«ثملت كأسي» لمحمد ابن يعقوب: الإبداع والزمن عندما يلتقط الشاعر تفاصيل اللحظة

لعل من حسنات تطور مناهج البحث التاريخي المعاصر، انفتاحها المتواصل على حقول الإبداع المتشعبة، نثرا وشعرا وتشكيلا وتجسيدا وأنغاما. لم يعد المؤرخ يكتفي بالاستكانة لعطاء النص الإسطوغرافي التقليدي قصد إعادة «تدوير» المعطيات والوقائع، كما لم يعد يطمئن لمتون الوثائق المدونة المتوارثة، بل أضحى ينحو باستمرار إلى توسيع مفهوم الوثائق والمصادر والمراجع والشواهد واللقى والمحكيات، في أفق البحث عن خصوبة عطاء حقول المعرفة التاريخية المجددة التي تطبع زماننا الراهن، مثل تاريخ الذهنيات، والتراث اللامادي، وتاريخ المعتقدات، وحصيلة التمثلات الرمزية للواقع وللوجود، وسير الأحلام، وطقوس السحر، وتنوع المعتقدات الشعبية الغيبية،… وفي كل هذه المجالات، ظلت المدونات التقليدية قاصرة عن تقديم الأجوبة التأصيلية لأدوات اشتغال المؤرخ. وفي المقابل، أضحى واضحا أن الأمر أصبح يفرض انفتاحا متواصلا على حقول الإبداع المتشعبة، قصد إعادة قراءتها وفق رؤى نسقية تعيد استلهام المضامين، عبر وضعها في سياقاتها الفردانية التي تتيح إمكانيات هائلة للاستماع لنبض الأصوات الخفيضة، الرمزية وغير المدونة، مما لم تكن تثير أدنى انتباه لدى المشتغلين بصنعة كتابة التاريخ في أبعادها التخصصية الحصرية الضيقة.
في إطار هذا التصور العام، يندرج اهتمامنا بالانفتاح على مضامين ديوان «ثملت كأسي»، للشاعر محمد ابن يعقوب، الصادر سنة 2019، في ما مجموعه 102 من الصفحات ذات الحجم المتوسط. فالعمل اختزال لمجمل الخصوصيات المعرفية التي حددنا أبعادها أعلاه، بالنظر لخصوبة المضامين ولكثافة المعاني ولغزارة الاستعارات، ثم بالنظر لقدرة الشاعر على التقاط التفاصيل المجردة المنفلتة من بين ثنايا الكتابة التاريخية التقليدانية. وإذا كنا –في هذا المقام- لا ننوي الخوض في مجال الأدوات الشعرية والتقنيات الجمالية المميزة لبنية قصيدة الشاعر ابن يعقوب، مما يمكن أن يهتم به المتخصصون من نقاد الشعر المغربي المعاصر، فإننا –في المقابل- نسعى للتركيز على تتبع عين الشاعر في التقاطها للجزئيات وللتفاصيل المحتضنة لطرق التوثيق الإبداعي والجمالي والإنساني للواقع ولتحولاته.
لا يتعلق الأمر بتتبع استقرائي للكتابة التقريرية المباشرة الخاصة بالمتون التاريخية الكلاسيكية، بقدر ما أنها قبض على طرق رصد الاهتمامات الثقافية والذهنية لنخب المجتمع ولأشكال تفاعلها مع تغيرات الواقع. ومعلوم أن كتابة التاريخ الثقافي لأي مجتمع، لا تستقيم إلا عبر تجميع رصيد المنجز الثقافي والإبداعي والجمالي الذي ينتجه المجتمع في سياق تطوراته التاريخية الطويلة المدى. فبنفس القدر الذي يسمح به هذا الديوان برصد منعرجات تجربة الشاعر محمد ابن يعقوب، بدءا من ديوانه الأول المعنون ب»لم ينطفئ الثلج» (2000) ومرورا بمجمل دواوينه الأخرى، «قليلا.. ويستيقظ القمر» (2004)، و»ملح في عيون وعيون» (2008)، و»عندما يكذب السكون» (2011)، و»خبز ومقام انصراف» (2016)، وبشائر وذخائر» (2016)، وانتهاءا بديوان «ثملت كأسي»، يسمح هذا العمل برصد أوجه تفاعل ذات الشاعر مع تحولات المحيط والواقع، وفق رؤى متخلصة من صرامة التوثيق التقريري الحديدي. وبذلك، تقدم نصوص الديوان رؤى عميقة تعطي لنفسها كامل الحق قصد التوثيق لما لا يمكن التوثيق له في إطار الكتابات التاريخية التخصصية. يتعلق الأمر بقراءات نفسية وفردانية ووجدانية تتحدى شراسة الواقع وبؤس مآل الانحطاط والتردي المهيمن على المشهد العام، مثلما هو الحال مع النقد القاسي الذي خصصه الشاعر للواقع العربي الراهن في نص «ولا يوم الحذاء» (ص. 29)، أو مع تفاعله مع أحداث الانقلاب العسكري الفاشل على الديمقراطية الذي عرفته تركيا سنة 2016 (ص. 36)، أو مع تداعيات فشل المؤتمر التاسع عشر لاتحاد كتاب المغرب المنعقد بمدينة طنجة سنة 2018 (ص. 60)،…
هي كتابة تقدم قراءة عميقة لواقع متغير، قراءة متحررة من ضغط الولاء ومن إكراه الانزياح ومن سلطة الانبطاح ومن سيل التنميط الجارف. ويزداد هذا الأمر عمقا، بتوجه الشاعر نحو الاحتفاء بحميميات المكان عبر الاستحضار المتواصل لفضاءات مدينته/معشوقته شفشاون، الابنة الشرعية ل»أندلس الأعماق». وفي هذا الجانب بالذات، تكمن القيمة المعرفية الكبرى لمضامين الديوان. فمن، غير الشاعر، يستطيع تخليد الوجوه والأمكنة والمحكيات والأهازيج والتعبيرات الرمزية والعاطفية المختلفة؟
وللاقتراب من معالم هذا الأفق العام، يمكن الاستدلال ببعض مما كتبه الشاعر في ديوانه «ثملت كأسي». ففي نص «رواية ظل»، يقول محمد ابن يعقوب:
«… في قيلولته الملتهبة
أروي عن ظلي
ما يفيء علي به
في امتداده
وشما
يأخذني
من زمني
نحو غرناطة
عابرة في تبخترها
لتعانق شفشاون أختا
وكلاما
ومساحة عشق

كانت شفشاون
يومه
في حجم نهار طويل
وبظل
لم أزل
أروي عنه…» (ص ص. 5-7).
وفي قصيدة «بين مرور ومرور»، يقول الشاعر:
«لما يمر قطار الشاون
في صمته الهارب
أبدا
من محطته
يسكن ليل المدينة
وتموت النجوم
تستوي أوجه
في العراء على سوقها
بملامح
أحسبها
في حوانيتها
تحتكر الضحكة
والكعكة
وتجيد النكتة
في سكر
رخيص
في تلاوينها
وبأرشيف شاوونها
تتساقط أوراق الخريف الوارف
في مقصفها
تتشظى المرايا
تحت صفير القطار العائد
فجرا
لمحطته
ويقوم الصبح إماما
لصلاة الأصفياء» ( ص ص. 33-35).
وعلى هذا المنوال، تنساب اللغة الشاعرية الشفيفة للشاعر محمد ابن يعقوب، صانعة معالم تميزها، ومعيدة تأثيث فضاءات مدينة شفشاون بقيم البهاء وبنعم الجمال وبخصال التميز. هي كتابة لمحو بشاعة الواقع ولإعادة كنس نظم القبح داخل الفضاء العام المشترك. هي كتابة الشاعر المحتفية باللحظة، صانعة معالم تميز الهوية المحلية التي تسمو بروح الشاعر المبدع في سفره الإبداعي المخصوص.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 05/10/2019