تمثلات المحكي في الرواية المغربية المعاصرة  

حدود التاريخي والتخييلي: «بيضة العقر» لمحمد الهجابي نموذجا

 

 

في البدء ننطلق من سؤال مهم، ونحن بصدد قراءة رواية «بيضة العقر» للروائي المغربي محمد الهجابي، وضعه ولغ غانغ كايزير، هو: من يحكي الرواية؟1 بحيث إن هذا السؤال، هو محور المحكي الروائي في النص ككل، ذلك أن الرواية، ومنذ انطلاقتها كانت مشدودة إلى تيمات محصورة في شكل كلاسي محدد، إلى حدود القرن 18، سيتحقق انقلاب جذري، وبالتالي يفرز ما يسمى بالرواية الجديدة. هذه الأخيرة اتسمت بإعادة الاعتبار للأسلوب الروائي، إذ تماهت فيه العلائق بين الشخوص والعلاقات السوسيوثقافية، وبين الأزمنة والأمكنة، وبين القصة والحكاية، إضافة إلى الشكل الذي لم يعد قادرا على احتواء التصدع الذي ألم بمفاصل الرواية، فكان من الضروري أن ينتبه البعض إلى هذا التحول، وأن يكون التعامل معه بجد، لأن ما تتميز به الرواية الجديدة يتمثل في عناصر محددة، هي:» أنها تثور على كل القواعد، وتتنكر لكل الأصول، وترفض كل القيم والجماليات التي كانت سائدة في كتابة الرواية التي أصبحت توصف بالتقليدية، فإذا لا الشخصية شخصية، ولا الحدث حدث، ولا الحيز حيز، ولا الزمان زمان، ولا اللغة لغة، ولا أي شيء مما كان متعارفا في الرواية التقليدية متآلفا اغتدى متآلفا مقبولا في تمثل الروائيين الجدد»2،، و نلاحظ بأن كايزير كان قد حدد خيوط لعبة الحكي، وذلك حين قال: «إن سارد الرواية ليس هو المؤلف»3، و»إن السارد شخصية تخييل تقمصها المؤلف»4، و»إن الرواية ملحمة ذاتية يلتمس فيها المؤلف السماح له بتناول العالم حسب طريقته»5، و»إن (السارد) هو السيد المطلق للزمن والمكان..6، و»إن الروائي خالق عالم»7، هكذا، إذن، يتبدى لنا مدخل قراءة رواية «بيضة العقر» للروائي محمد الهجابي، ولابد أن نقف، بداية، على محاولة استقرائية تكشف لنا مقصدية العنوان. 

 

 العنــوان: أفق تشييد
دلالة النص  

في الشروحات اللغوية يرتبط لفظ باض بالطائر الذي يلقي بيضه، إلا أن (البيضة) واحدة البيض، وهي جسم يتكون من إناث بعض الحيوانات، ولاسيما الطيور، فيه مادة يتولد منها حيوان من جنسها، “بيضة القوم”، ساحتهم، “بيض البلد” أكبر قومه، الذكر الذي لا يعرف نسبه. “بيضة الديك” يراد بها المستحيل الوجود أو ما لا يكون إلا مرة، “بيضة الحر” شدته، “بيضة الخدر” الجارية، “بيضة العقر” آخر الأولاد، مقابل لفظ عقر (فعل) عقره عقرا، جرحه، نحره، العقر كمصدر وسط الدار، محلة القوم، البناء المرتفع، المنزل، وضمن هذا المنطلق، يحيلنا العنوان إلى تركيب إضافي (أي إضافة العقر إلى البيضة)، ودلالي يستثمر العلاقة بين التاريخي والتخييلي، أي أن هناك تركيزا على أوراق أو وثائق تعود إلى الذاكرة، وأخرى يتكلف بها السارد وهو يعيد ترتيب الأوراق الأصلية والفرعية، ومهما كانت الأصلية تاريخية والفرعية تخييلية، فإنهما يهدفان إلى نتيجة واحدة، تتمثل في المخاتلة والتوجس.8
إن العنوان لا يؤدي وظيفة من تركيبيته المعجمية، بل من إيحاءاته التي تنفتح على دلالة مزوجة بتعبير ميخائيل ريفاتير، بحيث يمكنه أن يكون مسنودا إلى نص، في حين تقتضي الدلالة خلقه لأفق انتظار آخر، أي بناء نص ثان في متخيل القارئ، هذا التشييد الدلالي رهانه لا يخرج عن صياغات المصاحبات النصية والعتبات، ولعل ما يستوقفنا هنا، هو الموجهات التالية للعنوان، نقرأ مثلا:
( وضمنه بعض ما جاء في مذكرة النحيلي الخاصة بصدد هذا النص وعلى هامشه)، أو عندما يتم تقديم تنبيه في الصفحة 5، مفاده أن هذه الرواية (وهي ظاهرة تجنيسيا على صدر الغلاف)، لها علاقة بالواقع من خلال “تجربة في الحياة والسياسة والحب”9، وبالتالي “فأبطالها رفاق شباب التقوا ذات تاريخ”10، كما أن هناك تحديدات زمانية ومكانية خاصة وعامة، يوثقها التنبيه ب “والحكاية لا تنقل الواقع كما حصلت تماما في فترة مفصلية من تاريخ المغرب الراهن، نهاية سبعينات القرن العشرين، إنها ليست تأريخيا”11، إذن هناك تقاطع بين التاريخي والتخييلي، جاء في التنبيه:”يكون خاطئا من يخرج إطار الحكاية عن إطار التخييل”12، وبما أن الحكاية التي يسوقها النص تستمد أحداثها ووقائعها من واقع السبعينات الذي عرف غليانا سياسيا وإيديولوجيا وثقافيا، فإنها تطعم بسرد يطفر بالتخييل الذاتي الذي ينتقل إلى الاهتمام بالجماعة يقول التنبيه: “إنها (يقصد الحكاية) قبل هذا وذلك، مجرد سرد تخييلي، أو تخييل سردي إن شئتم، حتى وإن قام معماره على وقائع جرت”13.
من خلال العنوان والنصوص الموازية، يتبدى لنا أن الرواية تنحو منحى بينيا، تتناوب فيها الرؤى السردية لنقل الأحداث الواقعية وضبطها وترتيبها، ثم إعادة تشكلها وفق خطاب لا يخرج عن صوغ دلالته المتخيلة، فنحت الأسماء والشخوص الحاملة لها، هو خلق إبداعي يسهم في تبئير المعنى ومنحه صفة “الروائية”، ثم إن العنوان يمكنه أن يكون مدونة تنفتح على قراءات متعددة لأطر هدفها البحث والاكتشاف، وفي الآن نفسه وضع درجة التلقي النصي موضوع إعادة تشكيل النص الأصل”. إن قراءة العنوان تحرك لدى المتلقي مدونات مشتركة وتهيئه نفسيا ومعرفيا لقراءة النص وتشغيل ما تراكم لديه من معارف وتجارب، ولما يكون العنوان دليلا مزدوجا، فهو يتطلب من القارئ إعادة تنشيط وتحيين ما تختزنه ذاكرته من معلومات ممتوحة من النص المرجعي. وإن كانت هذه المعرفة الخلفية، تساعد القارئ على فهم مغالق النص المعاين وملء ثغراته وبياضاته، فلا ينبغي أن تشتغل كسلطة موجهة ترغمه على إسقاط ما تراكم لديه من معارف على النص اعتباطا وجورا” 14.

الرواية بين التاريخي والتخييلي  

يشير بنسالم حميش في شهادة له عن تجربته الإبداعية، وعلاقتها بالتاريخ قائلا: التاريخ ك”علم” أو “فن” في الثقافات التي مارسته، ظهر أصلا كرواية موضوعها الخبر. والخبر في التاريخ العربي الإسلامي مثلا صنفان: صنف لا ينفع معه إلا القول مع ابن كثير “فالسعيد من قابل الأخبار بالتصديق والتسليم” ومن قضاياه، كما طرقها مؤرخونا القدامى وعلى رأسهم الطبري: في أول ما خلق الله القلم أو الظلمة، وأيهما الأسبق: النهار أو الليل / في ترتيب ما خلق الله في الأيام الستة/ الروايات في خلق إبليس وآدم ، قصص الأنبياء والرسل، إلخ.. أما الصنف الثاني فهو القائم بالتواتر أو بالشهادة والوثيقة، ومنهج الكتابة فيه قبل ابن خلدون والمقريزي، لا يعدو أن يكون المنهج السائد في علم الحديث، أي الرواية المشروطة بمبدأ التعديل والتجريح لتمييز صحيح الروايات من منحولها وفاسدها، وتمكين الإسناد، الذي هو “خصيصة هذه الأمة” من الاكتمال والاتصال”15، أما بخصوص الحديث عن ربط الرواية بالتخييل، فإن المجال يقتضي الوقوف على ضرورة الانزياح عن التاريخي أو الموضوعي التوثيقي، والاستناد إلى الذاتي، أو إعادة التفكير في الأنا، فهل من الممكن أن يكون الحكي في الرواية صادقا أو كاذبا، مادام أنه يمزج الوقائع  التاريخية ويعيد قراءتها وفق ظروف مغايرة؟ إن ما حصل للكتابة الروائية الحديثة ـ وليست التقليدية ـ هو أنها خرقت كل المقاييس والإنبناءات والتشكلات التي حاولت معمارية السرديات القديمة أن تحافظ عليها وتحتمي بها، ذلك أن شروط التحول والتغير فرضت على الكاتب الروائي أن يبحث في عناصر الكتابة السردية من خلال التخييل الإبداعي ثقافيا وأسطوريا وخرافيا ودينيا…، لأن المسألة لم تعد تتطلب تصوير ما يقع وتشخيصه فقط، بل تصبح عملا أو فعلا يختزل لحظة جماعية جوهرية في حياة أمة، إنها بمثابة الشهادة أو الوثيقة، التي تؤكد أولا الواقعة، وثانيا توثقها وتؤرخها، ف “الشهادة أو الوثيقة التاريخية، كيفما تعدد حضورها وتجلت فعاليتها، لا يمكنها بأي حال أن تعطي مجالات الروح واللاشعور أو الحياة الباطنية بوجه عام، كما أنها لا تطال أيام وأعمال أصناف مجتمعية بكاملها، ناهيك عن الأدبيات الشفوية والمرويات اللامكتوبة. فهناك إذن مغارات وهوامش كثيرة لا اهتمام ولا طاقة للمؤرخين بها، وبالتالي فإنها عند فاعلي الرواية الثقافية تقوم مقام زادهم القوي ومرتعهم الخصب المتعدد”16، ثم إن رواية “بيضة العقر” استطاعت بحذق كاتبها ووعيه ومعايشته لأبرز اللحظات التاريخية ومصاحبتها سياسيا أن تقرأ وتفهم أوراقا هي عبارة عن مذكرة خاصة بالنحيلي، مضيفة لها مكون التأويل، وذلك من خلال التخييل الروائي، وذلك عندما يصرح الروائي قائلا:”بصدد هذا النص وعلى هامشه”17، هذا يجعلنا نؤكد أن قراءة الرواية تسمح لنا بتلقيها من مستويين: أولهما ثابت، هو ما ذكرناه، ويتخذ من الشهادة والوثيقة منطلقا له، وثانيهما متغير وينفتح على التخييل الروائي متفاعلا مع الأول ومستندا عليه، وفي نفس الآن مركزا على الذات والآخر والسلطة واللغة والشخوص والفضاء والزمن…إلخ، إنها إعادة تشكيل لحيوات الآخرين من منظور أوتوبيوغرافي مختلف عن الأوتوبيوغرافيا التقليدية، التي كانت تخلص لأنا الكاتب وسلطته التخييلية.
إن التركيب الروائي شكل يتمثل في شقين: الأول سردي تخييلي يسرح في سماوات محكي الشخوص وهي تبني متخيل الرواية إبداعيا، والثاني تسجيلي وصفي يصف بعض الوقائع والأحداث التي عاشتها مختلف الشخصيات، سواء كانت حقيقة صادقة أو غيرها، بحيث يمكن القول إن السردي التخييلي هو ما تمثله الأحداث المسرودة داخل محكي الرواية، أما التسجيلي الوصفي فهو المسرود خارجها، وقد تنبه لهذه العملية جيرار جينيت عندما قارب المنظور السردي Perspective narrative، معتبرا أن السارد الحاضر كشخصية في الحدث في الوقائع المحللة من الداخل هو البطل يحكي مكانته وفي الوقائع الملحوظة من الخارج هو شاهد يحكي حكاية البطل، أما السارد الغائب كشخصية عن الحدث في الوقائع المحللة من الداخل، فهو الكاتب المحلل أو العالم بكل شيء يحكي الحكاية، وفي الوقائع الملحوظة من الخارج، هو الكاتب يحكي الحكاية من الخارج”18، ثم إن الصوغ المنظوري السردي في الرواية يتحقق في ما أسماه واين بوث ب”المسافة وجهة النظر”19، لأن السارد في المحكي الروائي شكل ليس هو أصلا الكاتب الفعلي للرواية، وبما أن هناك حكيا يتأرجح بين التخييلي والتسجيلي، فإن هوية السارد تجعلنا نقف على اعتبار أن وضعية الكاتب هي فعلا ما يدفعنا للإلمام بمجريات الأحداث، خاصة أن الكاتب هو العالم بكل ما يدور في الرواية، أما السارد فهو شخصية من شخصيات الرواية فقط، وهو أيضا له ميزة المشاركة في بناء متخيل الرواية، ومع ذلك، فالسردي التخييلي يكاد يلتهم دور الشخصية، ويعضدها بتبئيره لها، ك (الهلالي) مثلا، مقابل شخصيات تتعدد في الواقع، لكنها تخرج من واقعيتها وتنزاح عنها إلى ما هو تخييلي (التحناوتي، طه ـ الأيوبي، محمد الأطرش، هشام، سلام، أمي الكبيرة، النحيلي، البصير، إبراهيم، الهواري، عماد، عبد الخالق محجوب، عبدو، السلطي، الروبيو، ناصر، محمد العز، علي شرويطي المرغادي، خالد…)، هذا إذا أضفنا شخصيات نسائية اختلفت باختلاف وضعيات سياسية واجتماعية وثقافية و”حركية”.
يبدأ التقاطع بين التخييلي والتسجيلي أو الحكائي والوصفي من استهلال الرواية، خاصة عندما يتعرف الهلالي على زايد أوسكونتي” اسمه زايد …التنظيم”20 من هذا المقطع الافتتاحي تنطلق الرواية، بل تنفتح على شهية الكتابة بالنسبة للكاتب والقراءة بالنسبة للمتلقي. “إن الكاتب لا يحكي مباشرة، بل القارئ هو الذي يكتشف كل شيء بنفسه، انطلاقا من الكلمات، الحركات، وأفعال الشخصيات”21، وبما أن طبيعة الوقائع التي استند إليها الحكي لا تخرج عن نطاق ما عايشته مختلف الشخصيات، فإنها تبدو خاضعة كافتراضات متعددة، بحيث إنها تكتسب صدقيتها من خلال أن تمظهرها النصي يستدعي تأويلها وفق اعتبارها بنية حكائية مفتوحة لما يسميه رولان بارت بلذة النص، وهو استراتيجية نصية تقتضي تأويل التعالق بين التمثيلي والتسجيلي أو الحكائي والوصفي، أو الكاتب المؤلف – القارئ والشخصية المدورة ـ الناميةـ الإيجابية، والشخصية المسطحة ـ الثابتةـ السلبية، كما أوردها عبد المالك مرتاض22.
وإذا كان المفتتح يبدأ بالتعرف ـ التذكر، فإن المنتهى اختتم بالتذكرـ التعرف، يقول السارد: “كيف أنسى سيماء هيئة ليلى؟ ناولت ليلى العصى لأحدهم في الحذاء، وأقبلت تتغندر نحونا وتتدلدل، كانت تبتسم. تسبقها ابتسامتها، تلك الابتسامة المتقحمة والمخاتلة. ومنها توجست”23، لهذا يلاحظ أن المحكي الروائي يستنبت خصوصيته من الوقائع التاريخية والسياسية والفنية ـ الجمالية، ثم يتماهى كعملية تحليلية في تثبيت الهوية، من خلال الذاكرة الثقافية بين الشخصية والكاتب، أي بين المثال والواقع، وهذا ما يجعل المحتمل يمكنه أن يكون مفارقا في صوغه وأفق انتظاره، ” وهذا يفضي إلى أن تتزامن الوقائع في بعض الأحيان، بما يؤدي إلى بروز خاصية المفارقة بين أزمنة السرد وأزمنة الحدث وغالبا ما يكون زمن السرد قصيرا، قياسا بزمن المتن الذي يتشظى دونما ضوابط منطقية”24.

اللغة السردية والبناء
الفني للرواية 

إن بنية الرواية العربية الحديثة عامة يمكن إرجاعها في قراءة خطابها المتعدد إلى تشكلها اللغوي، وبالضبط، إلى تبنينها من خلال اللغة السردية، التي ينشئها الحكي بمختلف مكوناته النصية والخطابية، وهو ما يقاربه النقد الروائي في السرديات الحديثة، وذلك باعتباره “الكيفية التي تتشكل بها المادة السردية، وطرائق تركيبها، وأساليب السرد، ثم الرؤى والمنظورات التي من خلالها تنبثق كل عناصر البناء الفني، وأخيرا الإحالات التمثيلية للنصوص على مرجعيات من خلال درجات متعددة من مستويات التأويل، وكل ذلك على غاية من الأهمية. فالإنسان عن طريق السرد (التاريخي والديني والسياسي والثقافي، وأخيرا الأدبي) يشكل صورة عن نفسه ومجتمعه وتاريخه وقيمه وموقعه، وعن الآخر وكل ما يتصل به”25، إذ أن رواية “بيضة العقر” تنطلق من هذه الخاصية التأويلية التي تستدعي مجمل عناصر البحث الاستقصائي القائم على وضع خطة منهجية محكمة، ينتظم وفقها البناء السردي والفني في الآن نفسه، فاللغة السردية، التي تشتغل في الرواية على استكانة جزئيات الأشكال والأحجام والشخوص والأمكنة ـ الفضاءات والأزمنة، بما فيها الأشياء الظاهرة والغابرة، تتحرك تقعيريا لتميط اللثام عن تفاصيل التفاصيل. هذه الآلية تخدم هدفا تمثيليا ومرآويا، بحيث إن التخييل الروائي استفاد من هاتين الوظيفتين، لكن في رواية “بيضة العقر”، وبالإضافة إلى لغتها السردية التمثيلية، فهي أيضا أوتوبيوغرافيا وظيفتها مرآوية، “ذلك أن القول بالوظيفة المرآوية للنصوص الأدبية نقض منذ أكثر من قرن، حينما اكتشف النقد عمق التباين مع العالمين: العالم الواقعي المعيش والعالم الخطابي المتخيل، مع أنهما يوحيان بالتماثل، إلى درجة يبدوان فيها متماهيين مع بعضهما لدى المتلقي العادي، إلا أنهما شديدا الاختلاف فيما بينهما من ناحية المكونات والعناصر، فالعالم الخطابي محض تشكيل لغوي يتكون في مخيلة المتلقي بالقراءة ولا وجود له قبلها، بل إنه عالم خامد داخل الكتاب تقوم القراءة بتنشيطه وبعث الحياة فيه، فكيف يمكن اعتباره مناظرا للعالم الواقعي !؟”26، وبما أن التقعير كآلية تشخيصية لما تحمله اللغة من دلالات ، فإن ذلك يجعل العمل الروائي فنيا يحترم شرط سمته الروائية، وبالتالي خصوصيته الأدبية، وذلك على أساس أن أي عمل إبداعي حداثي هو عمل باللغة قبل كل شيء، بل هي اجتزاء ما يستحق أن يكتب ويقال ويقرأ. إن لغة النسج السردي بتعبير عبد المالك مرتاض، هي لغة فصيحة، هادفة، ودالة أولها مكانتها في البناء الفني للرواية.
هذا الاستعمال اللغوي الحاذق والذكي، والتبئيري في الوقت نفسه، يدفع القارئ إلى الوقوف على القدرة الإنجازية للغة لسانيا، والدلالية فنيا، وهو ما يتم التنبيه إليه في بداية الرواية، يقول الكاتب بصدد حديثه عن (الحكاية)” … إنها لا تزعم أنها لم تستخدم بعضا من أدوات الجراحة والتشريح الطبيين من مبرغ ومشرط ومبضع ومبط، وما شابه، في جسم هذه الحيوانات لغايات النأي بها، قدر الإمكان، عما قد يماثلها في التجربة العيانية، الأدوات هاته فعلت فعلها تعديلا وتحويرا ومداورة وتطبيبا، لا مشاحة في الأمر” 27، هكذا تصبح اللغة في الرواية ليست طبيعية، كما هي لغة الإنسان العادي، بل هي ملفوظات تنزع نحو بناء كتابة روائية سمتها الشعرية في بلاغة خطابها وجمالية نسج أسلوبها، فهل  يمكن اعتبار”اللغة هي أساس الجمال في العمل الإبداعي من حيث هو، ومن ذلك، الرواية التي ينهض تشكيلها على اللغة بعد أن فقدت الشخصية Personnage كثيرا من الامتيازات الفنية، التي كانت تتمتع بها طوال القرن التاسع عشر، وطوال النصف الأول من القرن العشرين أيضا …إنه لم يبق للرواية شيء غير جمال لغتها، وأناقة نسجها”28، وما تحمله من دلالات فنيةـ جمالية تخص مختلف تأملات وتخيلات الكائن البشري الذي يحلم باستدعائه كتمثلات صور منتخبة من عوالم مفترضة.

خلاصة 

تسعى تجربة محمد الهجابي الروائية إلى تفعيل تحديث الكتابة السردية  من منظور حداثي، وذلك من خلال انتساج متخيل يمزج بين الأوتوبيوغرافي والروائي، يمكن جعله إلى حد ما تخييلا ذاتيا، لكن شعرية اللغة وجمالية ملفوظ خطابها يجعلانها نصا يمتنع عن التصنيف المسبق والمألوف، بحيث نرى أن الكاتب يولى أهمية قصوى إلى المرجع المستنبت من الذاكرة، وما تختزنه من تاريخ أحداث متفرقة، ويهتم أكثر بتوليد الدلالة من خلال ما تكتنفه مواضعات اللغة السردية، وما تزخر به من معان تدفع بالنص إلى مساحات ملأى بالرموز والدلالات، وأفكار تستعيد حرارة التأمل، وتنعش أفق انتظار القارئ المتتبع للتجربة في خصوصيتها.

 هوامش 

1ـ ولغ غانغ كايزير. من يحكي الرواية؟ ترجمة محمد سويرتي، طرائق تحليل السرد الأدبي. منشورات اتحاد كتاب المغرب .ط1، الرباط 1992. ص107.
2ـ عبد المالك مرتاض. في نظرية الرواية. بحث في تقنيات السرد. عالم المعرفة 240. المجلس الوطني للثقافة والفنون  والأدب. الكويت. ديسمبر 1998/ صص 53-54.
3ـ4ـ5ـ ولغ غانغ كايزير. من يحكي الرواية؟ مرجع سابق ص 113.
6ـ7ـ نفسه. ص 118.
8ـ محمد الهجابي. بيضة العقر. منشورات ديهيا. الطبعة 1. 2015. ص 309.
9ـ10ـ11ـ12ـ13ـ نفسه ص5.
14ـ محمد الداهي. الموقف من التراث في الحوات والقصر وأوراق. مقدمات. عدد مزدوج 13-14 صيف- خريف 1998 ص30.
15ـ سالم حميش. ثقافة الرواية – شهادة . مقدمات. عدد سابق. ص132.
16ـ نفسه. ص134.
17ـ محمد الهجابي. بيضة العقر. م س. صفحة الغلاف الأمامية.
18ـ جيرار جينيت… نظرية السرد. من وجهة النظر إلى التبئير. ترجمة ناجي مصطفى. الحوار. ط1. 1989. ص57.
19ـ نفسه. ص59.
20ـ محمد الهجابي. بيضة العقر. مرجع سابق. ص7.
21ـ جيرار جينيت. نظرية السرد. م س. ص38.
22ـ عبد المالك مرتاض. في نظرية الرواية .. م س. صصص 100-101-102.
23ـ محمد الهجابي. بيضة العقر. م س. ص 309.


الكاتب : محمد صولة 

  

بتاريخ : 20/08/2021