حتى لاننسى… ملامح من تجربة الموسيقار الراحل عبد الرحيم السقاط

 

برحيل الموسيقار عبد الرحيم السقاط في 1 نونبر 1985 تكون الأغنية المغربية العصرية فقدت علما من أعلامها البارزين الذين عملوا على تطورها لحنا وأداء، والسير بها قدما حتى أصبحت ألحانه تضاهي ألحان رواد الموسيقى العربية في مصر الشقيقة، تلامس العواطف وتدغدغ الأحاسيس بشكل يثير الإعجاب.
ولم يكن عمل هذا الفنان وليد الصدفة، بل كان مبنيا على أسس علمية، فبعد حصوله على البكالوريا في الخمسينيات من القرن الماضي من ثانوية مولاي إدريس العتيدة بفاس، سافر إلى فرنسا للدراسة، وبعدها انتقل إلى القاهرة، حيث التحق بجامعة فؤاد الأول سنة 1953، ومنها حصل على أعلى شهادة في الموسيقى، وخلال دراسته ربط علاقات مع عمالقة الموسيقى العربية في طليعتهم الموسيقار محمد عبد الوهاب، الذي انبهر بعزفه على آلة العود، ونصحه بتطوير الأغنية المغربية حتى تتمكن من الانتشار في العالم العربي.
وبعد الاستقلال عاد إلى المغرب تحدوه الرغبة لتحقيق طموحاته في تجديد الأغنية المغربية والسير بها قدما نحو التألق، واضعا كل طاقاته الفنية لخدمتها، فتغنى للوطن واستقلال المغرب أولا، ثم وضع بعد ذلك الألحان لأغنية «علاش ياغزالي»، التي تعد بداية الانطلاقة الفنية لتجديد وتطوير الأغنية المغربية العصرية، هذه الأغنية التي أداها المطرب الراحل المعطي بن قاسم، والتي لقيت نجاحا جماهيريا منقطع النظير.
وكان نجاح هذه الأغنية حافزا له لمواصلة البحث والتجديد في إطار الأغنية العصرية. وباقتراح من صهره الراحل الشاعر المناضل محمد الوديع الآسفي سافر إلى الاتحاد السوفياتي سابقا في الستينيات من القرن الماضي ضمن وفد ثقافي يمثل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الاتحاد الاشتراكي حاليا لتمثيل الأغنية المغربية، إذ لاقت سهراته نجاحا باهرا في مختلف المدن التي نظم فيها الوفد المغربي حفلاته.
وبعودته من هذه الرحلة الثقافية تم توقيفه من جوق الإذاعة الوطنية بدعوى انتمائه لحزب يساري، ليشتغل بنكيا، لكن طبيعته الفنية لم تجعله يتأقلم مع الوظيفة حيث غادرها، فعاش فترة إملاق رفقة زوجته وأطفاله بشقة متواضعة بأحد الأحياء الشعبية بالدار البيضاء.
وخلال هذه الفترة العصيبة من حياته، كغيره من العباقرة، لحن أروع الأغاني في طليعتها «بلغوه سلامي» كلمات الزجال الراحل أحمد الطيب العلج، التي أدها الموسيقار عبد الوهاب الدكالي في بداية مشواره الفني، و«صدقت كلامهم» التي غناها الفنان عبد الهادي بلخياط، و«كاس البلار» كلمات وأداء فتح لله المغاري، وأغنية «الخاتم» للفنانة نعيمة سميح، التي كانت مفتاح شهرتها وطنيا وعربيا وغيرها من الألحان الجميلة.
ولم يكن تعامل السقاط مع الكلمات تعاملا اعتباطيا، فقد كان متذوقا للشعر والزجل، مبتعدا عن كل ما هو سخيف لا يشرع في تلحين أية أ قطعة غنائية إلا إذا تماهى مع كلماتها شعرا أو زجلا، لأنه فنان مثقف يعي دور الكلمة و تأثيرها على المستمع.
وبعد هذه الفترة الخصبة من عمره الفني التحق من جديد بالإذاعة الوطنية ضمن جوق إذاعة الدار البيضاء، حيث رتب في أبسط السلالم الإدارية رغم شواهده الثقافية والفنية، و إبداعاته الرائعة، و نظرا لظروف احد أبنائه الصحية، انتقل إلى فاس ليواصل مسيرته الفنية بجوقها في جو من المعاناة التي رافقته طيلة حياته كفنان وشاعر، وهي خاصية لا يعرفها إلا النزر القليل من الأقارب والأصدقاء.
لم يهتم الراحل عبد الرحيم السقاط بالأغنية العاطفية فقط، بل كان مهتما بمختلف الفنون الأدبية، حيث كان قارئا مميزا، فالكتاب والعود كانا رفيقي دربه باستمرار، كما كان معجبا بالشاعرين محمود درويش ونزار قباني، الذي لحن له عددا من القصائد الشعرية في طليعتها «الهاتف» التي أداها الفنان عبد الهادي بلخياط شافاه لله. كما لحن قطعة ملتزمة لأخته الشاعرة المناضلة ثريا السقاط، هذه الأغنية التي لم تسجل مع الأسف الشديد، بالإضافة إلى عدد من الأغاني الملحنة التي لم تر النور، والتي لازالت بحوزة بعض أصدقائه.
والواقع أن الموسيقار الراحل عبد الرحيم السقاط يعد مدرسة تجديد للأغنية المغربية العصرية، التي نأمل أن يستفيد من خزانته الفنية الملحنون الشباب لمواصلة المسيرة الفنية التي ابتدأها بأغنية «علاش ياغزالي» وأنهاها برائعته قطار الحياة.


الكاتب : فاس: محمد بوهلال

  

بتاريخ : 24/02/2021