تودة ..

يحل الصباح على صوت رنات منبه الهاتف، بحدود الغرفة ستائر الليل مازالت مسدلة، الظلام بين زوايا جدرانها يسترخي، وهي على سريرها مازالت ممددة ..
لا يظهر أنها تفكر في النهوض، ولا حتى في النوم ..
المنبه الذي التزم بموعد إيقاظها، لم تنتبه إلى صوته المرتفع، بحركة ميكانيكية، تمد يدها لإخراسه.
الصباح يلح على طرق النافذة المطلة على غرفتها المظلمة
حواسها معطلة، لكنها، ليست نائمة، وليست مستيقظة ..
لا تفهم ماذا يجري لها
على أي، هي لا تريد أن تفهم، ما تريده بشدة، أن تنااام
«أتذَكَر أني لم أغادر سريري طوال الليل، لكني لم أنم .. سأحاول أن أنام الآن، قبل ذلك، سأقنع الصباح بالعودة إلى سريره، وسأعود بدوري إلى النوم، علي أن أنام جيدا حتى أستيقظ جيدا»
على رف الخواء أصبح القلب مشعثا، لا تهتم بسماع موسيقاها المفضلة، من شدة شراسة الأرق تقضم أظافرها، تحاول أن تمسك بيديها المرتجفتين حبة الدواء المهدئة، قبل أن تلقي بها في حلقها وتتبعها جرعات ماء لتجرفها إلى معدتها، تضع الحبة على كفها، تنظر إليها، تطلق ابتسامة مبللة بحسرة تفوق مرارتها مرارة حبة الدواء المهدئة، تتحول الابتسامة إلى قهقهات قوية تهز صداها أرجاء الرف المغبر، تزداد كفها اهتزازا، تسقط حبة الدواء منها، لتتدحرج نحو ركن معتم..
تصيح غاضبة وقد توقفت عن القهقهة:
«إلى الجحيم، هادئة بدونك سأظل، سرقتِني مني بما يكفي، هذا القفص الذي تسعدين بتواجدي بين قضبانه، سأدخلك إليه وأتحرر منه ومنك، أراك تسخرين مني، آه نعم،.. ليس غريبا علي نبرتك تلك، وبالتالي لن أسقط من على ظهرك بما أني أدرك كبواتك.»
تهدأ قليلا تنظر حولها فلا تجد إلاها على الرف ..، يتوقف كفها عن الارتجاف، لكن نبضها مضطرب، دقات متسارعة وقوية يدفع هديرها ما حولها من جدران.
كان يستهين ويسخر من كل ما تقوم به من مجهود، لتكون جميلة في عيونه .
شهيته مفتوحة للسعي إلى حجز مكان رفيع بعيون الناس المهمة، بحوزة ذاكرته الرشيقة ترسانة من الأقوال الحكيمة، بدقة تصب مقالا مناسبا في المقام المناسب.
لا يفوته تطعيم مواقفه بأحدث وأقوى البنود والمساطر .. أجندته بالأسماء المهمة تمتلئ ..
لا وقت يضيعه على حساب مصالحه، عليه أن ينتقي بعناية المصاعد الأسرع والأنسب، للتسلق، بعيدا عن التعلق ..
في توزيع المنابر، يحلو له أن يتاجر، لا يتردد في أن يكون من مشجعي تواجد الغفلة بين البائع والمشتري ..
من يخلص في حبه، بخانة الضعفاء يضعهم، وهناك رأت تودة نفسها، خاتما بأصبعه الصغير أصبحت .. وهو يكتب على ظهرها:
«التشبث بالحب صفقة خاسرة، والسعي إلى المصلحة طريقي المثمرة..»
خارج طوعه تودة تطفو على وجه وقت لا مكان لها في دقائقه ولا ساعاته..
وخارج قبعته أوراق خريف تتساقط
إليها يمد يده، والأحضان به تتراجع
كالموت، من الباب الخلفي يتسلل لأخذ مقاس كفنها، ويذكرها بعنوان مثواها الأخير..
لم تعد تودة تحرص على أن تكون جميلة في عين أحد الآن، لم تعد تهدي أحدا أقفاصا، تصبح هي سجينتها، هذه الرغبة ولدت داخلها رغبات أخرى مشابهة..
كالرقص في حفل عرس أحد أقاربها وهي ترتدي قفطانا جميلا وتنتعل حذاء رياضيا شييك
كاستقبال تلاميذها صباح كل يوم اثنين على دندنات أغنية
لـDon ‹t Worry Be happy
Bobby Mcferrin
كاستعادة ابتساماتها المسلوبة، كالتنازل عن مكانتها المنفوخة بالرفوف المغرورة، كالانسحاب بهدوء من حضور زائف، والالتحاق بغياب، حضورها بأحشائه يُرَسِّخ..
فارغةً، تفضل كأس الحياة، بدل ماء مالح يملؤها.
الفراغ يسلب منها الأدوار، وهي تحشو معدته بمتاهات تقتنيها من سوق العيون، عيون على رف اللاعب الاحتياطي تضعها…
بفتات ما تبقى حول الصحن تغذيها،بخط صغير ولون باهت – لا يكاد يُقرأ – تكتبها، في زاوية لا تكاد تُرى، في لائحة لأشباه الأحياء تقذف بها .تواجدها، لا يتجاوز حجم قشة.. لتجد نفسها « كومبارس « بشارع شديد الازدحام، أو قطعة من الفلين تسد الثقوب المختلفة الأحجام..
ثقيل وزن هذا الفراغ الفارغ، أسلاك شائكة جوانبه، من مساحاتِ الجوع يضاعف، ومن وطأة العطش يزيد، وإلى حدود الكفر بالزمان والمكان يأخذ..
كيف أغرقَتْ في الضحك وكل هذا الحزن بانتظارها لإغراقها؟..
وأخيرا من على ظهر الترقب تترجل أمنيات
بقلب الغروب تستقر..
أمنيات على ضفة المستحيل تحط..
أمنيات تهدهد لَوْ ولَيْتَ، وتعصر تجاعيد الوقت من كولاجين الحياة..
أمنيات تلف بحبال التعلق الذائبة النظرات، لتجعلها مكانا دون مساحة وزمانا دون دقات، كقفص يطمح إلى توسيع مساحته ويتجاهل فتح بابه..
تحت قدميها، تبتسم الطريق، تحاول استدراجها نحو حلم قديم، أخرجه النسيان من دائرة الحياة.
«لم يمت، كما تظنين، بل خمدت ناره، فاعتلاه الرماد وحجب عنك وهجه.»
هكذا تحاول الطريق ترميم الجسر تحت قدمي تودة، وإعادة رسم ملامحها على وجه حلم، حفر لها قبرا جميلا فوق الأرض، ذات منفى..
تتفقد عنقها، تجد قلادتها الجالبة للحظ قد سقطت
أين، متى، لا تدري، والآن، ماذا سيقول الحظ عنها، لا تريده أن يسيء الظن بها..
« لاتسيئي الظن بك وأنت تحسنين الظن بي»
يهمس الحظ في أذن تودة وهو يغادر حاملا حقيبة مثقلة بأشياء تدعي تحقيق المستحيل باسمه.
على كتفها تربت، تهيئ نفسها للفقد، للخسارات، لعواصف لم تُشِرْ إلى حلولها نشرة الأرصاد الجوية… تفرغ نفسها من المخاوف .. ثم تعبد ما ينتظرها من الطريق بسماء تتسع لتحليق ما يملؤها من العصافير والغابات ..
لا وقت لدي
القطار واحد
الاتجاه أيضا واحد
أنا المسافرة ..أنا الحقيبة، ..المحطات غد، بالذاكرة تستقر، وظلها بي ومعي السفرَ يواصل ..
لاوقت لدي
لتأمل زحف التجاعيد على وجه الأيام
لاوقت لدي
لسماع صوت وخزات الروماتيزم بالعظام تئن
لا وقت لدي
لندم أو عتاب إلى الأبواب المسدودة يقود
لا وقت لدي
لزرع الألغام، وإشعال نار يلفها الدخان
لا وقت لدي
لإلقاء سمكاتي في ماء عكر
لا وقت لدي
لعَدِّ نجوم خارج النور تلمع..
ما تبقى مني ولَدَي، وقت، فيه سأغرسني حديقة حب عارية من ورق الهدايا..
في سمائها أخضِّب بدمي كف غيمة صغيرة مثقلة بدموع الفرح.

أغمض عيني لأراني..
فلستُ ممن يطلب اللجوء في عين أحد ..
الصباح لا ينظر إلى الساعة
الصباح يصب نظراته على دقات نوره، هذه رسالته لي كل يوم
يمد القطار يده إلى حقيبة سفر تودة، يفرغها مما يثقل المسير، وهو يخاطبها قائلا:
أنت الرافعة وأنت الهاوية
اختاري من تكونين
العناق، مدفأة كل الفصول
تقول الأغصان المتشابكة
سقف صوتك يرتفع
وأنت شراع الصمت تعدلين
في التعبير عما تحسين، لا تجتهدي
كيف؟ ..
كيف ونحن مجتمع، يهوى الكثير منه، الاحتماء بالفزاعات، بدل مواجهة مخاوفه بشجاعة.
لِمَ نجيد إحاطة انتصاراتنا – رغم هشاشتها – بهالات من الاعتداد؟..
رغم أن سقوطنا، له الفضل الأكبر في نهوض أقوى وأجمل ..
ترد عليه تودة، وقد امتزج الاندهاش بالغضب في كلامها.. فيتراجع هذا الأخير، ويطول لسان الصمت.


الكاتب : سعيدة لقراري

  

بتاريخ : 03/11/2023