تخصيب اللغة وتكثيف الدلالة

قراءة في ديوان « ترتوي بنجيع القصيد»للشاعر محمد عنيبة الحمري

 

 

يرتبط الديوان الأخير للشاعر محمد عنيبة الحمري « ترتوي بنجيع القصيد»ارتباطا قويا بدواوينه السابقة، و إن كان هذا الشاعر يظل متميزا ومتفردا في كل ديوان جديد،لأنه لا يمل من الحلم والتطلع الدائم إلى عوالم شعرية تبهرالقارئ وتحثه على قراءة و إعادة قراءة شعره، لتتكشف له حقيقة مدى قدرة هذاالشاعرعلى توليد الوحدات اللغوية المعجمية، وعلى توسيع الحقول الدلالية بشكل يبشر في كل قراءة بكشوفات شعرية جديدة، تشحذ إرادة القارئ وتحفزها وتجعل منه طرفا فاعلا في إعادة تشكيل علاقة الشاعر بشعره وبالعالم.
لقد استطاع الشاعر محمد عنيبة الحمري، من خلال قصائد هذا الديوان، أن يفتح آفاقارحبة وغنية للتواصل والتفاعل مع القارئ المتلقي، وذلك من خلال استدعاء لغة شعرية تتضمن ألفاظا وعبارات تثرى بالإيحاء وبالدلالات البعيدة والمعاني العميقة، وتعبر في الآن ذاته عن أحلامه وانفعالاته ،ورؤاه الفكرية والفنية الإبداعية، كما تعبر عن تأملاته الجمالية في الإنسان و في الحياة، وما يثقلهما من مفارقات وتناقضات، وتكشف عن قدراته الإبداعية الخفية التي شحذت مخيلته وكشفت عن مشاعره وانفعالاته الضاغطة الناتجة عن تفاعله مع كل مايحيط به من مكونات و عناصر العالم الخارجي.
لقد جعلنا الشاعر محمد عنيبة الحمري منذ الوهلة الأولى في مواجهة مع شعرية العنوان «ترتوي بنجيع القصيد»، وهي شعرية تحيلنا على شعرية كل قصائده في الديوان.
إن الشاعر يعي أهمية العنوان باعتباره نصا موازيا له مقوماته ولغته الخاصة، وباعتباره علاقة لغوية دلالية تحدث وقعا وأثرا في القارئ المتلقي، وبتأملنا لهذا العنوان ندرك أن الشاعر قد توسل بطريقة مستحدثة في عنونة الدواوين، فعنوان الديوان ليس عنوانا إحدى قصائده ولكنه عبارة عن جملة شعرية وردت بعض وحداتها اللغوية « نجيع» و «قصيد» في قصيدة واحدة هي « إبداع»، وبذلك قام الشاعر بتبئير هذه الجملة الشعرية ليضفي على قصائده دلالة محددة تعكس رؤيته الشعرية وتكشف عن قلق الذات الشاعرة، وعن حلمها وصراعها من أجل التعبير.
إن هذا العنوان يندرج في إطار الميتا شعر الذي يتخذ من الكتابة الشعرية موضوعه أو تيمته، فالشاعر قد اتخذ من طقس « الارتواء» منطلقا له، ومجالا يدخل شعره في انزياحات متعددة ومتباينة، هذا فضلا عن توظيفه لكلمة «القصيد» التي تحاول صياغة وجهة نظر الشاعر تجاه الشعر بصفة عامة والقصيدة بصفة خاصة، وهذا ما يتكشف لنا من خلال قراءتنا لهذه الأسطر الشعرية:

وانتبهت بمر السنين
بأنك مستنزف
لنجيع القصيد
تتملى انزياحا
وتأبى ارتياحا
وما تبتغيه
ملاذ عنيد !

فأمام رغبة الشاعر الملحة في التعبير تتمنع اللغة وتستعصي آلياتها، وتحول العبارة دون امتلاك المواضيع المرغوب فيها بموجب دلالاتها المتحولة ومعانيها المتداخلة.
وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى أن الشاعر قد قام بتفريع عنوان الديوان إلى عنوانين فرعيين تندرج تحت كل منهما مجموعة من القصائد وهما « طقوس التحبير» التي تحيل على المعاناة السابقة أي معاناة الخلق وتشكيل القصيد، و « هموم التدبير» الذي يحيل على العلاقة المتوترة مع الواقع، وإذا كانت العنونة علامة سيميائية تكثف البنية الدلالية للديوان ولقصائده، فإن هذه العنونة تعتبر بذلك منطلقا لتوليد المعنى وتكثيف بنيات النصوص. فإذا كان الشاعر قد اختار لرصد تجربته الشعرية فعلا خاصا يحيل على الارتواء، فإنه قد عزز هذا الفعل بمفهوم أو لفظ هو « التحبير» الذي ينتمي إلى حقل الكتابة الشعرية، ليعكس بذلك مجموعة من التساؤلات التي ترتبط بتجربته وما يطبعها من مفارقات تحيل على معاناته الذاتية،التي تتمثل في معاناة الولادة والخلق الشعري على مستوى تشكيل القصيدة، كما تتمثل في ممانعة اللغة وصعوبة إذلالها، وهي إشارة شبيهة بالمجاهدة الصوفية التي تنشد اكتمال الرؤيا،ليس فقط على امتداد القصيدة الواحدة، ولكن على امتداد النصوص الشعرية للديوان برمته.
يقول الشاعر في قصيدة «صراع»:
عمرك الأبدي رهين
بما أنت تبدعه
لا حسابا
تبدده السنوات
و الفراغ عسير
إذا لم تقاومه
بالكلمات !
لقد قام الشاعر محمد عنيبة الحمري بتكثيف الدلالة وتخصيب اللغة، بشكل مكنه من بناء صور تتميز بخيالها المرهف، وبإيحاءاتها الرمزية وبلغتها التي تفجر شعرية الكلمات، معجميا وصوتيا و إيقاعيا، ويفهم من هذا أن الشاعر مدرك لميتا شعريته / لغته التي تمتلك القدرة على ارتقاء مدارج الإبداع الشعري، كما يتجلى ذلك بشكل واضح على امتداد قصائد الديوان، حيث تتفاعل التقابلات والتداخلات الدلالية والإيقاعية الناتجة عن قدرة شعرية فائقة،تتمثل في اختيارالمعجم الشعري الموائم للأفكار والمجسد للمشاعر، بشكل يكشف عن رهافة وحساسية متميزة على مستوى بناء الصور الشعرية التي تتخذ فيها حركية الخيال أشكالا فنية متعددة ومتنوعة، إنها حركية الانبثاق والتفجر الشعري الداخلي التي يتوجه بها الشاعر إلى الواقع الخارجي، لكنها تعود لترتد مرة أخرى إلى الذات الشاعرة التي ترى أن الواقع يعوق فاعلية الإبداع ويجهضها، فتلجأ إلى الحلم بواقع مغاير، تستحضر منه بعض اللحظات المبهرة التي تترجمها شعريا لمواجهة الواقع الحاضر و الراهن. ( لا وقت لك، ضباب، الزمن، نسيان، مسيرة عمر، الظل).
لقد تمكن الشاعر محمد عنيبة الحمري في هذا الديوان من تشكيل صور شعرية، تتوسل بالخيال الذي استطاع من خلاله بناء تصورات ذهنية عقلية مجردة عن مجموعة من الأشياء التي غابت لديه عن متناول الحس، و كذلك من خلال إعادة بنينة المدركات، وتشكيلها ضمن عوالم شعرية جديدة تتميز بتركيبيتها وتكثيفها وجمعها بين عناصر متنافرة وأشياء متباعدة، وتوظيفها في صور شعرية فريدة، تذيب هذا التنافر والتباعد وتخلق نوعا من الانسجام داخل هذه التجربة الشعرية، كما أن المتأمل في قصائد هذا الديوان يلاحظ أنها مشحونة بطاقة انفعالية تتمثل في تناظر الإيقاع الصوتي وتماثل التركيب اللغوي،بشكل يبرز الإيقاع الشعري لهذه النصوص ويؤكده، مع العلم أن البنية الإيقاعية في النصوص الشعرية لهذاالشاعر لا تقتصر على تكرار الصيغ الصرفية والتركيبية،ولكنها توضح أيضا التماثل الصوتي للحروف، سواء تلك التي يتشكل منها الإيقاع الداخلي أو تلك التي تتواتر في إيقاع القوافي.
إن أهمية الإيقاع في هذا الديوان تتمثل في كونه يقوم بتثبيت دلالات النصوص، ويعزز مفهوم الشاعر ورؤيته للشعر التي تقوم على توظيف الإيقاع و التراكيب اللغوية والصيغ الصرفية لتتضافر مع المعنى الكلي للجمل والأسطر الشعرية، لذلك يمكن القول إن تداخل و تراكب التصورات والمفاهيم و الموجودات مع معجم النص، وتركيبه وإيقاعه قد أدى إلى تكيف الرؤية الجوهرية وتأكيد دلالة النصوص الشعرية ( تصوف، رحيل، ذهول، سبب، غياب).
و إذا كان الشعر، كما يراه بعض النقاد المحدثين، بناء لغويا يستمد دعائمه من الأنساق الثقافية التي ينتمي إليها الشاعر، شريطة أن لا يخضع لها وأن يعمد إلى بناء نصوص شعرية معادلة وموازية لهذه الأنساق للكشف عن زيفها وتناقضاتها، فإن كل قصيدة من قصائد الشاعر محمد عنيبة الحمري في هذا الديوان، تعتبر بناء شعريا مركبا يقوم على تحويل دلالة الأنساق الثقافية، وإعادة بنينتها وفق تصورات معينة ترتبط بذاتية هذا الشاعر وبمخيلته الشعرية التي تروم، كما سبقت الإشارة، تخصيب اللغة، والخروج بها عن السائد والمألوف، وذلك بشكل يوحي للقارئ بأن الإبداع الشعري قادر على تشكيل أبنية جديدة للإدراك وللوعي، و هي أبنية رافضة و مدمرة للأنساق الثقافية السائدة وما تحبل به من دلالات سلبية تقيد الإنسان، وتحاصره وتحد من حركيته في الزمان و المكان (قصيدة الصديق).
إن العالم / الواقع الخارجي في هذا الديوان لا يحضر بإبعاده المادية المحسوسة و لكنه يحضر باعتباره نسقا من العلاقات الذهنيةالمجردة التي تجسدها لغةالشاعرفي صورفنيةينسجها الخيال،ويشكلها الوجدان و الحلم و الذاكرة في وحداث شعرية متجانسةمن الأسطروالألفاظ و الحروف و الأصوات والايقاعات الموسيقية الظاهرة و الخفية،(انزياح، رمل، مواطن، كائن، قبر طواه النسيان،كانت الدار البيضاء).
إن القارئ لنصوص ديوان « ترتوي بجيع القصيد» للشاعرمحمد عنيبة الحمري، يكتشف أن شعر هذا الشاعر، و على امتداد تجربته الشعرية،يتميز بالتكثيف والتركيز والقدرة على الإيحاء والتضمين، وهي سمات ساهمت، بشكل واضح، في تنويع أنماط الخيال الشعري لديه،وهي أنماط تعمل دائما على تخصيب اللغة وتشخيص الأفكار في صور حبلى بالمعاني والدلالات الحية المتولدة عن فاعلية
الإبداع الشعري لدى هذا الشاعر، وما تتميز به هذه الفاعلية من توتر وتفجير للذات الشاعرة و مجالدتها،لذلك يمكن اعتبار شعر محمد عنيبة الحمري نموذجا من النماذج الشعرية التي تسعى إلى بناء مشروع تفاعلي مع القارئ المتلقي لتجاوز الواقع الراهن ومحاولة الوصول إلى واقع ممكن أو محتمل، تتكشف فيه العلاقة بين الشاعر والإنسان من جهة، وبينه وبين المجتمع والكون من جهة أخرى.

المراجع المعتمدة:

محمد عنيبة الحمري: ترتوي بنجيع القصيد- دار القرويين- الدار البيضاء- الطبعة الأولى (2019)
اليــاس خوري: دراسات في نقد الشعر – دار ابن رشد- بيروت (1979).
احســــــــان عباس: اتجاهات الشعر العربي المعاصر- عالم المعرفة – الكويت (1978)
ماهــــــــر شفيق فريد: البويطيقا البنيوية – مجلة فصول- المجلد الأول- العدد الثاني – القاهرة –(1989)
عبد الله الغـدامي: النقد الثقافي، قراءة في الأنساق الثقافية العربية.


الكاتب : د. محمد فرح

  

بتاريخ : 09/01/2021