جديد الرواية المغربية: «وديعة خُفاف» تُخضِع مبارك وساط لامتحان الرواية

لا أحتاج إلى مقدمات حين يدخل إلى حقل الأدب الكبير من له فيه باع طويل، برهن عليه منذ ثلاثة عقود ويتواصل، عكف بموهبة ومثابرة على أصعب أجناسه وأكثرها تطلّبًا للعناية باللغة، والدّراية بالبلاغة، والتعبير بالمجاز، الشعر الذي يتلفّظ الذاتَ ويرسُم العالم بطاحًا وتلالاً بالاستعارة، ويبنيه في كلّ مرة بهوى وعلى نظام، أي المغامرة بإعادة التأسيس ونفخ روح جديدة في ما يسمى» قصيدة النثر» التي تهافتت من كثرة ابتذالها على يد من لاحظ لهم من لغة وأدب، فثقبوها خرقة كلمات. على النقيض يُعنى بالشعر هو من يسميه ويعمّر كوكبه، بالإنشاء مرة، بالترجمة مرات، وفي الحالتين إيمانه عميق بأن فكرة التحول» من نواميس الأدب» حققها متمثلاً ومتمهلاً نصًّا بنص» محفوفًا بأرخبيلات»(عنوان أحد دواوينه 2001).
ذلك أن المغربي مبارك وسّاط (1955ـ)معروف شاعرًا ومترجمًا للشعر بجدارة، وله فيه ذوقٌ وفهمٌ وموقع. فاسمُه يسبقه، إذن، وفي الوقت نفسه قد يُحرجه إن نحن تحدثنا عنه خارج وضعه الأدبي الأصلي، أي وقد غرس محراثَه في أرض الأدب ليُقلّب تربة الرواية، ليس هذا وحسب، وليزرع فيها بذورًا يراها القارئ أينعت سنابلَ بحبوب قمح تامرة مبكرًا، وسيعجب، لأني لا أعلم للرجل مغامرة ولا (مقامرة) في السرد، وأتعرف أن» وديعة خفاف» (2023 منشورات المتوسط) روايته الأولى، فأقول مرحى، إذن، بشاعر ينوِّع كتابته ويقتحم فنَّ السرد التخييلي، ولست ممن يضعون علامات التعجب الاستفهام ولا الاستفهام الإنكاري: كيف؟ لماذا؟ شاعر ماذا دهاه لينتقل إلى الرواية أو العكس؟! هي حقل أدبي مفتوح لمن يملك عُدّته، تاركين السؤال النقدي السليم، يخصّ النّص وحده حيث تٌختبر الموهبة والأدوات والمخيلة الصناع إذا أنجبت شعريتها، وقراءتَه بمقتضيات جنسه الأدبي ومدى تطويعِه له وربما تخصيبِه وتجديدِه فيه، لا تشفع إجادةٌ في تعبير سابق، ومسوّغُه الحقيقي خوضُه غمارها.
في هذه البداية لا يخيِّب مبارك وسّاط الظن، لنقل إنه فطِن إلى عثرات الطريق ودِقّة المِحَكّ، فمشى بحذَرٍ واضعًا قدميه حيث يظن يعرف. قد مشى في الحياة، ورأى، وتنقّل، وتعثّر، وأحبّ، ورافق، وامتُحِن، وأخفق، وصُدِم، وعرَكته التجربة، وتعلّم ما يكفي منها لتصبح خيطَ دخان وغيمةً حبلى بالذكريات، أو بعبارة جورج سوبرفيال التي وضعها عتبة لتأليفه:» الذكريات ريحٌ، وهي تَخترِعُ غيومًا». من هذه الرّيح، وجَماعِ الذكريات قرّر أن يُمطرَ الغيمَ سردًا، فيكون المؤلفُ آخرين: سارد ٌوبطل، وهما يتفاعلان ويتبادلان الدورَ بين ضمير المتكلم وضمير الغائب، وفي هذه العملية يوجد كُمونٌ ثالث، المؤلف، لا يقول أنا وهو يحكي أنا آخر!
ماذا يحكي وسّاط أولاً، كي يُجنّسَ كتابته(رواية)؟ يتلو هذا سؤالٌ آخرُ نتركه سندًا إلى نهاية التحليل بل عمادًا لصنعتها، ذا أوّلُ شرط تكوينها، لا بانثيال خواطرَ ملفقة وأخبارٍ وأشباحِ شخصيات، شاعت كثيرًا ولا يمسك معها القارئ إلا بغُثاء السّيل، يستوطن شاعرٌ أو ناثر مبتدئ شخصية تتأوّه وتتفجع من البداية إلى النهاية هي فرَضا قناعه وإذا هو لا سرد ولا شعر بينهما حكاية مشغولة بخيوط ذكريات ومشاهدات، من منّا لا يملكها، ولكن ما معضلتها وكيفية حبكها، ولمّه؟ لم وكيف نستعيد سيرة الحياة حول لولب العقدة الروائية ليحقق الجنس الأدبي انتماءه؟
دارت بعض هذه الأسئلة في ذهن كاتب يقتحم حقلا يريد أن لا يُرى فيه دخيلاً، وفي الوقت يحضر فيه بصوته ونكهته، فلا معنى أن نكتب رواياتٍ مكررة ونستنسخَ النموذج، يحتاج الكاتب الوافدُ إلى حجز موقع ينظر منه، يرى منه ما عمِيَ عنه سواه، وهذا في حد ذاته إبداع لا تلك الحذلقات والمعميات، يرينا ببساطة وذكاء ما ينبغي أن يوصف ويعلم ويؤثر، ونسمع الأصوات التي تدور حولنا وحين تلتقط في الرواية يصبح لها نبر ووظيفة، وقد فعل.
كذلك يفعل، يقدّم الساردُ شخصيته المحورية (فارس منير) يستيقظ من نومه ويبدأ في تجميع كيانه داخل شقته تتنقل عيناه في أطرافها يفحَص ويصِف وينبِش رأسَه تذكّرًا، وعلى وتيرة النظر والتذكّر باستدعاء أجزاء من ماضيه، وهو غير تيار الوعي، بما أن السردَ مؤسَّسٌ هنا مباشرةً والذاكرةُ تلعب في حلبةٍ وزمنٍ تُشخِّصُهما وتملأهُما بالمحكيات، مع لعبة ذهاب وإياب بين ماضٍ وحاضر. الحاضر مُعيّنٌ بتاريخ يوم محدد، فالكاتب يطرح سردَه في قالب اليوميات، خارقًا النّسقَ التعاقبيَّ يبدأ بيوم ويتأخر عنه سنواتٍ ثم يستأنف وهكذا يتراوح بينهما، ممّا ينسجم بطبيعة الحال مع دينامية لعبة التذكّر البانيةِ للسرد ويحفز القارئ على نباهة الرّبط إذ يُشركه في فعل حبك سرد يبدو يتفكك وهو ينمو. يمكن اختصارُ قصته ببساطة: فارس موظف في وزارة الثقافة بالرباط، وبسبب إهماله وغيابه المتكرّر يتلقى استدعاء عاجلاً من إدارته يخمّنه عقابًا ويطلق العنان للاحتمالات، بها تبدأ الرواية برسم أفق، وتشي بطبيعة الشخصية، بلمسات عابرة ومتقلبة ومزاجية عالية تسخر من رفاهية الاستقرار بمديح اللامبالاة. يطلق استدعاء الوزارة للموظف المهمل، كما لو أنه ليوبولد بلوم بطل رواية «عوليس» لجيمس جويس(1882ـ 1941)، شريط ذكريات في يوم جولة طويلة، يقفو أثره فارس منيرـ لننتبه إلى دلالة اسم الشخصية لا تخلو من مفارقة ـ ذاك في دبلن وبطلنا المغربي ـ المضاد مثله ـ في الرباط. في صبيحة موعده مع الوزارة يخرج من بيته ويتسكّع بين المقاهي والشوارع، يرى ويصف كيفما اتّفق ما يقع عليه بصرُه في محيطه بشرًا وجمادًا، بموازاة حركة نفسية وحركة تواتر الذكريات، قريبة وبعيدة، عبر مراحل مختلفة من حياته بمثابة التأثيث العائلي والدراسي والإنساني أتراباً في المدارس وأصدقاء في الشباب، يخوض وإيّاهم غمار الحياة مُنشَدًا إلى فكرة الانتماء إلى الأصل، الأقارب والقبيلة، تجاور إحساسه العارم بالضياع، وانتماءه المشتت بأفكار وشعارات يسار ومقولات فلسفية ولروح الصداقة. ومن بوتقة الحنين وتداعي الخواطر نتعرف عليهم وهمومهم، في القلب منهم «وديعة خُفاف» عالم حافل يرسمه السارد تتعدد فيه الأزمنة وتتداخل هي والأمكنة، وتتقاطع الشخصيات البانية للسيرة المحيطة ولتاريخ تعليمي وثقافي وإيديولوجي ومزاجي لجيل يبحث عن مصير، فارس فيه قطب الرحى ومدار المحكيات والمغامرات في مناطق الصبا والمراهقة والخفاء مستعادة بوعي متأخّر، في الزمن الروائي، لم ينزع عنها فطرتها وطراوتها ومعزوفة أحيانا بإيقاع الاستيهام والهيام؛
بالفتاة التلميذة التي تعلق بها التلميذ فارس في ثانوية مدينة خريبكة وطيلة السنة النهائية من التعليم، عاشا علاقة مشبوبةً عاطفةً وجسدًا، ويشاء القدر أن يمرَضَ الفتى في ذروة العلاقة ويفوته اجتياز امتحان البكالوريا وحين يعود بعد شفاء يبحث عن وديعته فلا يجد لها أثرًا اختفت مع عائلتها، رحلت مع والدها إلى الخارج، ولا أهمية بعد ذلك لكل ما يحكى عنها سوى نتوء. سيجعل منها السارد بؤرةً يُدير حولها مسارَه، وكلما انصرف لغيرها من أسماء وعناوين وذكريات ما يلبث أن يرتدّ إليها حنينًا ومصيرًا غائبًا بالرغم من أنه محاطٌ بالأصدقاء وله خليلة وانشغالاتٌ فكريةٌ وأدبيةٌ تبدو كأنما لتزجية الوقت هروبًا من وضع إشكالي يعيش فيه. أضلاعُه ذاتٌ في علاقةٍ مشاكِسةٍ مع محيطها منذ الفتوة، وصداميةٍ مع النظام الحاكم تعبيرًا عن رفض جيل بثقافة ماركسية، ومعاناةٍ مع قمع سياسي، وتطلّعٍ لقيم التغيير وغدٍ أفضل كما شهدها المغرب من الستينات إلى نهاية الثمانينات، أضف التوزّع بين ما كان وما لا يتحقق. يبدو فيها بطلُ الرواية أقربَ إلى شخصية وجودية وسيزيفية تصعد بصخرتها في جبل الأيام وتهوي بها إلى حدّ اللامبالاة والاستسلام، ذلك أن فارس يتلقّى عقاب الوزارة بنقله إلى بلدة مقفرة (برديشة، يصطنعها من خياله وتجسيدًا لمكانٍ قفْرٍ يمارس فيه هواية الاستيهام، هنا حيث الشاعر يكتب) مُضحّيًّا بالعاصمة ودفء الخليلة، يعوّض الخسارة بنسج وفكِّ خيوط الذكريات صنيعَ بنيلوب في الأوديسة يكافأ انتظارُها أخيرًا بعودة عوليس، فيما ينتهي بحثُ فارس المُضني والمتأخّر عن وديعة باكتشاف موتها، وبذهاب الرّفاق أخيرًا، كلّهم إلى غايته.
« وديعة خفاف «روايةٌ شخصية وجيلية في آن، لذلك كاتبُها الشاعر أراد أن يبرهن عن استحقاق تملّك ناصيتها بشحنها بالتفاصيل الفرعية والشخصيات والمشاهد المحيطية، وتوليد الحكايات من بعضها بالاستطراد المقصود، والعودة إلى الخيط الأول للثوب الذي يلبس، فظهرت روايةً واقعيةً حَرفية ًمنحوتة بمجموعة علاقاتٍ اجتماعية وحواراتٍ تنبئ عن عقليات وتقاليدَ وشتات لمرئيات، يُفترض أنها بانيةٌ لعالم شخصية مدينية وبدوية، وخليط من كائن حيّ وآخر مثقف من ورق، فما أكثر إحالاته واستشهاداته وتنوّع قاموسه ونحت مفرداته. يَنقَعُ الكلَّ بروح الدّعابة، بلغة وأسلوب البساطة الشعبية في الأحياء السفلى وعامة الناس، والسخرية سحابةٌ تظلل المقتَ والبؤس وتستخفّ بسلطة زائفة. وإنه لجيد أن وساط، يعرف ويستخدم الدعابة أكبر من أداة للتسرية بل روحا متخللة لقصته، سيرته، خفيفة الحمل وموطن استراحة من عبء الشجن، بطعم وأحاسيس وصور تتوالد، لذا يستهويه الحلمُ والاستيهامُ دائمًا لازمة. يشغِّلهما وسّاط مبارك، وظيفةً شعريةً لا عباراتٍ فضفاضة وكلماتٍ منمّقة يغرِق فيها شعراءٌ انتقلوا إلى ضفّة السرد فأضاعوا المِشيتين؛ لكنه يحرص على المهمة الأولى التي كلّفَ بها استندال الرواية، كونها مرآة تنتقلُ في الطريق وتعكس وتُصوّر ما ترى، وما أكثر ما صوّر.
يكذّب مبارك وسّاط أفق انتظار من تربّصوا يتوقعون شاعرًا في جُبّة روائي. ذلك أنه سار على سنن أغلبية من جرّبوا هذه الكتابة للمرة الأولى، نعلم يُنشؤون في البداية ما يصطلح عليه في نظامها النقدي ب» رواية التّعلُّم» roman d’apprentissage» تحمل اسمَيْ التربية والتكوين، «formation «، وموضوعُها رسمُ وتتبّعُ مسارِ شخصية، بطلٍ، وبحثُه التدريجي عن مثل ، ما يكتسبه في الحياة من تجاربَ وخِبرات، تتميز بتعارض البطل ومحيطه وشعوره بالاختلاف معه يتقمّصه ساردٌ عليم واثقٌ من نفسه وتعليمه يسكن بطله ويتعالى، أحيانا ، وهذا نميّزه في» وديعة خُفاف» التي تشمل حِقَب الفتوة والشباب وسنواتِ التمكّن، كما هو الحال في رواية « سنوات تعلّم ويلهلم ميستر» لغوتة يُعدّ نموذجًا لها، هنا بطل يختبِر نفسه في معمعة العيش ورغباته، وحدوده، وينتظم التعلمُ حول البحث عن هدف ما ومثال يصطدم بعوائقَ في الواقع. رواية التعلّم ورشٌ مفتوح غالبًا ما يضع فيه المبتدؤون كل عتادهم ويسردون تجاربَهم الخاصة ينسبُونها إلى أسماء مستعارة أو يسندونها إلى ضمير الغائب، لذلك كثيرًا ما ترتبط بصِلاتٍ وثيقة بالسيرة الذاتية، وهذا سائدٌ اليوم بقوة في الرواية العربية ومنها المغربية تشهد طفرةً ملحوظة، سنعنى بهذه الظاهرة في مقال آخر، وننتظر أن ينطلق وسّاط روائيًا كاملا. من لا يواصل لا تنتمي روايته إلى مفهوم ونظام» التّعلم»، تبقى محاولةً ونفضَ جراب، وهذا بعضُ ما يظهر في إنتاج مفرطٍ للروايات في أدبنا العربي والأجنبي، أيضا، يخطئ كتابها في موضوعها وفنها ونسقها، لذلك ليس كل من دوّن حكاية وسردَ ذكرياتٍ وحشد لها شخصيات وصورًا من دروبٍ وحاراتٍ وأصحابٍ وصاحباتٍ روائيًا. استندال وموبسان وجيمس جويس، مثلا، كتبوا روايات تعلّم، رسموا فيها علاماتِ الطريق ثم كتبوا الرواية، كما فعل صنع الله إبراهيم بعد» تلك الرائحة» وجمال الغيطاني بعد» أوراق شاب عاش منذ ألف عام».


الكاتب : أحمد المديني

  

بتاريخ : 28/09/2023