جديد البحث التاريخي المونوغرافي المحلي

تاريخ المجتمع التطواني من خلال الوثائق العائلية

 

 

عرفنا الدكتور الطيب أجزول أستاذا باحثا داخل شعبة الفيزياء بكلية العلوم بتطوان، فإذا بنا نكتشف منزعه التأريخي وانشغالاته التوثيقية المتقاطعة مع صنعة كتابة التاريخ. لم أكن أتصور أن ينتقل الدكتور أجزول بين مناحي علمية متضاربة في الأسس وفي المنطلقات وفي الآفاق. لم أكن أتصور أن يترك الدكتور أجزول جبة الباحث في علم الفيزياء، ليكتسي جبة المؤرخ والباحث المنقب والمثقف المهووس بحب الوثيقة التاريخية، وبتفكيك مضامينها، وبتصنيف سياقاتها، وبالتعريف بأعلامها، ثم باستثمار نتائج كل ذلك في عمل تنقيبي هام، صدر مطلع سنة 2021، تحت عنوان «من تاريخ المجتمع التطواني/وثائق عائلية: القرن 18- القرن 20»، وذلك ضمن منشورات «باب الحكمة»، في ما مجموعه 472 من الصفحات ذات الحجم الكبير. ويمكن القول إن هذا الانتقال المعرفي بين حقول علمية متباينة في مناهجها وفي آليات اشتغالها التي جمعت بين صرامة البحث في مجال العلوم الدقيقة، وبين اتساع مساحة التأويل والتنسيب في مجال العلوم الإنسانية، قد سمح بمد الجسور بين الحقلين، بل وباستثمار المرجعيات المنهجية الحقة في كل مناحي العمل، تجميعا لوثائقه الغميسة، واستنطاقا للمظان المصدرية المحلية التي أنتجها رواد كتابة تاريخ مدينة تطوان من أمثال أحمد الرهوني ومحمد داود والتهامي الوزاني ومحمد ابن عزوز حكيم، وتعزيزا للعمل المنفتح على المرويات الشفوية والصور الفوتوغرافية والجداول التصنيفية والخطاطات التوضيحية، والمقالات الصحافية والمتابعات الإعلامية،… إلى غير ذلك مما يمكن أن يعزز مجال البحث والتجميع الخاص بموضوع الكتاب.
ولقد أجمل الأستاذ محمد يوبي إدريسي أبعاد هذا الاستغلال العلمي لتكوين المؤلف، عندما قال في كلمته التقديمية: «أعلم أن المسار العلمي والأكاديمي للصديق الطيب بن عبد السلام أجزول، بصفته أستاذ تعليم عالي في شعبة الفيزياء بكلية العلوم بتطوان، هو مسار غني بأبحاثه العلمية الرصينة التي تستند على نظريات ومدارس فيزيائية كان له الفضل في الإسهام فيها بشكل وازن داخل الأوساط الجامعية المغربية والدولية. وأعلم أيضا أنه يتمتع برصانة المنهج العلمي الدقيق التي استمدها من خبراته المكتسبة لما يقرب من أربعة عقود من البحث والتدريس داخل جامعة عبد المالك السعدي. كل ذلك والرجل يتمتع بخصلة تواضع العلماء الذين خبروا احتمالات الصواب والخطأ في التجارب العلمية، ووقفوا على الجهد المطلوب في تطوير الأداء العلمي في مختبرات الفيزياء، وأوقفوا جهدهم على الارتقاء بالبحث العلمي وتطوير نتائجه. لكن قراءتي الأولية لهذا الكتاب شكلت بالنسبة لي مفاجأة سارة لأنها أماطت اللثام عن الوجه المشرق الآخر لعالمنا في الفيزياء، وهو وجه المؤرخ، والمحقق، والمدقق للمخطوطات والوثائق، والملم بأمهات الكتب في ما يؤرخ لمدينة تطوان. عمل تمكن من خلاله المؤلف أن يسلط الضوء على معالم ذاكرة مشتركة، ويبعث إرثا عائليا، ويصل الماضي بالحاضر عبر تاريخ ممتد لإحدى العائلات التطوانية العريقة انطلاقا من الربع الأول من القرن الثامن عشر وإلى بداية القرن الواحد والعشرين…» (ص ص. 8-9).
وبهذه الصفة، استطاع الدكتور الطيب أجزول تقديم عمل مرجعي في مجال الاشتغال على ذاكرة أسر مدينة تطوان، من زاوية الباحث المدقق الذي لا شك وأنه قد خصص الكثير من الجهد ومن الوقت ومن الصبر ومن الأناة في تجميع مادته الخام، قبل الانتقال إلى معالجتها تقنيا وتصنيفها علميا. لا يتعلق الأمر بعمل تأليفي قطاعي في مجال تخصصه، ولا بكتابة احتفائية بتجارب ذاتية موزعة على امتداد فترات زمنية طويلة للقرون الثلاثة الماضية، بقدر ما أنها تحمل مشروعا أصيلا في البحث المونوغرافي المجهري الذي ينطلق من جزئيات حياة الناس الدقيقة لتجميعها ولتحويلها إلى أرضية للتحليل وللنقد وللاستثمار. ومن هذه الزاوية بالذات، استطاع الدكتور أجزول تقديم قيمة مضافة لحصيلة تراكم منجز رواد الكتابة التاريخية لمدينة تطوان، من خلال توسيع آفاق استثمار الوثيقة المحلية باعتبارها حجر الأساس في كل محاولات إعادة تركيب تفاصيل حياة المجتمع في تداخلاتها المتشابكة، وفي ثرائها الرمزي والثقافي، وفي تعبيراتها السلوكية في المواقف وفي المبادرات وفي التجارب وفي الفعل وفي أنماط التفكير. ولعل هذا ما أدركه المؤلف في سياق تكريسه لجهده الواضح في استثمار المخزون الوثائقي للعائلة، عندما قال موضحا أهمية الوثائق الدفينة في كتابة التاريخ المحلي وفي ترصيص الذاكرة الجماعية للمجتمع: «الوثيقة التي كتبت في وقتها، هي وعاء مهم للمصدر التاريخي، وأصله الذي يؤخذ به. وينبغي الاهتمام بتوثيق هذا التاريخ، لما لذلك من أهمية كبرى متمثلة في الاستفادة من تجارب الأولين، واستخلاص العبر والدروس، واستشراف المستقبل. فكل الدول تحتاج إلى توثيق تاريخها في كافة جوانبه، ولاسيما في الجوانب التاريخية والعلمية منها. ولا شك أن الوثائق الرسمية وشبه الرسمية المتعلقة بالمسائل الاجتماعية والسياسية، يتم العناية بها، ودراستها، وتوثيقها. لكن الوثائق العائلية الخاصة لا تحظى، حتى الآن، بما يكفي من ذلك، وخصوصا على الصعيد المحلي، وعلى صعيد المدن العتيقة في بلادنا. فالمطلوب، هو إعادة النظر في هذا السلوك، والسعي نحو العناية الكافية بالوثائق المحلية، وتوعية الأهالي بذلك، علما أن كثيرا من الوثائق –مع الأسف- تضيع بعد وفاة المهتمين بها، من كبار السن، ووقوعا في يد أحفاد لا يقدرون قيمتها التاريخية…» (ص ص. 427-428).
وانطلاقا من هذا التثمين الدقيق ومن هذا التشخيص الفاحص، استطاع الأستاذ الطيب أجزول تطوير مادته الوثائقية الخام، وتصنيفها في إطار مقاربة علمية أصيلة سمحت بجعل وثائق أسرة أجزول محورا للتشريح، بشكل سمح بتقديم معطيات غزيرة حول قضايا مركزية في البحث، وعلى رأسها الأصل الأندلسي للعائلة، ونسبها، وظروف استقرارها بتطوان، وتواتر أجدادها وذريتها، وواقعها الاجتماعي، وعطائها الإداري داخل مرافق الدولة والمجتمع، وأدوار نخبها السياسية والثقافية،… استنادا إلى سجلات ثرية من الوثائق الغميسة المتنوعة في مصادرها وفي لغتها وفي الغاية من تدوينها، مثلما هو الحال مع العقود العدلية، وعقود الزواج، وعقود المعاملات، والوصايا، والمخطوطات، وأشكال التفاعل مع التراث الرمزي والثقافي المحلي مثل الموسيقى الأندلسية وطقوس الزاوية الحراقية…
ويقينا إن الأمر لا يتعلق بتدوين تأريخي تقني ونمطي لـ»شجرة» عائلة أجزول، بقدر ما أنه إسهام في دراسة الجوانب المنسية في الواقع الاجتماعي لمدينة تطوان خلال القرون الثلاثة الماضية. ومن هذه الزاوية بالذات، يمكن أن نستقرئ المضامين وأن نجعلها مدخلا لفهم الأنساق الاجتماعية المتداخلة التي انتظمت فيها حياة مجتمع تطوان، وعقليات سكان مدينة تطوان، وإسهامات نخبها في رسم معالم الخصب والتميز التي أثمرت معالم البهاء الحضاري الذي طبع سيرتها التاريخية، بالأمس واليوم.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 23/06/2021

أخبار مرتبطة

  أين تبدأ الحياة والموت؟ وماهو الحدث الأصلي بينهما؟ ما موقع الحب في حياة الإنسان المهددة بالموت في كل حين؟

تم، يوم الأحد 12 ماي الجاري بالرباط، وفي إطار الدورة الـ 29 للمعرض الدولي للنشر والكتاب بالرباط، عرض الأعمال الأدبية

شكلت العلاقة بين «الرواية وعلم النفس»، موضوع ندوة علمية خلال اليوم الأول 10 ماي من فعاليات معرض الكتاب بالرباط، العراق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *