حارسو هشاشة الكائن

(1) جنون ديمقريطس:

الشعر خبز الحياة، به تستعيد الأرض حريتها وتستنفر حواسها المتعدّدة لالتقاط البهي والغريب والغامض، وعن طريقه تسلك الملائكة جغرافيات السحرة وهم ينطقون حجر الفلاسفة، ومع ذلك فكينونة الشاعر تنتمي إلى هذه الحدود اللامتناهية في الالتباس وإثارة كوامن الأدغال المتوارية خلف الأضواء المشعّة من مصابيح الحقيقة، والتي تعتنق ملّة الشّك وعدم الركون إلى الجواب، فكل جواب في الشعر طمس لجوهره وسرّه. وتحجيم لقدرة اللغة في اختراق مجاهل السؤال وترويض الحقائق مجازا. كلّ هذا دفع بديقريطيس إلى رفع لواء الجنون معيارا لوجود الشاعر، وطريقا مؤهلا لاصطياد فراشات المكابدة، قائلا : « لايمكن أن نكون شعراء دون قدر ما من الجنون» فاستحالة الشعر من تعقله وكينونته تتولّد من جنون، وذاك صراع قائم في حضرته بين العقل والجنون، بين الحقيقي والمجازي، بين الواقعي والخيالي، بين الواضح والغامض، بين الحدود والتخوم، بين العتمة والضوء.
إن جنون ديمقريطيس موروث من آلهة الأساطير الأولى التي تتحدث عن البدايات الغامضة وعن الخلْق في انبثاقه الأول، حيث كان السؤال جنونا نحو معانقة حقائق الماء والنار، التراب والهواء، لتبقى الحقيقة ملغومة ولا تحمل جوهرها إلا في جنون الشكّ وعشق الحلم .
ومادام الشعر مرتبطا بالجنون، فإن الأرض تظل حبلى بأقانيم الهواجس والرغبات والأهواء المطموسة في المناطق المحجّبة للكائن والوجود. جنون يؤسس لخليقة شعرية تعتمد الحواس في تشييد عوالم متخيّلة تؤثث كون البياض متخيّلا معجونا بملح العاطفة وارتدادات الأرض واهتزازاتها بعرق الفلاحين والعمال وبائعي الفرح للأطفال وطمأنتهم على مصير العالم، ولبصيرة الحارسين ربوات دورة الحياة دون أن يصيبهم كلل ولا ملل، ومع ذلك يضحكون في وجه الحياة بعيون يقظة ومتأهبة لالتقاط القصي والملتبس.

(2) جريرة أفلاطون :

إن لعنة الشعراء ستظل تطارد أفلاطون في سيرته و قبره، لكونه لم يميّز بين الواقع والخيال، وكان من عبدة الحقيقة المتجلية في السياسة وتدبير المدينة، مدّعيا أن الشعراء يثيرون الأهواء الدفينة للكائن ويبعدون الجماهير عن بلاغة الإقناع ويقربونهم من بلاغة الإمتاع، فطردهم شرّ طردة من مدينته الفاضلة لكنها ناقصة الخيال، لأن الإصابة بالحب/ العاطفة تجعل الناس يغدون شعراء حين تساءل بسخرية « متى أصابه الحب يتحول أي كان إلى شاعر» متناسيا أن أصل الحياة حب الإقامة والسياحة الروحية والجسدية على هذه الأرض التي تحتاج لظلال الكائن وخيالاته الجانحة، فكانت الخيبة تزداد اتساعا وذيوعا في مملكته المسيّجة بالحقائق لأن هوميروس حكمت عليه إرادة العقل البقاء خارج حظيرة الجمهور، مات الجمهور في سفسطة الكلام وبقي هوميروس حيّا في ذاكرة الوجود، وذاك فرق جليّ بين عالمين ، عالَم متمنطق وعالَم محبّ، والحب يكره المنطق بقدر ما يلتصق بالتيه واللاإقامة، لينتصر الخيال في الكثير من سيرة أفلاطون على ثقافة التجييش والتهييج، لأن الشعر فريد وفرادته في خروجه عن منطق الجمهورية ليؤسس بكيانه دولة العاطفة المعقلنة.
إن جريرة أفلاطون لا يماثلها إلا جرم حراس التوابيت وكهنة العمود الذين يقيمون في كهف الاجترار ويعلنون حربهم الضروس على مُحبّي الإبدالات بدل مناصرة الثابت، ذلك أن في طرد الشعراء من جمهوريته رجعية قاتلة لروح التخييل وخنق لإرادة التحليق في سماء الحيرة، في مدينة تفتقد لروح التحرر والتجاوز، وهي شبيهة برجعية أهل الأشكال الميّتة والفارغة من رجة الكوامن.

(3) قلق المتنبي :

طبيعة الشعراء أنهم يحرسون العالَم ولا يلتفتون كالماء الذي يذهب في مجراه إلى حيث مثواه، غير أن مصيبة الإبداع تكون قلقا واضطرابا وحيرة ونزوحا للفرادة والرغبة في طلب الغريب والطريف وحماية نزيف اللغة على بياض الطروس، فيكون هذا القلق تدليلا على الرفض الصادح بحقيقة العصيان لكل ما من شأنه كبح جماع الخيال، وتصفية حياة المجازات المستشرية في مفاصل اللانهائي، وهذا ما قصده المتنبي بقوله: «على قَلَقٍ كأنّ الرّيحَ تَحْتِي» إنه تروبادوري يعشق الترحّل عبْر مفاوز الصحاري طالبا راغبا في مملكة السلطان، لكن المتنبي خذلته الوعود الكاذبة ليمتطي ريح المشاكسة والدفع بالشعر إلى أقصى مداه، ناسجا هشاشة كينونته التي تعرّضت لمكيدة الأماني، ليقول بالشعر يرى الأعمى ويسمع الأصم، وتكون القصيدة مجسا لقياس نبض الذات والغوص في تشابكاتها، وإحداث الرّجات في وجود يحتاج إلى الخيال لإنقاذ الإنسانية من حروب العدم الناعمة.

(4)صرخة هولدرلين :

في مطلع القرن التاسع عشر صدح الشاعر هولدرلين ضمن نشيده «خبز وخمر» بما يشبه الصرخة اللعينة التي انبجس هديرها التساؤلي الدال على حدة القلق الداخلي عندما قال « لماذا الشعراء … في الزمن الرديء ؟! وهو تساؤل مخاتل يسقط في فخاخة المنصوبة ذوو الذائقات المتقوقعة حول الفهومات الثابتة، لكونه يشرَع أفق البحث عن جدارة الشعر في الأزمنة المنفلتة والعاصية على الوعي بقيمة الترحال في تلك المناطق المذهلة جماليا وعتمة، وجوهر الحيرة في هذا الفخ الدلالي، ذلك أن وجود الشعراء في أزمنة الرداءة ماهو إلا انتصار لهذا الخلْق القادم من تخوم اللغة والتخييل، والمنبثق من الكهوف البعيدة من الكينونة، ولا غرابة في ذلك مادامت الآلهة أعلنت إفلاسها وانسحابها من الوجود لتتركه عُرْضة للامعنى والجنون، تاركين المصير الوجودي تحت سلطة الشياطين والحمقى والنوكى بلسان الجاحظ، فترك العالَم في يد أعداء الخيال والجمال سيفضي إلى الإقامة في الحقيقة وطرد المجهول من مملكة التخييل.
إن صرخة هولدرلين إدانة للشرّ والكراهية، للعبث والتفاهة، للأرض الفارغة من المعنى والمترعة بخراب الأبد بفعل الحمق السّاري في مفاصل ملوك الغابة، وهي أيضا دق أجراس الفزع من مآل الشعر في عالَم يزداد في التفنن في توسيع فضاء المقابر وتسييج الخيال بمتاريس القبح والسعي إلى إخماد حرائقه وحدائقة، ومحو الحيرة والقلق بلغة تستلهم وجودها من فقاقيع الضحالة.
هي صرخة ضدّ العدمية والانتساب إلى الليل؛
ضد شراسة المنافي الممتدة خرائط في كل بقاع المعمور/
ضد الطمأنينة المخاتلة، والوهج الذي يعمي القلوب ويشلّ العقول؛
ضد الكائن في تجبّره وتغوّله، في جنونه اللامعقول؛
ضد تقديس التافه والعابر والآني؛
هي صرخة النقيض والمفارق والمفاجئ والمهول والمذهل؛
صرخة الانتساب إلى المجهول، إلى التيه، إلى اللعنات الآتية من آلهة المحبة
صرخة العناية بكنس العالَم من كلّ ما من شأنه تشويه الوجود والموجود.
إنها صرخة الأبدية.

(5) مركب رامبو :

الشاعر آرثر رامبو لم يسعفه الشعر في الحياة، مادامت هذه الأخيرة أشدّ قساوة عليه منذ أن أدركته لعنة المجاز والسياحة في تلك الغوامض الدفينة في لاوعي الطفل وهو يتعرّض لهزات كان لها نصيب في تغيير مجرى الشعر إلى الذهاب بعيدا عن صداع القلق الذي لازم صنوه المتنبي منذ قرون خلت، غير أن قلق رامبو يختلف عن المتنبي في كونه شرَع في اقتراف سؤال الكينونة كجريمة تعاقب عليها نواميس الكنيسة التي ساخت في الذهنية القروسطوية المتكلّسة والمتقوقعة حول صكوك الغفران، لكن غفران رامبو كان مطاردة الاستعارات التي شبّهها نيتشه بجيش متحرك، فظلّ رائد الحداثة الشعرية في أوربا صيّاد هذه الاستعارات التي نحيا بها بعبارة جورج لايكوف، فكانت حياة الشاعر مليئة أيضا باستعارات تقتل عندما تعرّض لإطلاق النار من لدن بول فرلين، مما حتم عليه التوجّه شرقا لممارسة التجارة ليبتعد عن حروب الخيال ومجاز الوجود. إلا أن رامبو – ورغم قصر عمره حيث رحل عن الدنيا وهو يبلغ من العمر إثنين وثلاثين عاما- ترك شعرا ينبض بالقلق والحيرة، ويشع بأنوار الداخل وارتجاج الكون والذات، فوضوي بامتياز، متقلّب ومدهش وما «فصل من الجحيم» والمركب النشوان» إلا طريق نحو معانقة المجهول والعيش في التيه كخيار وجودي. وشعرية رامبو تكمن في هذا الصمت المفاجئ والمثير للكثير من الأسئلة المتعلقة بالجدوى من الكتابة . هل قدر الشعر الاحتفاء بهشاشة الكائن والشعور بالعبث كسلوك احتجاجي ضد العالَم . إن صمت رامبو كان إدانة ضدّ الاستعارات القاتلة وانتصارا للاستعارات الحية. بل إنه الشاعر الذي قرأ الوجود بحواسه باحثا عن الأنا الآخر الذي ظل مؤمنا بجدواه، فبدون الآخر لا يمكن تحقّق الكينونة، ولعل صرخته «أنا هو الآخر» بيان واضح على كون شعره منذور للإنسانية.

(6) سلالة بروميثيوس:

الشعراء القادمون من الفلوات مدججين بسمفونية النشيد، المقتفون أثر الغابرين بحثا عن نار الغناء ، والمنفيون في سهوب التّيه ومطاردة غزلان اللغة في براري الأيّام الغُرّ والزمن المنفلت من رقبة المكان، والحارسون ممالك الأساطير وحصون الجنّ، المنتظرون ربّات الشعر لتزرع الأرض بروائح القوافل وأنفاسها، الساهرون على موائد القول ولذة الكلام، المهاجرون في سبيل العشق والواقفون على طلل الحبيبات النائحات في صمت لوعتهن، والناسجات في سماء المنافي أقمارا من أحلام وأماني، الهاربات من رصاص الخيال مخافة سيف القبيلة…
الشعراء المارقون عن نواميس القوالب، المتمردون عن نمط الكتابة، السابحون في بحور شتى، والمنتمون إلى سلالة بروميثيوس، هؤلاء إخوة الشياطين المؤمنين بالعصيان، المسدّدون رؤاهم نكاية في اللفظ والمعنى ، وحروب الجيّد من الرديء، والعارفون بحق المبنى على المعنى والعادلون في اقتسام إرث الأسلاف. والعصاة الشداة المؤججون لهب الشعر في أرض خلاء وعالَم يزداد توحشا وخرابا، والقائمون على ناصية الهاوية حفاظا على ماء اللغة لتزداد طعما لائقا بحفدة الإبداع …
في ظل هذه الانتكاسات الحضارية وانهيار القيم المخيف والمرعب يكون حراس هشاشة الكائن الأوائل في الجبهات والأواخر في الهدنات، وتلك سيرة بروميثيوس وحاملي صخرة سيزيف، والمعتنقين ملّة زرقاء اليمامة والتروبادوريين المترحّلين في الوهاد العميقة الموحشة والموغلة في الدهشة، فهم الذين يسعون إلى إنقاذ الكائن من هشاشته وهشاشة الوجود، ولولاهم ماكان للحياة أن تشق طريق الأمل في مستقبل مشعّ بالنشيد وصيرورة الماء حيث الفناء عنوان الأرض والسماء…
ليس الشعر مطية سهلة للركوب وبلوغ المبتغى المقصود، بقدر ماهو الصعود إليه سلّمه صعب وشاق، لا لأن منبته الوجدان ولكن لأنه ملح الحياة وبدونه تختل موازين الموجود والأشياء وترتبك سيرورة الكون. ولا حاجة للشعر من طبول وجلبة، من زعيق و زفّة، الشعر في حاجة إلى تلك النار الملتهبة في رؤى العالَم، وبصيرة اليمامة الزرقاء التي رموها بالعمى فكانوا هم العميان، وتلك الصخرة المنذورة لظهر سيزيف ليوقن عذاباته في هذا الوجود.
كم نحتاج من الاحتراق والمكابدة والرؤى لتأثيث البياض بالحياة بعيدا عن لوك الكلام واقتراف جرائر في حق خالق الجمال. فالإنسانية اليوم في أمس الحاجة إلى الشعر انتصارا للخيال وتأييدا لسطوة المجازات والاستعارات التي بها نؤسس لوجودنا الجمالي والوجودي.
إنها سلالة لا تقتل الأب ولا تضع الإبداع على مقاس سرير بروكست، ولا تصنع الشعر في قوالب وثنية بقدر ما تأخذ اللهب لإضاءة العتمات ودهاليز الخالق والمخلوق، ولا أحد بإمكانه خنق نفَس البواطن الصاعدة من فرن المكابدة.
هؤلاء هم سدنة النار المقدسة، النار التي تنفخ في أوصال العالم حكمة الاحتراق، وتوقظ في النفوس سؤال الشجرة التي عرت حقيقة الهشاشة.


الكاتب : صالح لبريني

  

بتاريخ : 04/02/2022