سمبرن، لكل منهما موقعه، حتى وهما يتبادلان التأثير، يتقاطعان ويعودان ينفصلان، وهكذا.
لم يكن بوسعي، ولا همّي في سنة1971 والسنوات الموالية مباشرة تعميق الإحساس بالمفارقة، ولا القيام بتفكيكها، ومن ثم شرحها كما يفعل الدعاة ورجال السياسة الذين كانوا في زماننا، ونحن الأدباء الجدد والقدامى، مجددين وتقليديين، إلى جوارهم أو في ركابهم، يستخدمون مفردات رنانة، وعبارات شعارية (= طنانة)؛ لم يكونوا دائما بحاجة إلى شرحها أو الإقناع بها، إذ لا مجال في منهجيتهم للإقناع. فكرت بأن الطريقة المُثلى أمام الكاتب، وقد صار همي بالتدريج أن أصبح كاتبا، أن يبثّ أفكاره، ويدعو لاقتناعاته، ويثبّت مفهومَه للعملية الإبداعية في الكتابة لا خارجها، أي بالتمرّس مثابراً، خاصة في وسط أدبي ثقافي متخشب، مناوئ للتجديد، ويا للمفارقة، يعيش في ظل مناخ سياسي»تقدمي» نضالي، مُعادٍ للاستبداد، للحكم المطلق، شعار تقدميي ذاك الزمان. لقد كان الارتياب من النص الجديد حادّاً، بل ما يزال ـ فنحن لم نكسب معركة التحديث بعد، رغم القعقعة اللفظية، ولن نكسبها إلا حين نعيش الحداثة كمنظومة شمولية لا مُجزّأة، وانتقائية ـ وتلقّيه نقديا وعامة لم يكن سهلا، ولو أسلمت سمعي للنعيب والتسفيه، وماكِر الكلام، لما كتبت سطرا واحدا بعد «العنف في الدماغ»، لكنه عنف كان في دمي، يجري دفّاقا في شراييني، بين عيشي وقراءاتي وإحساسي الهادر، ولغة تنبض في قلبي وتتفجر من حبري تنثال حُمَما، ورؤى، صورا محمومة، وأخيلة كاسحة، وخرائط للبشر والأمكنة مزلزلة، نسغُها في وقتها المغربي المعلوم، فيما تنهل من تعدد الأزمنة والمخيالات والأخيلة، تفجر توافق الكلام، ولا تقبل أبدا تآلف المعنى ولا ثبات الأشكال، تُوافِقُها الضديةُ، تشجب بعُواء كل هدنة أو اتصال، من أجل مزيد انفصال، بحثاً عن ما لا يستطيع أحد، الكاتب، أولا، أن يصل إليه، وإلا توقف، ولذلك كتبت بعد ذلك» سِفر الإنشاء والتدمير» وما زال هذا ديدني، وإن تغير عندي اليوم الطرزُ والنسقُ والنظام.
لقد شرعت في كتابة»العنف في الدماغ» وأنا في سن العشرين ونيف، أمشي في الموكب الجنائزي لهزيمة السابع من حزيران 1967، وبعدها كنت أتقدم بخطى حائرة ووثابة نحو مستقبل مجهول، لم يكن يقدم فيه الحاضر الغارق في زمن الاستبداد وانسداد الآفاق أي أمل للمستقبل، ولذا لم يبق إلا مجال النفس وتوتراتها لحراك الأحلام المجهضة، مجال الصدور المضطرمة بالرغبات والأشواق. ففاض ضِرام النفس وهشيمَها صفحاتٍ بيضاءَ تشتعل بالحرائق، وتختنق بالأدخنة، صرت أكتب ما تيسّر مما اعتبرت أنه تبقّى من حطام ذاكرتي، ولم ينطفئ من لهب مشاعري، ما ضاقت به النفسُ حتى اشتكى له الجسد، وصحّ أن نسميه تنفيساً عن المواجد، وهو أول تعريف يمكن أن يُعطى لأي تعبير، قبل أن يندرج في خط الفن ويتخذ ما يلزم من مياسمه.
لم يكن لي نظام في كتابة ما اجتمع في الكتاب، ولا خطة محكمة، وإنما إحساس قبْلي بحالة، شيء ما يبرق، لحظة، صورة تعبر، جن، خطف عبقر، من بين واحدة وآحاد، وهي سديم ينبثق، بل يتفجر حَمّةً أولى، ما يتتابع حُمَما، لا أقول انفعالا، وإنما هجْساً بخاطر، واحتقاناً بغضب، يبحث له عن كلماته الأولى، كمطلع سمفونية، يأخذ لحنها في النمو والتصاعد تدريجيا، ثم تنصرف معزوفة في تصريف اللحن على نحو التنويع والتدوير والاستعادة، وهكذا إلى نبرات التصعيد، الكرشندو الختامي. تبدو لي هذه المقارنة ممكنةً لأن أتوخّى من الكلمات التي أستخدم أن توافق نبراً، وتُمَوْسق حالة، تدور في رأسي، وأحيانا على لساني، مرات في نوع من المِران، شأنها شأن ما أودّ أن أصنع بها، وخطة الحكي ومحكيّه، فلا تبقى إلا لحظةُ الكتابة، حين تخرج من رحمها، والحق، لا أحد يستطيع التنبؤ بجنس ولا طبيعة المولود، هنا مجال المفاجأة وانبثاق الصور، وقد تعلمت أن صياغة الأسلوب عند الكاتب مهما تطلبت الدُّربةَ والمهارة، هما السليقة المدرّبة، فإنها تنبجس من مادته، وهي وموهبتُه وخيالُه وطاقتُه الشعورية، تنشئه في كل مرة شكلا مختلفا، تتحول مع المواظبة وطول أمَد الكتابة إلى شكل مخصوص، هو أسلوب الكاتب، به إما يكون أو لا يكون. الحق أني، وبدون التوفر على النضج الأدبي الكافي في مرحلة النشأة المتقلبة، المتعثرة، كنت منتبهاً إلى أهمية هذه الحاجة، وهو ما زادني اختلافا عن سبق إصرار، وجعل نصوصي تظهر شاذة بدون قياس، تقريباً، يصعب تجنيسُها حتما بقواعدها، وكلما اقتربت بها من معايير الأجناس بحدودها المرعية نفرتْ شاردةً، أو متمرّدة، شأنَ صاحبها نفسه، وهو يعيش في مناخ اجتماعي وسياسي، يميل إلى الضبط والانضباط والنضال المسؤول (كذا)،لا يلبث يهيم في كل واد، ولا يأخذ الحياة على نحو جاد كما يراد منه، وأي حياة!

من علامات هذا الشرود والشذوذ، ربما، هو أن قصص المجموعة كُتبت جلُّها في فضاء عام، المقاهي من ضمنه. وفي خضم الصخب، لغط البشر والموسيقى، وضجيج السيارات العابرة. الشخص الجالس في طاولة له شبه معتادة، يعرفه النادل، ولمعلم، وبعض الزبائن، غير معنيٍّ بهم جميعا، يحتسي القهوة تلو القهوة، والسيجارة ينفخ تلي أختها، لا يكاد يسمع ما يدور حوله، لا نبالغ إن قلنا إنه لا يرى، إذ هو مستغرقٌ في جو كتابته، وعوالمها المختلفة، مأخوذٌ إلى صوره وشخصياته، مشدودٌ إلى حكايته، موصولٌ بكلماته ينسجها وتنسجُه، وهي تجدِل نصَّه، لا يكاد يغادره إلا عند اكتماله، وإذذاك يعود إلى طقس الواقع اليومي، كمن كان خاضعا لتنويم مغناطيسي، أو في غيبوبة وها هو يفيق، فيلتفت لمن حوله، مستمعاً أو مشاركاً في اللغو المعتاد! وإني لأعجب اليوم كثيراً حين ألتفت إلى الماضي متسائلا كيف عنّت لي تلك الكتابة في ظل ما وصفت، أنا الذي أصبح لا يطيق نأمة ولا همسة حوله كلما جلس قبالة حاسوبه ليرقن ما تيسر، ولا يتحمل وجود شخص إلى جانبه، لا موسيقى ولا ظل، لا زوجة ولا أطفال، ورنين الهاتف وخزٌ في أذنه. وكذلك لا أتذكر كيف كانت حواسي كلُّها متشنجة، وروحي جهنمية، وأوقاتي خليط ليل ونهار، ضوؤها أو ظلمتُها من نور أو دُجنة الكلمات، ومخلوقاتُها غالبٌ عليها صورُ الخيال، وسيناريوهات التخيل، وصاحِبُ هذا كله ذو جموح بلا حدود، حتى أن خلِاّنه ورفاقَ دربه الخلّص لقّبوه ذات وقت ب «الفتنة» وجاء في القرآن الكريم أن «الفتنة أشد من القتل»! لقد كان حقا عنفاً في الدماغ، بصوت جهْوري وحتى بشعارات ضاجة صاحبَته، يمكن اعتبارها إيديولوجيتُه، هي جزء مما آمنت به جماعة» أنفاس» واقتناع فئة جديدة من الأدباء، وهم فئة أقل من النادر على كل حال، كتاباً وشعراءَ، كانت وقتئذ تندد بالرجعية وتناهض البورجوازية، بإطلاق، وتنحَى باللائمة على البورجوازية الصغيرة لتقاعسها وهي منها طبقيا، بنوع من الخطاب التعميمي الاحتجاجي والقدحي موجه لثقافة البورجوازية والحركة الوطنية التاريخية، والحكم القائم، بالدرجة الأولى، مشبع على الأقل شعاريا بمقولات ثقافة ماركسية أو متمركسة، قبل أن تتحول هذه إلى فصيل تنظيمي وإيديولوجي حيوي بين طلبة الجامعة المغربية وتنزَع نحو التجذر. وإني، اعتباراً للأهمية التي أوليتها لفعل الكتابة، وتحت تأثير المناخ الذي ترعرعت فيه اجتماعيا وطلابيا، في مدينة الدار البيضاء على الخصوص ، وجدت من الضروري أن أمهد لمجموعتي بمدخل اعتبرته بمثابة بيان للكتابة، أو هكذا صنّفَه غير ناقد في ما بعد، والأول من نوعه يصدره كاتب بمفرده في المغرب، لا يضاهيه إلا المقدمة التي وضعها المرحوم الشاعر الراحل محمد الحبيب الفرقاني لديوانه :» نجوم في يدي»(1966)، ونبعت من التزامه الوطني التقدمي الصميم، في خضم المعركة السياسية لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الذي عّدّ يومئذ من أقطابه.
جاء المدخل الذي دبجتُ على وجهين:
الأول خصصته للحديث عن رسالة الكاتب، ومبادئ عامة للكتابة، نوّهت فيه أساسا ب:
1ـ الالتزام بالنسبة للكاتب في المغرب مسلّمة، وهو شرط ملازم لوجوده، في غنى عن استعارته من أي فلسفة أو مذهب أجنبي، إنه ابن بيئته.
2ـ الدعوة لكتابة تمتلك القدرة على تحريك الواقع و»زحزحة التراكمات الجليدية» للمنتشر من تزييف وتحريف.
3ـ الكتابة بوصفها شهادة تبلغ حد الاستشهاد، معاناة واحتراق بها.
3ـ «الإبداع مسؤولية، والخلق مغامرة محفوفة بالمخاطر والعثرات، لكنها دوما معطاء وفاعلة « (ص ص: 2 ـ 4).
الوجه الثاني هو الأهم عندي، سعيت فيه، بثقافة أمس واقتناعاتي الفنية خلاله، إلى رسم السمات المائزة في النصوص القصصية ل»العنف في الدماغ»، وتجعلني أعتبرها معالم لتجربة مغايرة، هي التي وسمت بالتجريبية وكانت رائدة، مؤسسة لما التحق بها وعقبها، وكانت مساوقة لحركة تجديدية رسمت خطوطها تدريجيا في خريطة السرد العربي.
في هذه الواجهة، ووعياً بالخصائص التقليدية للقصة، الغربية بالدرجة الأولى، خلافا لأي تأويل عسفي، عمدت إلى استخلاص العناصر البارزة لمحاولتي المختلفة، وتحاشيت عن تسميتها « تجربة» بما أني كنت ناشئا يبحث في مضمار فن القول الأدبي عن طريق، فيما التجربة اسم يسِم عمل الراسخين بإبداع مكرِّس، وهي عناصر لا أجد بُداً من استعادتها كما كتبتها في زمنها، ولا أرى ما يمكن أن ينوب عنها حاضرا، لأن اقتناعات اليوم شابها تغيير وتعديل كبيران، وهو طبيعي، جدير بمن ديدنه معاداة الجمود، وهذه العناصر مختصرة:
ـ زرع الاختلال في البناء القصصي وتماسكه التقليدي، دون أن يتداعى كلية.
ـ مقابل إيجاد بناء مضاد قائم على التفكيك وإعادة توليد الصور ومضاعفاتها، ثم نقضها، وهكذا إلى ما لا نهاية.
ـ العقدة، أو الفكرة القصصية هي هاجس، وإحساسٌ حاد، ثم تنحو إلى التشكّل، لترتدّ بعد ذلك إلى نبعها الأول، على نقيض الواقعية التي تذهب إلى القصد مباشرة وتقف عنده.
ـ حركة ذهاب وإياب بين الصورة والمعنى، الشعور وتجليه، وصولا إلى اندماجهما في ضرب من تبادل الأدوار، بل التماهي التام.
ـ طغيان التعبير بالصورة، وحلول المجاز محل اللغة الحافّ، المعّينة فحسب، لا للزخرفة ولكن باعتباره أداة للعبور إلى ما أبعد، نحو الغَور، والصورة هي ما يرسم الحدث، وتطوره.
ـ عالم القصص وشخصياتها تتراوح بين الواقعي والرمزي، فإن غمضا شفّا سريعا، وهكذا.
ـ لا توجد حكاية بالمعنى المألوف، ومسرودة خطيا، وكلما شرع السارد في حكي تكسّر خطه لتزدحم أمامه الصور، وتتعدد خيوط الحكي متشابكة، وكأن الوحدة المطلوبة للعمل هي شتاتُه لا انسجامُه، كما في التلقي المألوف، خاصة مع عبارة قوامُها تبعيد المعنى وتغريبه.
ـ كتابة هذيانية، أحيانا، تبدو في أكثر من موضع فالتةً من مقتضى المعقولية ومنطق الأشياء، غير خاضعة لتسلسله، لكنها منتجة بطريقة غير معهودة، الهذيان يكون أحيانا مشرَحة توضع فيها أعماقنا في لحظة اختبار ونعطي أنفسنا بكل اختيار، كما أقول في قصة «فينيس والظمأ».
ـ تتمثل خطة الكتابة في معرفة خطوط أولية لقصصي، من أول سطر أكثف اللحظة وأصنعها، ثم تمتد استطالات القصة، قد تظهر منبتّة الصلة بما يليها، لكنها رافدٌ من مَعِين التجربة، الحكاية المفترضة، وإذا ما انفجر انفعال، أو اكتسح هذيان، عاد ليهدأ ويتنسّب.
ـ اللغة القصصية المستخدمة مكثفة وموحية، تخفق بنبض الشعر، تصدم المعنى أو الانطباع الأول لقراءتها، تُحدث الشرخ في وتيرة الإدراك والتلقي، تأتي عبارات وجملا تلغي الحدود بينها، لا تخضع دائما للتنقيط.
ـ قصة تنهض إجمالا على روح وفكرة المغامرة، في اللغة، في البناء، في تكوين الرؤية وبلورتها، ودائما بمقاربة التجريب وفي مداره وبأدواته المغامرة، أي غير المألوفة، فتنتج ما ليس متوقعا، قولا، وبناءً، وتفكيكا، وتخيلا وتخييلا، وتشكيلا أو إعادة تشكيل بوتيرة مفاجئة.
حين أستعيد هذه العناصرـ الخصائص لكتابي، مجموعتي الأولى، وبعد أن أعدت قراءتها للاستئناس بأي حال كنت عليه، وقياس أين وصلت، بإصدارها، أعي كم وقفت منبهراً أمام هذه الكتابة التي لم أعد أذكر كيف أتتني وواتتني، ولا بأي أبْلَسة سكنتني، وهواجسَ وأخيلة تلاعبت بي، وظلت تكتسحني زمنا في مجموعات لاحقة إلى بدء الثمانينات، حين انتقلت إلى فرنسا، فبدأت منعطفا في كتابة القصة القصيرة والرواية، مختلفاً طريقة ومحتوى، ومواصلاً سيرة مغامرته. وما قدمته مع من غامر مثلي، هو اليوم ملك لتاريخ الأدب لن يفتئت علينا أحد أو بمقدوره أن يتعالى أو يتكاذب، أو حتى يتنطع بأنه سباق فيه بلا حق؛ تاريخ هو تراثنا جميعا، وسيبقى للأجيال أعتز شخصيا بما أسهمت به في بناء صرح أدبنا، لا أعتبره كاملا لأن المعوّل دائما على أجيال المستقبل لمزيد تطوير وتعبير، فالإبداع دائما ملكُ غده، في سياق هذا الحاضر الذي أعيدُ فيه إصدارَ هذه المجموعة في طبعة جديدة بعد أن نفدت قبل خمسين سنة، تلاها تاريخ حافل اليوم للقصة والأدب المغربي والعربي الحديث والمجدد.


الكاتب : أحمد المديني

  

بتاريخ : 29/10/2021