«بيض الرماد» للشاعر المصطفى غزلاني رواية العشق وعشق السلطة

هي رواية للشاعر المصطفى غزلاني، التشكيلي والروائي، تمتح من فضاء القرية بدوافع تشكيلية.فهو صاحب رؤية الفن الرعوي، ربما سعى من خلال هذه الرواية إلى تكسير الحدود بين الرؤية للصورة والصورة الأدبية، سواء كانت في الشعر أو الرواية نفسها، ذلك أن الصورة برأها الكثير من التشكيليين في المغرب لتخلو من أية إشارة للمشترك الجماعي، فقرا كان أو ترفا، خوفا من عالم السياسة التي تجنبوها ردحا من الزمن، لكنهم لم يعوضوا ذلك برؤية فلسفية تغنيهم عن السياسة وتدفع عنهم تهمة الخوف من الساسة، لكن المصطفى غزلاني انتصر للاثنين معا، في عالمين مختلفين شكليا لكنهما متداخلان: الصورة والصوت الشعري، فكيف نجح في ذلك؟

1 – عشق السلطة

من هنا تبدأ الحكاية.الحاج الكبير سيد القبيلة،المتعالي عليها، قانونها الذي لايعرفه غيره..حارس حدودها المفتوحة، المطلع على أسرارها دون أن يصل إلى خيامها..اكميحة هو من يصله بها، يحكي له كل ما يحدث في الخيام.يطيل حكيه.هو وسيلته الوحيدة ليظل محتميا بسلطة الحاج الكبير، لذلك يجد بحثا عن الأسرار، إذ لا يسمح له بمجالسة الحاج الكبير إلا إن كان لديه خبر يمططه ليثير به سخط سيده على من يريد.ليس انتقاما بل حفظا لوجوده لأنه لا يجيد غير التلصص على سكان الخيام ليلا ونهارا، ولأن نساء الخيام عرضة للوشاية كرهنه أكثر من الرجال. فهو بإطالته في الحديث عن الوقائع، يزيفها ويعطيها دلالات أخرى ليكسب الاقتراب أكثر من سلطة هو خادمها بكل حواسه. إنه بلغة العصر، إعلامها ومصدر كل ما تتوصل به من أخبار قبل أن تقدم على أي فعل. إنها سلطة لا ترى بعينها، بل بعيون مزروعة في رأس مريض. صاحبه مهووس بإثبات بطولات زائفة، يتحول بها إلى عاشق لرؤية السلطة تتحرك بناء على ما يزودها به من معلومات وأسرار، يستغلها الحاج الكبير لإثبات سطوته واكتشاف مدى قدرته على التحكم في سكان الخيام. يفشي سر عائشة التي التقت بعلال المجنون في نظر القبيلة التي يعيش بعيدا عنها، يرعى أنعام والده، فيطلب الحاج الكبير البنت للزواج صونا للعار وحماية لعرض أسرتها، لكن عائشة تبوح لأمها بعشقها الجارف وتقدم نفسها قربانا له، بحيث تسلم والدها البندقية لقتلها لكنه يعجز عن ذلك كما عجز عن رفض طلب الحاج الكبير، المدافع عن نزوته ليذل بها نساء القبيلة ورجالها كتعبير عن مدى عشقه للسلطة وليس عائشة أو غيرها، فالسلطة لا تعشق غير ذاتها بما هي رغبات عارمة لتملك البشر كأشياء تزين بهم نفسها..فلا عاطفة لها لذلك لا تتسامح مع من يتطاولون عليها برفض مطالبها، وهذا ما جسده الحاج الكبير بمحاولة الانتقام حتى ممن اعتبر مجنونا في عرف القبيلة لأنه تجرأ على عشق امرأة رفضت الزواج من سيد القبيلة وكبيرها.

2 – سلطة العشق

اكتشف علال سطوة الحاج الكبير وهو يمارس نزواته ويصرح بها، فكيف يدعي صون عرض أسرة؟ ويكتشف علال لهيب العشق، بل يعيشه مع عائشة التي تلجأ إليه هربا من جبروت الحاج الكبيرالذي لم تقو أسرتها على رفض طلبه.يحتضنها علال الذي اعتزل القبيلة دون أن يخاصم أهلها، ربما عشقا لحريته. وهاهو عشقه لعائشة يرغمه على الدفاع عن حريته بهجرة أخرى أبعد، لكن الخبر وصل إلى الحاج الكبير الذي بعث من يقتل المتمرد على سلطته. فطن علال ابن الطبيعة التي لن تخذله. وبدل أن ينتظر القتلة ليهاجموه هاجمهم، وانتصر على رجلي الكبير وأضرم النار في كوخه لتحرق الجثتان وتلتبس الحقيقة على عيون الحاج الكبير. هاجر علال مع عائشة التي صارت زوجة له، لكنه لم يغفر للحاج الكبير تسلطه فعاد لقتله، لكنه صادف والده مدفوعا بحبه لابنه معتقدا أنه قتل وأحرق مع عشيقته. الاثنان معا كانا يقصدان قتل الحاج الكبير، لكن الأب يقتل خطأ بيد ابنه الذي لم يكتشف هذه الحقيقة إلا بعد عودته إلى قبيلة اولاد حمو رفقة زوجته التي لم تنجب فقررا الرجوع، لكن علال ازداد إصراره على قتل الكبير الذي فقد سلطته على بيته، بعد أن عزلوه خارجه مما يوحي بأن سلطته على القبيلة تلاشت ولا وريث له يشد عضده أو يمارس مهامه غير اكميحة الذي تفقده، فوجده جثة مقطوعة الرأس ومع ذلك أصر على الانتظار ليجد من يسمع حكايته التي لم تكن إلا خبر عودة علال وزوجته عائشة إلى القبيلة، لكن علال كان أسرع إليه من اكميحة ليحز رأسه ويتدارك الخطأ الذي مرت عليه سنوات ويختفي دون أن يترك هو الآخر وريثا لتمرده على القبيلة وسادتها.
تنتهي الرواية بانتصار شبيه بالهزيمة، لتنبعث معه أسطورة مول الواد الذي يعرف نوايا الناس وأخبارهم دون وساطات أو وشاة.
صار العشق أسطورة لأنه حث الناس على التمرد وقاد إليه، فكل السلط تحفظ تاريخها الذي هو إلغاء للمتمردين عليها، فتتجاهلهم. اكميحة هو الحافظ لتاريخها، لن يحكي لها بل سوف يحكي عنها ليذكر الناس بسطوتها، لكن الناس سيلجأون لأسطورة علال، مول الوادي كاحتفاء بالمتمردين ليحكوا عنهم ويخلدونهم نكاية بتاريخ السلط والذين يحنون إليه.
لكن لماذا لجأ الروائي إلى القرية القبيلة ليرغمها على البوح بحقيقة تبدو أكثر بروزا لو اختار لشخصياته التعبير عن ذاتها داخل المدينة؟ لماذا أنهى سلطة الحاج الكبير مرتين، بعجزه وموت مقتولا؟ ولماذا حكم على العاشق المتمرد بالاختفاء؟
القبيلة أو البادية رهان أدبي للروائي المصطفى غزلاني، تمثله شعريا في قصائده منذ ديوان «أشياء أخرى»، خبره داخليا وأغنى علاقاته بلغته، والشاعر يعبر عن أعقد الأحاسيس بأبين تعبير، وفي الرواية أعطى لحبكتها نفسا أسطوريا بشاعرية لا تحتمله المدينة لا إيقاعا ولا تمثلا. فهناك أوصاف وعلاقات مدينية أنهكتها روايات القرن 19 والعشرين، وزادها النقد الأدبي والأكاديمي اعتيادية بالتطبيق الفوري لأكثر المناهج جاهزية وانتشارا في العالم العربي.

* كاتب وروائي.


الكاتب : حميد المصباحي

  

بتاريخ : 12/11/2020