تجليات المكان في المجموعة القصصية «إني رأيتكما معا» للقاص المغربي أحمد بوزفور

للمكان أهمية كبرى في عملية السرد برمتها، بحيث لم يعد مجرد خلفية تقع فيها الأحداث الدرامية فقط، كما لا يمكن اعتباره معادلا لباقي البنيات السردية فحسب، ولا يمكن الاقتصار على كونه عنصرا شكليا أو تشكيليا من عناصر العمل الفني، حتى أن تفاعل العناصر المكانية وتضادها أصبحا يشكلان معا بعدا جماليا يستحق النقد والدراسة، لما له من أبعاد فنية وجمالية في النصوص السردية الإبداعية.
إذ يكتسب عنصر المكان أهمية كبرى في كونه أحد أهم العناصر المكونة للعمل السردي برمته، فهو المساحة التي تتحرك داخلها الشخصيات لتصنع الحدث. بل قد يتحول إلى عنصر مساهم في صنع أحداث القصة والمنتج للعلاقات الرابطة بين بنيات الزمن والشخصيات والأحداث، كما يمكن أن يكون ذلك الفضاء الحاوي لكل تلك البنى السردية وهذا ما جعل الدراسات النقدية الحديثة تتجه إلى دراسة مكون المكان في مختلف الأجناس الأدبية، ولم تكن القصة في منأى عن هذه الدراسات النقدية.
أثارت بنية المكان دلالات ومعان كثيرة انطوت على جملة من المفاهيم، منها ما هو لغوي واصطلاحي بل وحتى فلسفي، بحيث أجمع النحاة واللغويون على إعطاء المكان معنى الموضع والمنزلة باعتباره «الموضع الحاوي للشيء» أو الحيز الذي يحوي الإنسان وأنشطته، أما اصطلاحيا، فيلعب مصطلح المكان دورا هاما في عملية السرد ككل، فهو Space بالإنجليزية وفي اللغة الفرنسية تمثل كلمة Espace ذلك الفضاء النصي الذي تدور فيه عجلة السرد بحيث لا يمكن تصور قصة / رواية ما بدون فضاءات أو أمكنة، ولا وجود لأحداث خارج مكون المكان، ذلك أن كل حدث يأخذ وجوده في مكان وزمان معين.
وفي المنظور الفلسفي، فقد شغل المكان مجالا واسعا في الفكر الفلسفي، بحيث تعددت آراء الفلاسفة والمفكرين في تحديد دقيق لمفهوم المكان تدقيقا فلسفيا ، بدءا من أفلاطون وأرسطو وقد جاء بعد المكان في الفلسفة في سياق الموضوع الذي يحتوي سطح الجسم ويشغله في بعدي الإحاطة والاستقرار.
وقد استفادت الدراسات النقدية من الآراء الفلسفية التي قُدمت في تحديد مقولة المكان لدراسة العلاقات المكانية والزمانية بوصفهما إطارين لذكريات الإنسان في حياته الاجتماعية، وخزانا للأفكار والتجارب البشرية.
في حين بدل النقاد والدارسون العديد من الجهود وذلك بوضع مفهوم متفق عليه وجامع للأبعاد المختلفة لبنية المكان في تشكلاتها ومظاهرها، حيث انطلق الدارس جوليان كريماس في مفهوم المكان من منطق الرؤية Vision de L› Espace، إذ يرى أنه ذلك الفضاء النصي وفق نظام هندسي متميز يسهم في تصوير التحولات و العلاقة المدركة والمحسوسة بين الذوات الفاعلة المتحركة داخل الخطاب السردي، بخلاف الدارس غاستون باشلار الذي انطلق من الفلسفة الظاهراتية ليربط بشكل خاص بين المكان وعلاقته بالإنسان، والدلالة التي يمكن أن يؤديها تنوع المكان، مركزا على الأماكن التي ترتبط بحياة الإنسان في مراحل حياته المختلفة ومستوياته الاجتماعية المتعددة، حيث يدخل المكان في علاقات مختلفة مع باقي العناصر الحكائية ،فلا يعيش بعيدا عنها أو يتحرك بمعزل عنها.
من منا لا يعرف القاص المغربي أحمد بوزفور العارف بتقنيات السرد والراقص على حباله بمهارات الكبار، ومن من النقاد والباحثين من لم ترقه نصوص بوزفور المكتنزة بتداخل البنى السردية وتنوعها، ولعل آخر عمل قصصي لهذا القاص المغربي الفريد من نوعه والذي عنونه ب « إني رأيتكما معا» والذي يعد استمرارا لتميز بوزفور وتربعه على عرش القصة بالمغرب، كيف لا وهو سندبادها الرائع وقديسها المتصوف.
بداية، سنتناول بنية المكان في هذه المجموعة القصصية «إني رأيتكما معا» وفق ثنائية المفتوح والمغلق، باعتبارها أكثر الثنائيات المكانية هيمنة في النص السردي، والتي انفردت باهتمام القاص المغربي أحمد بوزفور على المستويين الوظيفي والدلالي، وسنعمد في معالجتها إلى تقديم الأماكن المفتوحة باعتبارها الأماكن الأكثر تواترا وكثافة داخل المجموعة القصصية ككل.

1- الأماكن المفتوحة:

تكتسي الأماكن المفتوحة أهمية بالغة في المجموعة القصصية «إني رأيتكما معا»، فهي تساعد على الإمساك بما هو جوهري فيها، أي مجموع القيم والدلالات المتصلة بها، من خلال ما تمد به الشخصيات من تفاعلات وعلاقات تنشأ عند ترددها عليها بكل حرية. وسنعمد في هذا الاتجاه، إلى ترتيب الأماكن بحسب درجة انفتاحها من جهة، وكثافة حضورها داخل المجموعة القصصية نفسها من جهة أخرى.
يعد فضاء السماء المكان الأرحب والأوسع الذي ورد داخل المتن السردي نفسه، حيث وردت كلمة السماء في المجموعة القصصية المدروسة عدة مرات، رغم أن القاص لم يعرض صورة كاملة عنها بطريقة مفصلة بكل الجزئيات بل اكتفى بالإشارة إلى الملامح التي تميزها بصفة عامة، باعتبار السماء ذلك الفضاء المفتوح واللامنتهي الذي لا حدود لمداه، وقد وردت في أكثر من مقطع سردي بمختلف نصوص المجموعة القصصية ذاتها، كذلك الحال نجد القمر كبنية مكانية قوية داخل نصوص «إني رأيتكما معا»، كذلك يحضر القمر كمكون مكاني داخل نصوص بوزفور نفسها، رغم أن القاص لم يعرض صورة كاملة للقمر بطريقة مفصلة، لكنه اكتفى بالإشارة إلى الملامح التي تميزه بصفة عامة.
نجد كذلك حضور الأرض الطاغي كمكان له خصوصيته وسماته المفتوحة المميزة له، ويحضر مكون الأرض بقوة لاحتلاله مساحة واسعة داخل النص ككل رغم خلو النص من أي وصف مدقق لها أي أنها لم يتحدد شكلها الجغرافي، بل وردت هكذا في أكثر من مقطع سردي يظهر مدى هيمنة هذه البنية المكانية داخل النص القصصي ككل.
يحضر البحر كذلك كبنية مكانية مفتوحة داخل المجموعة القصصية نفسها، حيث بدت واضحة المعالم بكل جزئياتها من خلال صور وصفية بما يتضمنه البحر من رحابة واسعة.
في السياق نفسه، احتل النهر كبنية مكانية، حيزا واسعا داخل النصوص السردية نفسها، باعتباره إحدى العلامات المكانية المفتوحة البارزة فيها، والتي تتحرك فيه الشخصيات، وهذا يدل على توظيف بوزفور لعدة أماكن مفتوحة تبرز وجه الطبيعة الجميل والمفتوح واللامنتهي، كذلك الحال بالنسبة لمكون الغابة الذي حضر كبنية مكانية مفتوحة كثف بوزفور توظيفها داخل نصوصه السردية ذاتها، وقد برزت كغطاء آمن يمارس فيه سكان المدينة كل الأفعال والسلوكيات المنحرفة بحيث دُنست الغابة وتحولت من مكان نقي للطبيعة والمتعة والرعي إلى مكان يرمز إلى الغلبة للأقوى والوحشة والظلم والقهر، كما وظف كلا من الجزر والأرخبيل، كبنيتين مكانيتين ثانويتين لم يتم توظيفهما إلا مرتين.
يعد الشارع والطريق جزءا لا يتجزأ من فضاء المدينة، باعتباره إحدى العلامات المكانية البارزة فيها والتي تتحرك من خلالها الشخصيات، ويعتبر الخيط الفاصل بين عالمين عالم السر، وعالم الجهر. إذ في الشوارع ينتهي عالم الناس السري ويبدأ عالمهم العلني، حيث يظهر الشارع باعتباره مكانا نابضا بالحياة ومكانا مفتوحا ومحطة عبور بسرعة وتوقف وانطلاق من جديد.
وظف القاص بوزفور كذلك مجموعة من البنى المكانية المفتوحة أكثر من مرة، من قبيل الصحراء والخلاء التي توحي بالوحشة رغم شساعتها، في المقابل وظف كلا من الحقل والمزرعة والحديقة كأفضية مفتوحة توحي بالراحة والطمأنينة والعيش الهني، ويمكن الخلوص إلى مدينة مراكش التي ختم بها هذا التناول المكاني باعتبارها مدينة البهجة والراحة والسرور، حيث حضرت كل هذه البنيات المكانية داخل نصوص بوزفور باعتبارها أفضية مفتوحة تبعث على الفرح والراحة والسكينة إلا نادرا ما تبعث على الخوف والفزع وهنا نستحضر بقوة ثنائية أليف/ معادي أو التقاطب المكاني حسب الناقد كاستون باشلار.

2- الأماكن المغلقة:

اعتمد القاص أحمد بوزفور في تحديده لعنصر المكان استراتيجية تجمع بين الأزقة المفتوحة التي تبعث على الخوف# السكينة، كذلك اعتمد مجموعة من الأفضية المغلقة التي تبعث أحيانا على الراحة كالقصر/ العمارة/الفندق/ الدار/ البيت/ الفيلا/ الغرفة/ الحجرة/ الصالة أو الصالون/ المطبخ/ السيرك وأيضا المكتب والقسم. ووظف في المقابل أمكنة مغلقة تبعث على الخوف والرعب في مواضع سردية مختلفة كالقبو/ القبر والمستعجلات. ورغم ورود فضاء المقابر بشكل عابر داخل النصوص السردية دون أي وصف أو تدقيق لبنية هذا الفضاء المغلق العمومي، لكنه دائما ما يظهر كمكون مكاني موحش ومخيف. وهذا ما يحيلنا على التقاطب المكاني لدى غاستون باشلار الذي يركز على القيم الإنسانية التي يتسم بها المكان الذي يحمل دلالات فنية وجمالية تحفز المخيلة على التذكر والتخيل، وهذا ما تؤكده مجموعة بوزفور القصصية الأخيرة «إني رأيتكما معا» التي حوت بين مقاطعها السردية عدة أماكن تتجاوز المكان كبعد هندسي قابل للقياس فحسب، بل هو مكان عاشه السارد كتجربة مكتنزة بالصور والرموز والدلالات، وذلك من خلال العلاقة الأزلية بين الإنسان والمكان وعلى الدلالة التي يؤديها تنوع المكان داخل النص القصصي.
اقتصر إذن، أحمد بوزفور في مجموعته القصصية الأخيرة، على الأماكن المفتوحة الأليفة التي تبعث على الراحة والحماية أكثر من تناوله للأفضية المغلقة الموحشة والمخيفة، ويمكن القول إن القاص بوزفور قد توفق في توظيف مكون المكان، واقعا ومتخيلا، كعادته التي دأب عليها في كل نصوصه السابقة التي دائما ما يجمع النقاد على تفردها وغناها، باعتبارها ظاهرة قصصية تستحق الدراسة التي تفتح آفاقا أوسع للتأمل والتفكير والإبداع.


الكاتب : إيمان الرازي

  

بتاريخ : 16/09/2022