تشظي مرايا الهوية في ديوان «سأم المسافات»لجمال أماش

 

بالنسبة لقارئ غير دروب بالمسافات التي قطعها الشعر المغربي الحديث، فإنّه سيتجشم بعض العناء في تلقّي متن القصائد الّتي يضمها ديوان «سأم المسافات» للشاعر جمال أماش . (1)
سؤال المسافة في هذا العمل الشّعريّ هو سؤال حول [الهوية الشّعرية] في الوجود والزّمان . إنّنا حين نعود إلى بعض المراجع النّقدية مثل كتابيّ الشاعر والنّاقد عبد اللطيف الوراري : «في راهن الشعر المغربي : من الجيل إلى الحساسيّة « و «سير الشعراء : من بحث المعنى إلى ابتكار الهوية» (2)، فإنّه يسهل الفهم في معرفة وقراءة وتأوّل دلالة المسافة [من / إلى] باعتبارها استعارة تمثلّية لتشخيص مسارات الشّعر المغربي والوعي المعرفي الذي صاغ هذه المسافات تجربة ونظرّية .
ثمّة أعمال شعرية مغربية انكبّت هي الأخرى على مساءلة الوعي بهذه المسافة، وبسؤال الهوية الشعرية ولكنها اختارت عناوين رمزيّة ذات كثافة مجازية مثل «هذا الأزرق» لمحمد بنيس و»فكرة النهر» لحسن نجمي (3) . فالأزرق عند محمد بنيس استعارة تخييلية للوجود المطلق للشعر، وهو وسم للهوية الشعرية ينحت دلالاته من لغة الفن التشكيليّ وشعريات المتخيل. أمّا النهر عند نجمي حسن فهو ترميز للسيرورة الشعرية، وأوّل من تأّوله رمزيا على هذا النحو هو هايدغر في قراءاته لشعر هولدرلين (4) وشاع استعماله في الملأ الشعري كما هو واضح في ديوان آخر لمحمد بنيس بعنوان «نهر بين جنازتين» (5). ومؤخرا أصدر الشاعر صلاح بوسريف سيرة شعرية ثقافية بعنوان «زرقة الشعر: ما أنا ومن أكون» (6) تؤكد المعنى الذي نحن بصدد قراءته .
حاولنا في هذا الاستهلال الكشف عن السياق التداولي الذي يمكّن القارئ من قراءة وتأويل ديوان «سأم المسافات» باعتباره لحظة جوهرية في أزمنة الشعر المغربي الحديث المتعددة . وعلى اعتبار أنّ الديوان محكوم باقتضاء سؤال الهوية الشّعرية، فإنّ لغته وفضاءاته الشعرية التخييلية تستقطب في تشييدها النصّانيّة القصائد بنيتين دالّتين وهما تحديدا :
– المكون الأوتوبيوغرافي
–المكون الميتاشعري

حين كان الأدب في عنفوان اللحظة الإيديولوجية تحفزه بحماس ثوري إرادة التغيير وتجاوز الواقع إلى أفق بديل، فإنّ هذا الحماس الفوّار الأشبه بالعقيدة والإيمان جعل روائيا مثل عبد الرحمن منيف من خلال عنوان روايته «سباق المسافات الطّويلة» (7) توّاقا إلى حرق المسافات. وهذه الرمزية النارية (الاحتراق والاشتعال) نجد صداها عند الشاعر جمال أماش في ديوانه «اشتعال الثلج» (8) . وهي تشتغل كمعادل رمزي لمفهوم الالتزام والأدب النضالي عمّت كل نصوص الشعر المغربي والعربي الحديث في أوّار لحظته الايديولوجية .
في بداية حياته الأدبية كتب أحمد المديني ديوانا شعريا بعنوان «برد المسافات» (9) حيث تعبير المسافات يحفل بمعاني الشعر كـ [ مكابدة ايديولوجية ] وهو معنى نجده كثير الشيوع لدى العديد من الشعراء المغاربة . أذكر من بينهم محمد بنطلحة في ديوانه « نشيد البجع « (10) كما أوضحت ذلك في كتابي «شعرية القصيدة المغربية الحديثة « (11) .
يمكننا قراءة تناصيات هذا الأفق الدلالي في دواوين الشاعر جمال أماش «اشتعال الثلج» و»خطوات تتقدم الموكب» و»حارس النبض» (12)، لكن الزمن الشعري الآن يستبدل مراياه بإبدال نصّيّ مغاير فتنطفئ شعلة اللّهب المقدس لـ «سارق النّار من الآلهة « (13) ، إذ يتوارى الصوت البروميثيّ خلف سجف الأزمنة الرمادية، ويظلّ الفضاء شاغرا لحلوليّة السيزيفية بكلّ حمولتها الدلالية المشخصة لصورة زمن عبثي ..زمن القلق والسأم الوجودي كما تجسّد ذلك أعمال أدبية لأدب العبث واللامعقول مثل «السأم» لألبرتو مورافيا و»الغثيان» لسارتر و»الغريب» لألبير كامو و»المسخ» لكافكا و»بعكس الماء» و»صفير في الأدراج» لمحمد بنطلحة و «كوميديا العدم» لصلاح بوسريف .. وغيرها . (14)

الآن : في العراء الفسيح للفقدان تتضبّب الصورة في كثافة اللايقين، نقرأ من قصيدة «أشجار لا تخفي شيئا « :

لست حمّال أوجه
المرايا تراني ولا تعرفني
(…)
قد أكون أولا أكون
وقد أبدأ من جديد

على هذا النحو يورد الشاعر استعارات «اللاهوية» بلغة تقرأ أوتوبيوغرافيا المسار الشعري، ولا تقبض على صورة الوجه في ملامح الصوت :

الفرح الذي عاكسني ذات سفر
لم يكتب له أن يصعد مقدمة المشهد
(…)
كلما وطأت قدمي بصمة الطين
أتحول إلى مزهرية مستعدة أن تتكسر كل لحظة

يستعير الشاعر تعبير [مهن اليأس] ليتحدث عن [الشعر والشعراء] في أزمنة السأم :

الآبار جفت الآن
وعليهم أن يغيروا مهن اليأس
برغيف مسروق وبيض فاسد وماء الصرف الصحي
عليهم أن يؤمنوا بحروب تافهة
يحركها صانع الدّمى
قصيدة «أضغاث عسل» . ص 16

يندس الميتاشعري في لغة الشاعر مجسّدا لوعي مفارق يقرأ وينتقد أوتوبيوغرافيا المسافة / المسار الشّعري : غبار الحروب الإيديولوجية الذي تراكم على جسد القصيدة حوّل الشعراء إلى ممتهني اليأس، وعلى الشعراء البحث عن [كتابة أخرى] من أجل القبض على ريش القصيدة المنفلت من قبضة الرّماد وعبث الريح ، نقرأ من الديوان :

الزمن جسد
له إيقاع الأشجار
تجري، تسبق الريح في رحلتها إلى الهاوية
تخضر أوراقها تطير
وأنا أجري لأقبض على ريش القصيدة
طائرا في سماء بعيدة
الأوراق مسكنه
واللغة قد تحيا في صمته
عروشا وأغصانا جديدة
قصيدة «اعترافات منتصف النهار». ص 20 – 21

في أربع قصائد متوالية وهي: «سأم المسافات» و»جناح السقوط» و»حطب الثلج» و»ما أكبر الفكرة ما أصغر الرحلة» نجدنا في بؤرة التشخيص الشّعري الأمثل للمعنى الشعري [سأم المسافات] ، فهي نصوص فصيحة المجاز في التّعبير عن [اللايقين الشعري السائد] ، تتوسل بتوظيف زاخم للغة الميتاشعرية في تشخيص ونقد الذّاكرة الشعرية، وفي تشريح مكامن الوهن والصدأ والبلى التي اعترت الجسد الأوتوبيوغرافي للقصيدة المغربية الحديثة من عهد السبعينات إلى الآن، الشاعر جمال أماش يساوق بين الوعي الميتاشعري والإيرادات المتعددة من نص السيرة الذاتية ونص الذاكرة والتاريخ، دافعا بهذه القصائد الأربع إلى طابع نصوص أقرب إلى «البيانات الشعرية» . (15)
لم ينتبه النقاد إلى أن هذا [اللايقين الشعري] قد اختطّ هويته المتشظية في ديوان سابق للشاعر وهو «ملح الفجوات» (16) الذي نقرأ منه :

عفوا أيها المساء
فأنا رهين رصيف
أجلس إلى طاولة وأنحت سليلا
آخر .
قصيدة «بمحراث يشق المسافة» . ص 7

ففي هذا الديوان تتهشم مرايا الهوية الشعرية في مشهد «غسقيّ « يقف فيه الشاعر على هاوية المسافة من أجل استشراف ميلاد السّليل / الآخر. ذلك ما يعود إلى تشخيصه باكتناز كثيف في القصائد الأربع المشار إليها، والّتي ينعقد مفصلها الدّلاليّ على تيمة البحث عن [هوية شعرية مغايرة] ، نقرأ مع الشاعر :

سقط المكان في التيه، وأصيب بالصم. ربما يصرخ في بئر الذاكرة . وربما لم تعد
له علاقة بنا ، لم نعد نسمع بعضنا..
(..)
سقط المكان ، وسقطنا في نسيان دمنا ..
«هل نحيا بماء الذاكرة ، أم ننتظر أن يمحو عنّا الزّمن غبار المسافات»

قصيدة «جناح السقوط» ، ص 51

تخلق اللغة الميتاشعرية [مسافة إدراكية في الوعي] لأجل [قراءة نقدية مختلفة ومغايرة] تتغيا البحث عن إبدالات رمزية جديدة للأنا الشعريّ، وأعتقد أن قصيدة مثل «خرقة النسيان» تفضي بسؤال الهوية الشعرية إلى رحابة أفق جديد، حين يجعل أثر النّسيان فعلا إبداعيا للتحرر من أسر [الذاكرة المعتقلة]، نسفا لذاكرة الجاهز وتشريح جسدها المحنّط في مسكوكات وعي غدا قيد التّجاوز ، نقرأ مع الشاعر من ذات القصيدة :

النسيان يحيط بك من كل جهة
ظلك الذي لا يغيب
يمتد في الأشجار
وفي حقيبة تنتظرك كل مساء
(…)
تنسى أنك الذي يحدثك

بدلا عنك
(…)
أنسى جناح فراشة
فأرى الجذور في أغصان لا ينفضها الخريف
(…)
من غسق ينسج من حلمنا أفقا
كي أنسى ظهرها إذا سابقت الرّيح
في صوتها لأحيا
أو أفشي سرّها إلى بياض ألج منه سمّ إبرة غربا وشرقا

قصيدة «خرقة النسيان» ، ص 46 – 47

النسيان هو «المحو العائد» بتعبير موريس بلانشو (17) هو انبجاس للأنا الشّعري من [نصّ الغياب]، عوده الّذي لم يقل، ومجيء [اللاّ لم يسمّ بعد] إلى نفخ الكتابة لتستعيد القصيدة انتساباتها الجذرية إلى سيرورة البدايات .

عودة الشّعري كلحظة بدئية تدشينية تعود بالنّهر إلى منابعه التأسيسية، وبالزرقة إلى رحم الغيمة الأولى .


الكاتب : محمد علوط

  

بتاريخ : 26/04/2024