«تغريبة القافر» الفائزة بجائزة البوكر 2023

 

الحياة من الماء إلى الماء

 

فازت رواية «تغريبة القافر» للكاتب العماني زهران القاسم بجائزة البوكر لسنة 2023، فسلطت عليها الأضواء، وتقاسمها القراء على مواقع التواصل الاجتماعية، وكتب عنها كثير من النقاد. في هذه الأسطر، سأقدم قراءتي الخاصة للرواية، ليس كناقد متمكن من أساليب النقد وأدوات التحليل، وإنما كقارئ بسيط.
تقرأ الرواية عادة من عتباتها الأولى، من العنوان والغلاف… رغم أن هذه العتبات، في نظري، قد تكون ذات طابع تسويقي وتجاري – تشد انتباه القارئ- ولا تأخذ بالضرورة طابعا فنيا وإبداعيا.

العنوان:

«تغريبة « من الغربة والضياع والتشتت. و»القافر» من يقتفي أثر شيء، يصعب على بقية الناس تعقبه. إذن نحن أمام متعقب غريب وضائع. وفي مستهل قراءة النص، لا نعثر على إشارات تربط النص بعتباته إلا حين نصل إلى الصفحة 122. حينما تقول كاذية بنت غانم: «بيجي الجديد، مادام القافر معك».

صورة الغلاف:

في صورة الغلاف، نرى مغزلين خشبيين معلقين على سلك حديدي، وراءهما جدار متشقق أخضر. في بداية قراءة النص لن يفهم القارئ علاقة العنوان بالصورة من جهة وعلاقتها بالنص من جهة أخرى. فيبقى السؤال معلقا، محتفظا للنص بشيء من الغموض والاثارة حتى نصل إلى الصفحة 213. حين نقرأ على لسان الراوي:
«بدأ المغزل في الدوران … وعينيها لا تريان سوى تلك الخطوط النازلة». ومما سبق أقول: إن العنوان والغلاف قد خدما النص جيدا وعبرا عما يحتويه، كما احتفظا له بأسراره ما يجعل القارئ مقبلا على تتمة قراءة النص دون ملل.

الموضوع:

تتناول الرواية الماء كموضوع رئيسي، وتبين تأثير وفرته خلال السنوات المطيرة وندرته عند الجفاف، على نفسية ومزاج وعلاقات البدو، وما يرافق ذلك من أساطير وخرافات. كما تهتم «بالأفلاج « كنظام تقليدي لري البساتين والحقول في بلدة عمانية نائية تسمى «المسفاة».

عقدة الرواية:

تتمحور أحداث الرواية حول شخصية سالم بن عبد الله بن جميل الملقب بالقافر، الذي يقتفي أثر الماء في باطن الأرض، ويسمع صوت تدفقه وجريانه من خلال حاسة سمع قوية وعجيبة. كما يشهد القارئ حياة هذا الصبي وهو يكبر في قرية المسفاة، ابتداء من ولادته الغريبة، ثم تربيته في كنف كاذية بنت غانم ومرضعته آسيا بنت محمد ووالده عبد الله بن جميل إلى أن يتزوج نصرا بنت محمد…
ومن أجل أن يصل بنا الكاتب إلى عقدة الرواية: هل فعلا بمقدور الطفل سالم أن يقتفي أثر الماء داخل باطن الأرض ويسمع تدفقه وجريانه أم أنه ممسوس بجن؟ وحتى لا تبدو هذه الموهبة خيالية وأسطورية وبعيدة عن الواقع، قام الراوي بإرسال بعض الإشارات، يعتبرها السبب في بروز ملكة تعقب مكان الماء لدى سالم القافر، حتى وإن لم يصرح بذلك علانية. كأن يشير مثلا إلى أن الطفل ابن غريقة ماتت في بئر وهو في بطنها. أو حينما يقول في الصفحة 31: «… وعندما اقتربت منه لاحظت شقا في السقف تنز منه قطرات المطر فتتساقط على أذن الرضيع. كان فراشه مبلولا، وقد امتلأت أذنه اليسرى بالماء».
يكبر الطفل شيئا فشيئا، تضطهده القرية ويشككون في موهبته، يزعمون أنه ممسوس بجن ويكلم أهل تحت الأرض. تتوالى سنوات الجفاف وتنطلق القرية في بحث محموم عن الماء، يرشدهم سالم القافر إلى مكانه لكنهم يسخرون منه ويضحكون عليه. وبعد تعب طويل، يجبرهم على سماعه ويعثرون على الماء بفعل ملكته.

ملاحظات:

ومن أجل إيصال بعض الأفكار، والتلاعب بالزمان، يفتح الكاتب بين الحين والآخر نافذة التذكر والحلم، فيجعل من شخصيات النص يحلمون ويتذكرون ويسرحون بعيدا بخيالهم، فيروي بين الحلم واليقظة كأن يقول مثلا:
كانت أحيانا تغفو على الدابة (يقصد آسيا بنت محمد) وتحلم بيد صغيرة لطفل تخرج من صفحة الماء. ص 47.
أخذت الغفوة عبدالله بن جميل ورأسه موضوع على كيس الزاد. ص 69.
يقال أن الشايب حميد بوعيون أخذته سنة من النوم وقت الضحى فرأى نارا تجتاح البلاد ص 98.
أو لعله شعر بنعاس مع تلك النسمات … أغمض عينيه …ص155.
وإذا سكن الليل وهدأت حركة الناس، راود النعاس عيني القافر تراءت له مزرعته خضراء يتماوج فيها القت مع النسيم. ص 165.
سحبه النوم إلى عوالم اخرى فرأى نفسه … ص 166.
وكلما استسلم للنعاس يرى الماء يجري في الصخرة … ص169.
ثم أخذه النعاس شيئا فشيئا، أغمض عينيه…ص187.
ومما سبق أعتقد أن الكاتب بالغ شيئا ما في فتح نافذة الحلم والتذكر.
في «تغريبة القافر» تكاد تجد نفسك تعيش بين الناس، تحس عطشهم وظمأهم، تفرح لفرحهم وتحزن لحزنهم، بما يزخر به النص من مفردات محلية عتيقة، وحوارات كلها بالعامية العمانية، وتشبيهات واستعارات تنهل من حياة القرية ومجتمع البداوة وكأمثلة على ذلك نسوق ما يلي:
«وكان يسمع حتى دبيب النمل وهو يتسلق في الأشجار» ص 80.
«انتشر كما تنتشر النار في زور النخل اليابس». ص 153.
«وابتسم ابتسامة عميقة علقت بين شفتيه كما تعلق آثار اللبن عندما يشرب في الصباح الباكر». ص 153.
وإذا أمكن تصنيف العمل في خانة الرواية الواقعية، التي تعالج موضوعا معاشا حتى وإن طبع التخييل عملية السرد داخل المتن الروائي، فهذا يدفعنا إلى سؤال قابلية التحقق.
في الصفحة 12 نقرأ مع الكاتب ما يلي:
« وقفز إلى القاع، وغاب.
استمر في غيابه طويلا، كان قلق المنتظرين عند حافة البئر يزداد، بينما كان هو يلف الحبل جيدا حول الجثة كي لا تسقط عند سحبها.
وعندما رأى عينيها المفتوحتين مد يده وأسدل عليهما الاجفان، أغمضهما وهو يحوقل ثم باشر بإخراجها. صرخ بهم من عمق البئر أن يسحبوا الجثة وظل مكانه حتى تيقن من أنها خرجت وصعد متسلقا الحجر دون ان يطلب المساعدة».
هل يمكن أن يحدث كل هذا وهو في قعر البئر تحت صفحة الماء؟!
في الصفحة 127 نقرأ بنوع من التناقض:
«ثم حمل المطرقة بيده والقى بها على كتفه لكنها كادت تسقطه وجعلته يتململ في مكانه حتى إذا ركض الشيخ ليسنده. أوقفه قائلا: سليمان بن خميس ما مات.
وحمل الشايب سليمان البنك( المطرقة) وخرج…
في نفس الصفحة يعود ليقول:
«عقد العمال المطرقة بأشد الحبال حتى ينزلوها إلى الأسفل، ولم حاولوا رفعا من مكانها لم تتزحزح شبرا على الارض».
فكيف لرجل كبير السن يحمل مطرقة لا يستطيع عمال كثر حملها؟
في الفصل الأخير الذي أسماه الكاتب بالنهاية. ختم الرواية بالجمل التالية: تداعت الصخرة أمامه، وانفتح الخاتم على النفق الطويل، فانطلق الماء بقوة وجرف معه كل شيء. وقد اختار نهاية مفتوحة تحتمل تأويلات عدة. أقواها حسب رأيي أن البطل الذي تتبعنا قصته في 228 صفحة، قد هلك.
وعلى العموم، اتسمت الرواية بلغة سردية ممتعة، راعت خصوصية الموضوع، وبنفس إيقاعي سريع، وبكثير من الشخصيات، تعرفنا قصص بعضها بالموازاة مع قصة البطل، كشخصية الوعري. والأهم أن الرواية فتحت أعين القراء على أدب رقعة جغرافية عربية لم نكن لننتبه لها لولا هذه الرواية المتوجة.


الكاتب : محسن نموس

  

بتاريخ : 22/06/2023