تداعيات حول السلطة والزاوية.. والبطولات المجاورة!

 

كانت الزاوية، ذلك السبت من بداية مايو، شبه فارغة. ومحيطها أصيل ذلك «الويكاند» يميل إلى الرطوبة. خرجنا من الخزانة ثم ما تلاها من حديقة الشيوخ، التي دفنوا فيها رفقة الأنصارية المباركة. بعد صورة أمام باب الزاوية توجهنا إلى داخلها حيث غرفة استقبال الضيوف، هناك افترشنا الأرض، كما هي عادة أهل البلد، وهي عادة الزوايا في التعفف في الفراش …
كان التشابه مع غرفة بيتنا العتيق،الأصيل، مثيرا، ولون اللحاف وشكل الطاولات المستديرة يزيد من القرابة. بين الفضاءين. وما زاد من الشعور بالتقارب، مزاجيا وفضائيا، حديث دليلنا عن طقوس التعامل الواجبة بين الضيف والمضيف.
سألني هو نفسه عن الزاوية التي أنتمي إليها!
ولما ابتسمت له، انتبه إليَّ، فصحح المعنى: كل المغاربة لا بد لهم من شيخ أو ولي في المنطقة..
تذكرت العمة مريم رحمها الله، والزوار الذين كانوا يأتون إلى بيتها السخي بلحاهم البيضاء وبرانيسهم الطويلة والعمامات التي تثير دهشة الطفل ثم اليافع الذي كنته. ولطالما سمعت عن الشيخ التيجاني الذي كان مهيبا ببياض سحنته. وما زالت صورته وهو يتوضأ في فناء البيت البسيط للعمة، ونحن نراقبه من بعيد، في مخيلتي.
حدثتني نفسي عن الولي سيدي سعيد بن مخلوف، بمزكيتام، والزوار الذين يأتون منها إلى دوارنا، ويحتفل بهم أهل القرية، احتفالا يليق. ولطالما كانت الأسماء ترن في الأذن من بعيد كناية عن القبائل المتحلقة حول مزكيتام : مطالسة وهوارة ولاد رحو بن موسي وبني وراين وغياتة والتسول والبرانس وولاد حقون ومغراوة ، واهل زا وواد دبدو ومن الجزائر يحضر الأتباع.
ولطالما كان زوار. الزاوية، يأتون في المناسبات الحزينة أكثر، كما حدث حين توفي والدي وزارنا وفد من الزاوية، وقتها عرفت هذا الامتداد الذي ربط الأسرة مع الشرفاء، إلى حدود الجزائر ومدينة العروي في الناظور.
ومن المحبذ ذكره أن شباب القبيلة، اليوم، يحافظون على هذا الورد الإنساني ويحافظون على المواعيد، ولعلي لن أبالغ إذا قلت إن ذلك يتم بوتيرة أكبر من وتيرة الآباء والأجداد، كلما حان وقت اللامة او زيارة الضريح. هناك في مزكيتام ( تقول الرواية التاريخية إن الاسم مستخلص من كلمة أمازيغية مشتقة من كلمة (ثمزكيثه) التي تعني المسجد. أو أنها تعود نسبة إلى الوادي الذي كان يقصده الناس حيث كان يسمى بايغزار امزكنفي أي واد الراحة..«.
استمعنا إلى الدليل وهو يواصل حديثه عن شجرة الأنساب الشريفة، ثم حدثنا الشيخ الحالي، الشاب رضوان الأنصاري، عن لقائه بالملك محمد السادس. وعنه علمنا أن ملك البلاد قال له» أتعرف لماذا كانت الزاوية محترمة وحافظت على وجودها، ذلك أنها كانت دوما تتبع طريق الصلاح«.
وقد روى الشيخ بتأثر هذه العناية. وكررها وهو يعيد حركات الملك وقت الاستقبال وعند الحديث.
ولعل من قلب هذا التاريخ الحديث. ينبع التاريخ البعيد، لزاوية كان لها حضور قوي، ونفوذ، ومواسم متأرجحة، لاسيما في العلاقة مع العلويين.
وتقول كتب التاريخ وتفاصيله.:»
وفي اللحظة التي وصل فيها العلويون إلى السلطة كانت الزاوية الناصرية من أغنى زوايا المغرب وأوفرها مالا وأملاكها في مختلف جهات المغرب. هذا النفوذ الاقتصادي بالإضافة إلى نفوذها الروحي كان له أثر في اتخاذ موقف متحفظ في بداية الأمر تجاه الحكم الجديد، ورغم أن هذا الموقف لم يأخذ إلا بعدا دينيا إذ رفض شيوخ الزاوية ذكر اسم السلطان في خطب الجمعة، وقد كان يعصف بالزاوية وبالتالي بممتلكاتها وشيوخها. فقد ورد في طلعة المشتري أن الشيخ محمد بناصر لم يخطب لملك قط فوقع بذلك بينه وبين المولى الرشيد العلوي شأن فبعث هذا الأخير إلى الشيخ كتابا أبلغ فيه من التهديد والتقريع وأمره بالمثول بين يديه والقدوم لدى حضرته وإن تخلف فعل به وفعل، فلما فض الشيخ الكتاب وقرأه كتب في أسفله:»فاقض ما أنت قاض، إنما تقضي هذه الحياة الدنيا.»، فلما بلغ الرشيد هذا الجواب قام وقعد وجهز كتيبة في الحال وسيرها إلى الزاوية للإيقاع بالشيخ وحزبه، إلا أنه وبعد تدبر في ذلك الجواب أمر بعودة الكتيبة وقال :»والله ما يخرج هذا الخطاب من قلب فارغ ولا حاجة بنا إلى إذايته فإن شاء خطب، وإن شاء ترك».
«وقد نهج خليفته أحمد طريق أبيه، فرفض بدوره ذكر اسم السلطان المولى إسماعيل في خطب الجمعة، وتعرض بسبب ذلك لانتقادات كادت أن تعصف به هو الآخر».»الملاحظ أن رفض الشيخين الخطبة باسم السلطان على المنبر إنما كانت تمليه رغبتهما الثابتة في الحفاظ على السنة والخوف من السقوط في بدعة من البدع».
يبدو أن الطريق الذي سلكته لنفسها جعلها باستمرار قوة معنوية تتخوف من السلطة، لكن ذلك لم يمنع قوتها المعنوية التي يصدق فيها القول كل ما هو روحاني هو بالضرورة سياسي:toute mystique, est politiqueَ« ..
تناولنا الشاي والمكسرات والفواكه الجافة، التي تعرض عادة على الضيوف، ورفع شيخ الزاوية الدعاء، لنا وللسلطان والمسلمين، ولكل أهل الورد في العالم. ولا شك أن الكثيرين فكروا في امتدادات الزاوية من المغرب إلى …اندونيسيا ومن تمكروت إلى جاكارتا!
لم نزر مسجد الخلوة الذي سمعت به، كما لم تتح لنا الفرصة لنلتقي بالتلاميذ الطلبة، ظهرا، لفترة العطلة واليوم يوم سبت…
لو أسعفنا الخيال كثيرا لحاورت ابا يزيد البسطامي أو من في ذلك المعتلى من سكان الروح العميقة في مقابر الأولياء، ومن أدراني أني كنت سأحدث جدي سيدي سعيد بنمخلوف الذي حدثتنا عنه الجدات طويلا وأنصت إليه الآباء بحنين صامت وخفي.
غادرنا الزاوية، ولن أخفي الشعور العميق بأننا خرجنا من بيت غامر، بين السماء والأرض، بين الدنيا والآخرة، كما يحدث في السفر التكويني للمريدين، بدون أن نطيل في الإقامة.
وما كان لي ألا ألقي نظرة، ونحن في سيارة العودة إلى زاكورة، على بعد حوالي 20 كلم، على مطبوع يعنى بسيرة الشيخ المجدد، وبالدعاء الناصري.
وقبلها حدثنا الدليل عن أرجوزة حاسمة تسمى سيف النصر«، وهي ترفع بالتضرع على »كل ذي بغي ومكر« ولعلهم كانوا كثرا في زمن التقلبات التي عرفتها المنطقة بين صعود نجم وسقوط نجوم في السلطة والجاه.
وفي الدعاء الناصري ما يطيب خاطر المحكومين من الرواد والعامة، كما فيه ما يدعو إلى تفكير الخاصة والنخب. ولعل من أطرف ما قيل لنا وقتها هو الحديث عن العامة حين تطغى. ومن مطلع الدعاء يحتفل القلب بـ:
يا من إلى رحمته المفر وإليه يلجأ المضطر
يا قريب العفو يا مولاه
ويا مجيب من دعاه
بك استغثنا يا مغيث الضعفا
فحسبنا يا رب أنت وكفى..
==
أردد: حسبنا يا رب أنت وكفى!
في العودة، عاد الحديث عن محاميد الغزلان. في ذلك روى عبد الرحيم شهيد قصة يتداولها الناس عن هجوم تم في ثمانينيات الحرب الرهيبة، التي خاضها المسلحون الانفصاليون والجيش الجزائري ضد السكان في المنطقة.
بالرغم من أن المنطقة ليست في حدود النزاع فقد كان الهجوم يحمل أكثر من معنى: ذلك أن المحاميد هي منصة المغفور له محمد الخامس في الدعوة إلى تحرير الصحراء ومنها علا صوته يدعو إلى استكمال الوحدة: قبل تحرير الجزائر وقبل ميلاد البوليزاريو، وقبل أن تكشف العقول الخبيثة عن نواياها اللئيمة. ولعل في قلب ذلك كشف محمد الخامس عن مشروع دولة للبدو يكون مركزها في تيندوف كما كانت فرنسا تخطط، وتولته من بعد إسبانيا والجزائر للأسف!

الجندي المتقاعد الذي أفشل الهجوم المؤامرة

لم يغب عن حديثنا ذكريات الثمانينيات الحارقة. وما عانته المنطقة في ظل الحرب على بلادنا.
ولعل إحدى القصص التي تثير الدهشة ما حدث في هجوم أكتوبر 1980 على محاميد الغزلان. وهو الهجوم الذي كان وراء الغضب الملكي عند الحسن الثاني الذي اعتبره بالمؤامرة لأنه أدرك مغزاه ومعانيه.
ومن القصص التي رافقت ذلك ما أبان عنه الناس من معدن أصيل في الهجوم الذي قاده أحد رجالات الانفصال وقتها، وتقول الحكاية إن جنديا متقاعدا رأى رتل المهاجمين يتقدمهم قائدهم وهو يركب سيارة جيب، ولاندروفر، مكشوفة تحمل صواريخ «الصام» الروسية، وقد قاموا بوضع جلود الجمال على محركاتها حتى لا يسمع له أزَّا وكان القائد يحمل كلاشنيكوف في يده، على غرار الصور المشهورة وقتها لكبار قادة حرب العصابات في أمريكا اللاتينية. كان الهجوم من أجل الرمزيات ولكن أيضا من أجل تحرير مسلحين سابقين كانوا معتقلين في قلعة تاكونيت.. وتقدم هذا الجندي المتقاعد من مركز عسكري في المدينة يطلب سلاحا ناله بعد مشقة، وكان أن سدد باتجاه قائد الهجوم وأرداه قتيلا. وهو ما تسبب في ارتباك واضح للمهاجمين سهل على الجنود مواجهتهم وصد هجومهم الغادر.. هي قصة علقت عليها بأنها تمتلك كل مقومات المشهد السينمائي، الوطني العميق. كيف استطاع جندي متقاعد أن يعود إلى سلاحه ليصد هجوما عنيفا كان في فترة عرفت سعارا مسلحا حقيقيا ووتيرة رهيبة في قتال الحدود.
وهذا الصمود المغربي يجعل للمنطقة مكانة في الخارطة الجديدة للوطن، ويعطيها الحق في الاستفادة من الوضع الاستثنائي لأقاليمنا الصحراوية.كما رافع عن ذلك الكاتب الأول إدريس لشكر في افتتاح المؤتمر الذي انعقد في يوم الغد بزاكورة.
لا بد من الحقوق المجاورة ، كما نقول في الزمن الفني، لكي تكون لزاكورة ومنطقتها آفاق مستقبل لا ينفصل عن منطقة الصحراء التي اقتسمت معها الجغرافيا والحرارة والميلاد السياسي والجوار الصعب والدامي..
المساء لا يسقط الحرارة ..تظل حاضرة في الهواء، وفي ذراته الساكنة. المساء مستقطع من الوقت الذي يحرض على الحلم، والسعادة في الواحة . المدينة الواحة التي تستوجب منا أن نسير فيها لكي نتملك بالحواس هذا النعيم. لكن الواحة هي شرط السماء والجفاف، وهي أيضا وجود خارطة بعيدة عن عقل النخبة التي تقرر. كانت الحكومة تعد حصيلتها، وتصونها في السجل السياسي، ومما لاحظته أن الحصيلة التي تطلبت ساعتين ونصفا من الزمن لم تتحدث، ولو بالاسم، عن.. الواحات، وهي ما هي في بناء الهوية والوجود والخطة. وهي ما هي في صادرات» الدلاح »المتهم بتهريب الماء.!


الكاتب : عبد الحميد جماهري

  

بتاريخ : 28/05/2024