تأملات في حالة شرود : قمر وشاي أحمران

 

أطل برأسه من باب الخيمة، وأيقن ألا أحد بالخارج. أشعل شمعة وضعها في إناء ثم رمى فوقه غطاء وخرج حاملا بيده اليمنى قفة كبيرة. طاف ببقية الأصدقاء واحدا واحدا إلى أن اجتمعت الشلة وكل فرد فيها يستر رأسه وظهره بشيء يقيه ويحميه برد الليل. سار الزعيم أمامهم وسار أتباعه خلفه.بثبات يمشون كأنهم الهنود الحمر يدبرون هجوما في هذا الوقت المتأخر من الليل، ضد الأمريكيين البيض معمري أراضيهم، لكن شتان بين هؤلاء وبين الهجومات وما شابه ذلك. هم ظرفاء طيبون ومسالمون، لا يبغون من خرجتهم هذه سوى سرقة وقت متعة وراحة بال، للتخفف أو التخلص من أعباء يوم ماراطوني من الكد والعمل المضني، ومن أجل الاستعداد في الوقت ذاته لآخر خلال الغد، قد يكون أمر وأشقى من سابقه.
اتخذ الظرفاء كالمعتاد مكانا لجلستهم فوق صخرة من أعلى التل، أطلقوا عليها “الدلتا” لسبب أو أسباب لم يعد يتذكرها. من هناك تتراءى الأضواء الليلية لأزقة ودروب مدينتهم الأطلسية الغارقة في نومها. مدينتهم الصغيرة في مساحتها والكبيرة في شجنها وهمها. تحف الصخرة أشجارا سامقة من كل جانب لفواكه التفاح والخوخ، ثم اللوز بشكل أقل. بمجرد استقرار الرحالة الليليين انتبهوا لخرير ماء كأنه قريب جدا منهم، وكان قريبا بالفعل منهم، عبر مذياع صغير لا تحلو الجلسة دونه، ذاك الخرير استهلت به التحفة الغنائية التي كلما ذكرت يذكر مطربها الرئيس، وقد يضاف إليه ملحنها عبد السلام عامر.
وضع الزعيم أو منسق الجلسة لوازمها المكونة من فراش بسيط جدا لكنه يفي بالغرض، ثم إبريقا كبيرا شايه جاهز سيعاد تسخينه فوق نار هادئة، بين مجموعة أحجار صغيرة أو متوسطة الحجم. كان يضع أمام كل رفيق إناءه البلاستيكي، وبه حصته من الحلوى التقليدية، التي جهزت في بيت كل واحد منهم، من قبل الأمهات أو الأخوات، عندما صعق بعد اكتشافه أنه نسي الكؤوس الخاصة بشرب الشاي ولم يحضر سوى واحد منها. أخبر بقية رفاقه التسعة بالأمر، وعوض لومه قهقهوا ضحكا، إذ قال أحدهم بأنهم سيتناوبون على احتساء الشاي في كأس وحيدة، تماما كمشردي مدينتهم الذين تجمعهم الحديقة ليلا. هناك يسهرون بطقسهم الخاص واضعين أمامهم قنينات بلاستيكية من مشروب كحولي رخيص الثمن. غالبا ما كانت تبدأ سهرات هؤلاء بالغناء وتتوج عندما يتقدم الليل، بالسب والشتم في بعضهم البعض، ثم العراك والشجار، إن برمج القمار ضمن فقرات السهرة.
الشبان العشرة يختلفون عن هؤلاء. كلهم مجازون يعيشون على أمل، رغم العوز والفقر. لقد اعتادوا القيام بهذا العمل الموسمي في المخيم ذاته كل شهر يونيو منذ خمسة أعوام. وحده الزعيم وثلاثة معه بقوا قارين في هذه المجموعة، فكلما انسحب واحد عوضه آخر.من المنسحبين من حصل على وظيفة ومنهم من هاجر إلى مدينة أخرى، لعل رزقا من نصيبه يكون في انتظاره هناك. ولا أحد من الساهرين الليلة ها هنا أو من ساكنة المدينة الأطلسية الصغيرة، أفلح في نسيان الشابين الوسيمين اللذين اختارا الهجرة إلى الضفة الأخرى عبر قوارب الموت. مر عامان على اختفائهما دون وصول أي خبر عنهما إن كانا حيين يرزقان أم ابتلعهما البحر وشوه ملامحهما.
خلال الأعوام الأربعة التي مضت، ظل زعيم المجموعة وفيا للقيام من حين لحين، بجولة في جنبات هذا المخيم. كان ينتشي وينتابه شعور بالاعتزاز وهو يتفرج على الأطفال مستمتعين بعطلتهم رفقة مؤطريهم ومدربيهم. مبعث شعوره بالزهو والفخر أنه ساهم رفقة شلته في إعادة الحياة لهذا المخيم، الذي يظل لعشرة أشهر كاملة عرضة للإهمال يتحول خلالها إلى فضاء موحش. هو ورفاقه التسعة الآخرون يشذبون الأشجار ويتخلصون من أوراقها المتساقطة، وكذلك من الحشائش الطفيلية. يصنعون ممرا طويلا على جهتين من المدخل الأسفل المحاذي للطريق الغابوية والجبلية المؤدية للمدينة شرقا، ولمخيمات أخرى غربا، إلى أعلى نقطة في المخيم. والممر مرصع بالأحجار التي تصبغ باللون الأبيض، هي والمراحيض والمطبخ ثم القاعة الكبرى الخاصة بالأكل والسهرات. تختتم هذه الأشغال ببناء الخيام وإدخال أفرشة وأغطية النوم إليها، لكن قبيل هذا كله على الشبان أن يخرجوا القردة من المخيم، الذي يحتلوه كل مرة فور مغادرة الأطفال ومؤطريهم ومدربيهم له.
واصل منسق حفل السمر شروده، بثغر باسم مسترجعا تلك الزيارات، حيث فرحة وانتشاء البراعم في أجواء المخيم، تنسيه بؤس ما تقاضاه رفقة شلته مقابل تلك الأشغال المضنية، التي تتواصل لشهر كامل. ولأن أحدا لم ينتبه لرحلته الخيالية، فقد شرع في صب الشاي لكل فرد من عصبته، عبر تلك الكأس اليتيمة التي تجولت بين أيديهم وشفاههم. وعندما حان دوره وشرع يصب لنفسه، لم يمتلئ إلا نصف الكأس رغم تقليب الإبريق في أكثر من اتجاه. حملها بيده اليمنى مكتشفا أن الشاي برد وغدا لونه قانيا. وقبل أن يقربها من فمه سحبها منه أحد رفاقه ووقف متحدثا وهو يتمايل كأنه ثمل:
– خذ مبروك عليك نصف الكأس الأخيرة يا زعيمنا.. يا عريس..
قهقه الجميع واكتفى هو بنصف ابتسامة من ثغره ومن عينيه مرددا بينه وبين نفسه، كأنه يجيب صديقه بصوت داخلي:
– عريس؟ أين العروس سعيدة الحظ التي ستقبل الاقتران بمجاز عاطل، لا يملك كزاد للحياة سوى النظريات والأفكار والأحلام المعلقة..
رشف رشفة من الشاي القاني اللون وعبد الهادي بلخياط وبهيجة إدريس مازالا يغنيان قمرهما الأحمر، التي طرز كلماتها الشاعر عبد الرفيع الجواهري ابن المدينة الحمراء.


الكاتب : عبد الحق السلموتي

  

بتاريخ : 08/01/2024