تجربة الشاعراحميدة بلبالي الزجلية : المسار والمشروع 1/2

كل تجربة إبداعية ناجحة ومعطاءة لا بد أن تتوفر فيها مجموعة من الشروط، ومن بينها شرطا المسار والمشروع كما جاء في العنوان، والمقصود هو أن تمتلك التجربة هُويتها الإبداعية وأن تـتأثـر في وجودها بميزات صاحبها في الحياة ، وأن تنبني على منطلقات وأهداف تتحقق بوتيرة متواصلة حسب عمر التجربة، وقد تنقضي الحياة ولا ينقضي المشروع الفني، وهذا ما يلمس عند قراءة وتتبع التجارب الإبداعية المتطورة الخاصة بأي مبدع حاز على وصفه ومكانته بجدارة وعمل متواصل بخطى واضحة ومعروفة .
قديما ميز النقاد بين المبدعين بطرق عدة، ومنها القلة والكثرة، وفـــكــرة المشروع الفني والفكري المطروحة في كل تجليات التجربة، وعلى مدى زمنها وأشكالها وقوالبها لنصل في النهاية إلى الحكم المناسب للتجربة .
هناك شرط آخر يعبر عما قلناه وهو أن يحضر التجانس والتكامل في جميع مقاطع التجربة، بمعنى أن تجد البصمات والطموحات والهواجس والأفكار والرؤى المتحكمة واحدة ومتطورة من عمل إلى عمل، ومن خطوة إلى أخرى وكأنك تطالع شيئا واحدا كتب في زمن واحد، وهو على العكس، قـــد كتب في واقعه ووقائعه على فترات طويلة ومتباينة من عمر المبدع ولكن الروح التي تسكنه بقيت متفردة، وهذا هو الأساس في كل عملية إبداعية ناجحة، وللأسف لم يعد الاهتمام في الإبداع المعاصر يراعــي هــذا المعطى، فرفع عنه التميز وافتقد لفكرة المشروع، وتحكمت فيه مسارات متخلخلة ومتشابهة، ويغلب عليها التكرار الممل، والسبب هــو أن المبدع فَـــقَــد الأقدام الإبـــداعية الراسخة التي تجعل منه مبدعا حقيقيا، وتهب له مواقفه الخاصة، وتساعده عـلى بلـورة المشروع الذي يحلم به ، فحيـن يكـتـفى بالمعطيات الخارجية ، وتقف التجربة عند حدود التقليد والاجترار يصبح المبدع عالة على نفسه، وعلى الإبداع وجماعته.
تجربة الزجال احميدة بلبالي توفر للقارئ فُرَصَ المتابعة والمطالعة للمشروع من خلال آليات عديدة، على رأسها شيئان اثنان :
الشيء الأول هو أن التجربة هي عبارة عن مشروع متواصل ومتجدد، وحاضر في أية عملية إبداعية كتبها الزجال المذكور، فبالرغم من اختلاف زمن القصائد وأمكنتها ووقائعها إلا أنك تجد نفسا واحدا متحكما وناسجا ومهيمنا على جميع مفاصل وتفاصيل التجربة في أبعادها الفكرية والفنية .
الشيء الثاني هو تلك العلاقة الوطيدة التي تجمع بين أركان إبداع بلبالي، فلن تعثر على شرخ، أو تباعد وتعارض ما بين ماضي التجربة وحاضرها، وأكيد حتى المسـتــقـبل لن يخرج عن هذا المَهيَع المتحكم والمترجم للقواعد الإبداعية الكبرى الخاصة بالزجال بلبالي .
هذا إن تحقق يوفر للقراء مُتعا وجَذبا وعشقا للتجربة، ويزودهم بالمعالم الناشئة، وبالأهداف المرجوة، ويحفزهم على المسايرة والمشاركة في إدراك وتحقيق المبتغى الإبداعي المطروح .
قراءتي لتجربة زجالنا ستحاول أن تؤسس مجرياتها على ما فات ذكره من قواعد وآليات، وستــتـوقف على القراءة المندمجة بين عملين متــميزين هما : ديــوان (شمس الما) الصادر سنة 2011، وديــوان ( برية ف كم الريح ) الصادر سنة 2016، وأرى أنهما يشــتــركان في كـــثــيــر من الصفات الأولية المتجانسة كـــدلالتهما على تجربة واحدة، وهــموم متجانسة وأهـــداف مرصودة، ووسائل متــعــددة ومتنوعة ولكنها قائدة إلى مصب معروف ومهدوف، تقوم على إرساء قواعد، واختراع عوالم متناغمة وموحدة للمسعى الفني والفكري لتجربة بلبالي الزجلية .
بعد هذا الكلام المختصر الدال على فحوى المعالم المتحكمة في الأسس الإبداعية للتجربة المذكور،ة يمكن أن نضيف المحددات الكبرى  التالية :

1- المستفاد من العنوان
بيان بعض الملامح الإبداعية للمشروع الفكري لزجالنا، وهي ظواهر كثيرة ومتنامية ومتصاعدة مع حلقات التجربة الإبداعية وقد برع فيها الزجال احميدة براعة مطلقة ، وأحكَم دُروبَها وملتقياتها، وتُعَدُّ من المرتكزات الأساسية التي تميز وتفرد التجربة الإبداعية للزجال، وتمنحها قوة الوجود والاعتراف والمتعة المنشودة .وهي أيضا عبارة عن عوالم من نسج عبقرية وحيدة، تَنشُد دائما التطور والتجديد والاستـقــلال المتكامل والمتفاعل والمتجانس في نهاية المطاف، فلا تخلو قصيدة من هذا المَعلَمٍ، بل لا يخلو مقطع منها، وفي نظري تعد من أهم تجليات التجربة الإبداعية على صعيد التمكن والبناء، وتكوين العوالم المختلفة بتنوع حاصل وحاضر بمختلف الأوجه المتميزة .

1 – ا – عنوانا الديوانين : ديوان : (شمس الما) وديوان : (بِرِية في كَف الريح ) فيهما من عوامل الالتقاء والتجانس ما يمكن ملامسته من طرف القارئ، فهما يغلبان حــقـــل الطبيعة من خـلال ألفاظ : ( شمس – الماء –  الريح ) ويتــحــدان في فــتــح المعنى على مالا نهاية بحسب المعطيات الخاصة لكل قارئ، فما أصَّلَ إليه وأستُفٍيد منه لن يصل إليه أو يستفيد منه غير من له إلمام تام بقصيدة الزجل، أي أن المعنى في الأساس هو من بناء الزجال بلبالي ولكن في النهاية ملك لكل قــــارئ، وخاصة بظـــروفه ووقائعه، وهذا يمنح للتجربة الإبداعية أفقا وتجديدا مستمرا، وحضورا دائما، ولعلها السمة الأساسية العامة التي تغيب على كثير من النصوص ( الإبداعية) تبعا للزعم الملاحظ على ساحة الزجل في وقتنا الحالي .

وهذا الملمح يمكن ملامسته حتى على صعيد كثير من عناوين ومضامين قصائد الديوانين، وسأدلي ببعض الأمثلة المختصرة المتساندة في ما بينها من جهة تشكيل المعنى الدائر مع دواخل النفس، وأترك للقارئ فرصتَه لكي يضيف ما يراه مناسبا لأحواله الذاتية، وأشير قبل التمثيل أن المقاربة هنا ستركز على ما هو عام، ومن قبيل الإشارات الأولية، وسأترك التفصيل المتعلق بفحوى المضامين الجامعة إلى حيز قادم بحول الله .
أرى أن قصيدة : ( شمس الما) وقصيدة : (غمزة من رموش الما ) تجمعهما علائق متعددة ومتنوعة، والانطلاقة ستكون عكسية من القصيدة الثانية في اتجاه القصيدة الأولى، وبلغة الأرقام من سنة 2016 إلى سنة 2011 ،  وهنا تبدو لي وقفة جديدة وهي التأكيد على مفهوم المشروع المتواصل في محطاته الإبداعية المختلفة، وأن التسلسل الزمني لا يعد فاصلا حقيقيا بين تلك المحطات، فقد يتقدم المتأخر، وقد يتأخر المتقدم، يقول بلبالي في وقفتين متغايرتين ومتتابعتين، الوقفة الأولى يقول فيها :

أنا شاهد
ملي بكا الما
طيح شي دموع كبار
جرفت القنطرة اللي عليها جيتك « 1 «

ويقول في الوقفة الثانية :
وف كل عشية
بعد الغياب
الشمس يحكي
لبحر يبكي
واخا ما بانو دموعو
ملح لحزان
تفضح اسراره
يبقى ف الشمس
يرسل عليه
نور الصباح
يدفي ضلوعه
من كز الليل
وحر الحكاية
واحنا ما نسمعو
من لحكاية
غير
اتش اتش اتش « 2 « .

وهناك انفتاحات واسعة على طول قصائد الديوانين، تتأسس على المعنى المراد، ولا أقـــول الواحد ، على اعتبار أن المبدع الحقيقي لا يمكن أن ينتهي بمجرد انتهاء القصيدة، أو الديوان ، وإنما يحمل مما أنجز ما يمكن أن يبدأ فيه في المستقبل، ولا ننس في هذا المقام عملية النضج الــفــني بحسب تـــدرج الزمان، فالمسار واحد، والمشروع الدال مختلف ومتداخل، وسأدل القارئ على بعض العناوين من الديوانين المذكورين التي حصل فيها التجانس والتمدد والتفاعل :
*قصيدة محطة «لحماق» مع قصيدة تنهيدة على جناح الشوق-
*قصيدة «سال لحجر إيلا يهدر» مع قصيدة حتى لبحر زهواني-
ولم يقف الزجال بلبالي في عملية التجانس والتقارب الإبداعي في مشروعه عند حدود الثنائي، وإنما تعداه إلى أبعاد ثلاثية أو رباعية كما نرى ذلك مجسدا في عناوين القصائد التالية :
– قصيدة سر الشعى مع قصيدة لالت الريح من جهة، وقصيدة لالت الريح في ارتدائها إلى قصيدة إزوران « 3 « .

المهم عندي الآن هو تثبيت فكرة المسار الواحد بخطوات المشروع المتتالية، وهو ما يشكل عاملا صلبا وأصيلا في كل تجربة حقيقية تنطلق من قاعدة الذات المتحكمة في الإنشاء والتطوير المبني على الرؤية القلقة ، والمندفعة دوما إلى الأمام .

2 – الغرابة في التماس المعاني المطروقة :
ذكرت سابقا أنني سأخصص حيزا آخر للحديث عن المعنى بتدقيق إضافي، وها أنذا أجعله ضمن هذا المعطى الجديد الخاص بالغرابة بمفهومها الإيجابي القائم على العلم والوعي، انطلاقا من خاصية الإبداع الشمولية التي تعني خلق حالات من المتعة والفائدة والانبهار والتأثير على القارئ وجمهور المثقفين، وهو معطى لن يكون إدراكه مستعصيا في تجربة الزجال بلبالي، والغرابة تعتبر من أسس الإبداع على مر العصور بالرغم من تردد المصطلح كثيرا في وقتنا بشرط أن يعبر عنها تعبيرا يساهم في إجلاء المقصود، والاعتماد على طرق الاستقرار النهائي للمعنى في رحلته من المبدع إلى القارئ .
الشاعر بلبالي بَرَع كثيرا في تأسيس غرابة مستفادة من الهم الإبداعي ، ومن التخصص المعرفي، فحتى كتابة الكلمات والمقاطع داخل القصائد نرى فيها شيئا من المزج بين المنحيين المذكورين، بالإضافة إلى البناء اللغوي المنتشر على مدى مجموعة من التعبيرات الشعرية الملاحظة .
مضامين تلك الغرابة الذاتية الإيجابية تمر عبر قوالب فكرية وإبداعية عديدة ومتنوعة، فيها ما هو من قبيل المزج بين العوالم المختلفة، وفيها ما يتعلق بكيفية التماس المعنى، وفيها حيز كبير خصص لسرد مجموعة من النظائر العقلية، والتقابلات التي تتبدل أمكنتها ، وتتناوب على إنشاء المفاهيم والمحتويات المقصودة ، وفيها ما يتصل بالأساليب والتدويرات اللغوية المستعملة .
قبل الخوض بتفصيل في شواهد وعناوين القراءة السالفة، لا بد أن نقف وقفة متأنية للحديث ومطالعة مدلولات عنوان ديواني (شمس الما) و (برِية في كم الريح) على مستوى الفكر والفن ومراميهما المتصلة بالقارئ من جهة تجسيدات مفهوم الغرابة .
وأول ملاحظة سيقف عليها القارئ هي فضيلة التخيل المفتوح، ليس بالمعنى التقليدي فقط وإنما بمعنى مشاركة كل الحواس في تحصيل المضامين، وهو نوع من الغرابة المفيدة، والإدراك الحر للمقـــصود المراد ، وتم ذلك عبر زاويتين مختلفتين ومتكاملتين: الزاوية الأولى تتحدد بكل قارئ بصيغته المفردة، فلا يمكن لأحد منا أن يسلم من رحلة التيه، وغرابة التركيب والجوار الكامنة في كل لفظ في ذاته، وفي علاقته بالمد اللغوي في شكله النهائي، وهذا يعتبر من حقوق القراء الأصيلة على المبدعين ، وقليل منهم مَن يحترم الخاصية المذكورة ، ويحقق للقراء مبتغاهم .
الزاوية الثانية : تجمع ما بين العنوانين ومضامين كل ديوان في الخطوة الأولى، ثم التشكيل المرتقب للمعنى المتكامل بين دفتي الديوانين في الخطوة الثانية، فصيغة ( شمس الما ) أو «برية ف كم الريح» لا يمكن أن تجد لها حدودا معينة للبداية والنهاية وإن كان فعل  الشاعر يوهمنا بذلك حين سمى قصيدتين من الديوانين بالعنوان والصيغة المذكورة .
نعم هناك هذا البعد القريب والملموس، ولـكـــن هناك أبعاد أخرى غائرة في عقل كل قارئ ودارس، ومتعددة بتعدد من يتأمل ويسرح محاولا القبض والإلمام بكل التجليات الممكنة، وهو المراد المطلوب، ويدخل في دائرة أعز ما يراد ولكن في النهاية لا يتحقق إلا عن طريق الأحلام والــتـهــيــؤات النفسية والعقلية الممكنة وغير الممكنة، وهذا يدفعنا إلى مغامرة أخرى، بل مغامرات متتالية صعبة وكأداء في مسيرة الفهم والإدراك ، ويردنا إلى مفهوم التِّيه الناتج عن تغـيـيـر الأشياء لوجهاتها ومجاريها المعتادة لدى كل الناس، وهي خاصية إبداعية مُربِكة للقراء لا يُجَلِّيها بشكلها الموجود في إبداع الزجال بلبالي إلا قلة قليلة جدا من المبدعين، وكذلك كان الأمر وسيبقى مع كل عملية إبداعية حقيقية، تستــحــق وصف الإبداع المتدفق من القلب والعقل، والمُهَيأ بواسطة حبكة صناعية حية ومتحركة وناضجة .
فلنترك لكل قارئ حريته ، ولكل تيه اختياراته في كيفية المتابعة والتــحصـــيل ما دمنا لحــد الآن نحس بصورة يشوبها غبار وضباب كثيف تتراقص أمام أعيننا، ولعله وضع قائم ومُحَيِّر في الــوقــت ذاتــــه لنبحث عن شيء من الوضوح الممكن فيما تبقى من محتويات الديوانين، وعلى ضوء العناوين المذكورة أعلاه ، وعلى شكل تتبع متسلسل في الآتي :

2 – ا – ظاهرة المزج بين العوالم المختلفة :
أسميها ظاهرة لأنها تجمع ما بيــن معطيات الـفـكر، ومميزات  الفن ، وعلى الخصوصية المتفردة والمستقلة كما نجدها في تجربة بلبالي الزجلية بصفة عامة وخاصة ، وما أكثرها في الديوانين معا ولكن القصد سيكون منصبا على جهــد شاعـرنا المُضني وهو يحاول تجميع المتفــرق في الوجود وما لا يتجمع إلا في شعره، وهنا تبــدو عبقـــرية الفنان حين يجعل القارئ متقبلا في الإبداع ما لا يتقبله في الواقع، وأظن أن هذه الخاصية تستحق وقفة أكثر طولا من لدن النقاد والدارسين ، فقد استطاع بلبالي أن يُرَوِّضَها وأن يكثر منها، وينوع عـــناصرها بــلــمسات منه غزيرة ومحكمة ودالة على ملكاته الإبداعية ، يقول في قـــصيـــدة جــميلة بعنوان: «تنهيدة على جناح الشوق « :

تعنيقة من عينيك
تجمع لبحر على قده
تقطر نقطه
ف مومو د العين
ترجع رموشك شط
وانا طير الليل
قاصدك نحط
وكل ليلة
يوصل القلب
لباب احلامك
ويخاف يدق
يخاف جواب حافي
يخاف كلام جافي
وهجران يحرق « 4 «

ويقول في قصيدة : « شمس الما « :

سر يافلكي
ما همك طلوع
الشمس ف سفرها
ما همها رجوع
لبحر ملي جاع
سرط الشمس
أنا شفته
وسمعت اتش…اتش….اتش
وسمعها صاحبي حدايا
هو يحلف
ب ملح الدموع
وضحك الشجر
باللي لبحر
واخا سرط الشمس
باقي فيه الجوع……» 5 « .

* أستاذ جامعي – مراكش


الكاتب : د . مولاي علي الخاميري *

  

بتاريخ : 10/11/2023