«جاؤوا لنقص في السماء» لعبد الحميد جماهري

محاولة ترميم أشياء
العالم السائلة

 

من حسن حظنا، ومن حسن حظ ديوان الشعر المغربي المعاصر، أن للشاعر عبد الحميد جماهري إقامات متعددة، وأنه ينسلخ، بين الإشراقة والأخرى، من وزر الإقامة في الفعل الإعلامي والسياسي والتدبيري الضاغط عليه يوميا، ليحلق تحت سماوات التأليف والترجمة وليرتحل خاصة الى إقامته الموازية التي هي التشكيل الناطق أو البوح شعريا.
فبعد باكورته الشعرية مهن المهم 1991 وبنصف المعنى فقط 2009 ونثريات الغريب 2015 هاهي دار النشر ملتقى الطرق، تصدر بتوقيعه ديوان “جاؤوا لنقص في السماء”، المذيلة عتبته هذه بعنوان فرعي لا يخلو من دلالة «في ديوان حالتي» 2020
يضم الديوان أربعا وعشرين قصيدة، مبوبة وفق خمسة عناوين رئيسة لا ضير من التذكير بها.
“في انتظار الحرب
جاؤوا لنقص في السماء
اجلسي بقربي أيتها القسوة
سيرة عائلية لآدم
تعريفات الظل ”

الانحدار صوب الهاوية

يتبدى أن التراجيديا والانحدار صوب الهاوية، كشرطين ملازمين للكائن البشري وللإنسانية، بل كقدرين لا مفر للاثنين منهما، تيمتان تتداخلان إلى حد التوحد، تخترقان قصائد الديوان، تخصبهما نصوصه كيفما كان النفس المتحكم في نظمها، وهو نفس ملحمي أحيانا، ومكثف أحيانا أخرى، ما يجعل القول الشعري يتراوح بين الإسهاب، لكن مع حرص شديد على الاقتصاد في اللغة وعدم تبذيرها، وبين الاقتضاب الشذري المولد للومضة.
البطل التراجيدي /الإشكالي الذي سيدلنا الشاعر على “تراجيدياه كما في الإلياذة (ص7) بالرغم من ارتطامه المتكرر مع نفسه( ص15) يطالب بحصته من الأعداء (ص16) كي يقيم لهم محكمة (ص17)، ويحرص على أن يكون العبث نهاية محتملة لعمر سريع الطلقات (ص 33) ويقول مخاطبا المجهول شقيقه في الحياة أنت الذي تتجول في قابلني هناك في متحف التشبيه، خيالا لخيال أو وجها لوجه (ص55)، الذي هو الرجل الأعمى الذي اشترى الشجرة 56.

يقول في قصيدة “الرجل الأعمى الذي اشترى الشجرة”:

أنا الرجل الأعمى الذي اشترى الشجرة
أعرف بالظن،
أكثر مما أظن.
ليس لي من الشجرة سوى ظلها
وإذ يستحيل البصر..
تعلو الرائحة..
أنا مثل حواسي
سليل ما لا أراه..
خليط الظل بالظل..
أنا رضيع حواسي الأخرى..

هذا البطل المركب بصيغة أدق ينزع قناعه قصيدة تلو القصيدة، ليتعرى تماما في قصيدة “من أنا؟” متأرجحا بين ضمائر المتكلم والمخاطب والغائب.

أبيض وأسود

تتوالى في قصائد الديوان، ذات اللغة المنسابة والشفافة، التي لا يجد إلى ثناياها التساهل مع الشعرية منفذا، مواقف ولوحات مبدعة بالأسود والأبيض، ثنائية يتوزع حداها على القصائد ليتراءى الواحد منهما دون الآخر في هذا النص أو ذاك، ويهيمن عليه نافيا الثاني، لكنها تتجاور في نفس القصيدة مرات.
الأسود أو العتمة، عنوان الانكسار، الانهيار، الحرب، الموت، نفي الحياة، السقوط، الصمت، المقابر، الخواء، العزلة، رصاصة الرحمة، كأس السم، الجحيم، الفراغ، الحكايات التي لا باب فيها، الخراب، الخطيئة الأولى، الظلمة، الأعمى فينا، العدم، القسوة، الشتاء الباهر من اليأس، بداية البشرية عن طريق محاولة انتحار فاشلة، ولعنة سلالة آدم الوافية، وغيرها من درجات السواد؛
ونقيضه، الأبيض أو الضوء، أمارة الإقبال على الحياة، الأمل، الإشراق، اللغة المسعفة، شفاه الشهداء، الدنو من سمع الله والأنبياء، قلوب الملائكة، السلام، ترك الخراب كاملا في الوراء، تذوق البحر كله ص:52 وأشعة مضيئة أخرى
لكن العتمة ودرجاتها تنتصر، كميا، على الأقل وإجمالا، على أشعة النور. فالشاعر تلزمه، في موقف السواد، هاوية ليسقط كطريدة في سرير الفاليوم ص82، وهو يبني علوا شاهقا لكي يستحلي السقوط منه ص83.

يقول في قصيدة ” ضع حصاة في فمك وتذوق البحر كله”:
الفرح حصاة
اِلْتقطْهُ من النهر
نظيفا
وضَعْهُ في فمك
بسعادة
وتذوقْ.. البحر كله.

الشاعر مدعو، في موقف الضوء، إلى النهوض والعثور على الحياة، مع عدم تركها بلا اسم مهملة في الزحام ص 77

هيا، انهض
واعثر على الحياة
ظلا يتمسح بالطفلة الذاهبة إلى المدرسة
أو فكرة عن الذين تحبهم..
أعد لها ما تشاء
من العطر والمديح
والأشعة
فقط، لاتترك الحياة بلا اسم
مهملة في الزحام

وسم الشاعر عبد الحميد جماهري الديوان بـ “جاؤوا لنقص في السماء”كعتبة أولى ما يدفعنا للتساؤل خاصة وأن أن العبارة هذه عنوان للمتتالية الثانية من قصائده، وعنوان ملحق بالعنوان الاساس للقصيدة الأولى ضمن هذا الباب، الذي هو 11شتنبر ­ 16 ماي: لماذا اكتفى الشاعر بعنونة موجودة أصلا في متن الديوان؟ وألا يبخس مثل هذا الاختيار من حمولة وشحنة باقي مكونات عملك الشعري هذا؟
إن هؤلاء الذين “جاؤوا لنقص في السماء”، في موعدين متفرقين 11 شتنبر و 16 ماي ليعود النهار الى ليله 27 وليحجز الإنس في الحانة جناحا كاملا من سفينة نوح 2827 ولينزعوا هم السماء وينزلوا مظلات بقماش الأنبياء 28، جاهلين أن لا أحد يقدم مفاتيح الآخرة (ص32) هؤلاء الذين جاؤوا في ظهيرة 16 ماي التي بلا أعشاب بلا أريج ساخن 29 وفي 11 شتنبر، اليوم حيث faisait dieu ، جاؤوا في تاريخين محت قصيدة “جاؤوا لنقص في السماء” بشعرية الفرق بينهما، وجاؤوا إلى جغرافيتين شطبت القصيدة على المسافة الفاصلة بينهما، لأن الخراب الذي خلفه موكب العميان وهدير الطوفان (ص30) كان بذات الفظاعة والهمجية وكأننا بالشاعر في هذه القصيدة ، تلك المرجفة التي تقيس زلازل الكائن إذا ما استعرنا توصيف رولان جيغر للشاعر؟ أو راعي الوجود وحامي بيته حسب عبارة هيدغر الشهيرة.

في البدء، ومنذ البيتين الأولين من الديوان تحضر حواء مُساءَلة من قبل الشاعر« دليني على البطل وسأدلك على تراجيدياه» لتبصم، بحضورها، المنجز هذا، متعددة التمظهرات الحبيبة، الشقيقة الصغرى، الفتاة الذاهبة إلى المدرسة، الأم، الجدة، المرأة العابرة للمقبرة خائفة، والتي تعجن الحديد مصهورا، والأخرى التي لا يوجد كائن بعينه سوى في نظرتها 49 والطفلة الخائفة من الغم (ص35)، وهنا نتساءل: أجاء الكائن بصيغة المؤنث هو الآخر لنقص في السماء أم لوفرة تفعم زرقة السماء كأفق مضاد للسقوط والعقم؟

يقول الشاعر:
أنت تتنفس في نظرة امرأة
بلحمك
بعظمك
تتنفس في نظرتها
منذ كان في عمرها 20 عاما
تصبح مثل سمكة في ماء
عندما تشعر
أنك لا توجد سوى في نظرتها !

في وصف حالته

تتضمن عدة قصائد من الديوان نفحات تمتح من المعجم الصوفي، مستعيرة نبضه المتسامي، بل إن مفردة “حالتي” في العنوان الفرعي للديوان تحيل على الحال الذي هو عند المتصوفة ما يرد على القلب من غير تعمد، ولا اجتلاب ولا اكتساب، كما أن استحضار الأنبياء والرسل وسرهم، شعريا، لا يغيب عن بعض القصائد، ولعل أبرزها في هذا الباب قصيدة “من أنا؟” من ص34 الى 39 وكذلك قصيدة آدم يلقي بنفسه من أعلى السماوات (ص59).

نقرأ من قصيدة “من أنا”

أنا نحت سماء
مرت على صخر
وعلى هواء
رسمتني..

أشبه رجلا
يفعل الصواب بألمه
وعزلته
بأخطائه

ثكنة شعرية

الجنود ببزاتهم العسكرية وأحذيتهم الثيقلة ثقل أهوال الحرب، يقيمون في صفحات الجزء الأول من الديوان مرات بصيغة المفرد ومرات بصيغة الجمع الجنود الذين مروا ولم يثبتوا جثثهم جيدا في البذلات المهترئة 11 والمجهولين في الساحات العامة (ص15) ومنهم ذاك الذي يبدو له أنه مريض بقلبه المتعب والمليء بالطلقات 13 فرغم أنهم “في انتظار الحرب”فقط، الحرب التي تجعل الحياة تنقبض وتتجمد وهي تنظر إلى المشهد بأعين الموتى 18 فهي قائمة هنا والآن، بأشكال وأسلحة مختلفة ومتباينة، ما يجبر الشاعر على مواجهتها متحديا: في هذه الأرض نقتل الحرب بدم بارد، وبضوء بارد، أيضا نثقب العتمة (ص20). كل هذه المشاهد تجعلنا نشعر بأن الحرب تحولت إلى تيمة شعرية في الديوان، تيمة توصل الشاعرعبد الحميد جماهري، بشعرية فاتنة وخالصة، الى إذابة بشاعاتها في السائل الحامضي المنساب بجمالية بالضرورة في قول الأمور شعريا.

أطفال يلهون في الذاكرة

ما لفت انتباهي كقارئ للديوان، هو حضور الطفل الذي كانه الشاعر، طفل يطارده الشاعر والذي يود لو يحذره من أن “الطريق الذي قد تسلكه ليس الطريق الذي يعرفه أنت 70 الأطفال، ومعهم صورة الأب والجد، لهم موطئ قدم في الديوان: “صراخ الأطفال الذين تقول إنك تحملهم في ذاكرتك، وأيضا صغار يجربون مزحة جديدة ويولدون شيوخا (ص20).
إن قصيدة “أين كانت الأرض تربي هذا الضباب، يا أبي؟”(ص 66 )مديح قوي ومائز للطفل الذي كانه الشاعر، بل لعلها بداية الجواب عن الأسئلة الوجودية التي يغرق وعي الشاعر بذاته ومحيطه الشاعرَ في يمها المتلاطم.
يقول في قصيدة أين كانت الارض تخبئ هذا الضباب”:
أَعِدْ لي بعضا من طفولتي
وأعدُكَ..
يا أبي أنني لن أحلم من جديد.
ومثلهم..
مثل كل اليائسين
إذ يركنون حظهم على قارعة الحياة
وينزلون..
…..
….
كم مرة حاولت أن أكون إيجابيا
دون أن يشتعل القمر
ويلهب خيال القرويات في البعيد..
وكلما عدت الى الخريف سألتك:
أين كانت الأرض تربي هذا الضباب؟
الذي سبق المشيئة إليّ..
الأرض التي التقطت صورها بعين الغراب..
دعها متشائمة.


الكاتب : سعيد عاهد

  

بتاريخ : 14/01/2022