حديثُ محْبَرة … سُبُلُ الــخروج من القمقم

سألني محدثي ـ والقطار ينهب صدر الأرض نهبا، ويملأ بوقه « الإسرافيلي « الحاد، الرحْبَ والفضاء، زَلْزَلَةً ورعباً، بتحريف قليل لقصيدة شاعر النهضة العراقي معروف الرصافي ـ سألني قائلا: ألاَ تحدثنا محبرتك وقد استغرقها الكلام في العلم والتكنولوجيا، عن الإبداع والثقافة بما هما ـ في ما يبدو ـ ركنان في التنمية، ولَبِنتان أُخْريان في بناء مجتمع المعرفة ذاك الذي حدثتنا عنه سابقا، والذي يقوم ـ في الأغلب الأعم ـ على العلم والتكنولوجيا بتجلياتهما المختلفة، ومشخصاتهما المتنوعة، وتطبيقاتهما الحالَّة والمحتلة، من دون أن تشير، ولو إيماءةً وخطفا، إلى دور ووظيفة العامل الإبداعي في بناء المجتمع إياه؟
ـ قلتَ حقا، أجبتُ، لكن، ألم تلحظْ أن حديث محبرتي وقف عند عنصر الابتكار والاختراع والإبداع، وحس المبادرة في مناخ مُوَاتٍ من الحرية والديمقراطية، وتحفيز النبوغ والكفاءات. وما ذلك إلا لأن العناصر المتلوة المذكورة هي أخواتٌ للإبداع كصناعة فوق أنه فن وجمال، وسمو بالروح والذوق، والأخلاق، وإعلاء للمثل الإنسانية العليا، والقيم والمباديء الكونية الثابتة، سواء ارتبط بالمعرفة العلمية المحض من رياضيات وفيزياء وكيمياء، وطبيعيات، وهندسة وراثية، وطب، وعلوم إحيائية، أو اتصل بالمعرفة التواصلية خَدينةِ الثورة المعلوماتية المحمولة على محفة الرقميات من موبايْلاتْ ذكية، وإنترنت، ويوتوبات، وفيديوات، وفايسبوكات، وتويترات، أو كان إبداعا حقا.. إبداعا مشبعا بتسميته، وفيا لخاصياته، يرتبط بالأدب والفلسفة والشعر، والموسيقا، والتشكيل، والمسرح، والسينما، والأفلام التسجيلية. كل ذلك ضرورة محتومة لمجتمع المعرفة إذا شئنا أن نحلق بجناحين: جناح العلم والتقنية، وجناح الفنون والآداب، جناح الثقافتين كليهما حسب رأي المفكر تشارلز بيرس سنو.
ألا ترى ـ يا صديقي ـ أن المجتمعات الرائدة، الواصلة، تحلق بهما معا آناء الليل وأطراف النهار، إقرارا لوجودها، واحتسابا لحضارتها، وإشباعا لحقها في الحياة؟ ففيها، في تلك المجتمعات، ينتعش الأدب بكافة أجناسه وتلويناته بما يلقى من حفاوة واحتفاء ومتابعة وتشجيع. وفيها يعلو سهم الفكر والفلسفة الوجودية والاجتماعية، وعلم النفس، والسوسيولوجيا وغيرها. وفيها تتنفس المتاحف والأندية ودور الأوبرا، والمسارح، والسينمات ملء رئاتها ومسامّها. وتنتشر، منشرحة مستبشرة، مئات الأغاني الرائقة، وروائع الموسيقا الكلاسيكية، والسيمفونيات البديعة. وفيها يهيمن العلم والتقنيات والرقميات، والحساب والهندسة، وصناعة الاستراتيجيات الغدوية، وجدولة زمنيات الصحة والتعليم والتربية لتجويدها وتأهيلها التأهيل الكريم المنشود. وينتصب العمل المبرمج، وتنافسية الدوائر والقطبيات الصناعية والمقاولاتية، وغيرها؛ جنباً إلى جنب.
إن روح العصر متطلِّبَةٌ وملحاحة، ولا يمكن أن تكون إلا كذلك، وإلاّ جف نبعها، وغار جوهرُها، وتيبَّس جذعُها، وانطفأتْ جذوتُها. أمَّا تَطَلُّبُها أيْ مطالبتها وملحاحيتها فتكمن وتقبع في جريها وسعيها الذي لا يتوقف نحو إبداع المعرفة العلمية النسقية، واستنباتها وتشبيكها بخيط واصل رابط بالوجود الإنساني، وبالطبيعة، وبالمجتمع كلاًّ وجزءاً، وبالعالم والكوكبية وهي تتضاءل لتصبح قرية صغيرة أو ماكيتْ في حجم كف اليد.
فالمعرفة العلمية تُعَدُّ أداة تحقيق وعي الذات بأنَاها ثقافيا وسياسيا واقتصاديا، كما تعد وسيلة دفاع عن النفس في معترك الصراع مع الأنا والآخر لاحتياز مكانة تكفل للإنسان الأمان والسلام في معيشه، وبقائه، وحياته. أما ذاك الصراع مع الأنا والآخر فلا يعني سوى الصراع السلمي إذا جاز التعبير، بهدف إضفاء المعنى الوجودي على الموجود والمنوجد. والعلم بجذوعه وفروعه، بصلاته وتشابكاته، هو السبيل القويم اللاَّحب للتعبير عن الهوية.. هويتنا، وتأكيد مفارقتها في غناها وأصالتها، في تعدادها وتركيبها، بعيدا عن كل تهويم إيديولوجي، وشقشقة سوفسطائية. لأن الهوية في جوهرها، هي فعل الذات الواعية، فعل التجاذب والتراكب، والإغناء المتبادل مع الهويات المغايرة، فعل إنجاز « النحن « المجتمعية، والاستجابة للتحديات بلغة وقدرات حضارة العصر.
ومن المؤكد ـ في السياق ذاك ـ أن الإبداع كصناعة وفن، يعتبر أُسّاً لبناء مستقبل الثقافة في بعدها الأنوي الفردي، والاجتماعي، والنفسي، والقيمي، والجمالي، والمختلف أيْ في الوجود الْمَعِي ( مع ). فهو قاطرة التغيير الاجتماعي والاقتصادي إذا نُظِرَ إليه من حيث ثراءُ مصادره، وغنى روافده. ذلك أن الصناعات الإبداعية بمفهومها الواسع والعريض، أضحت عنصرا مركزيا في تكوين الاقتصاديات المتقدمة التي بها رَفاهُ الكائن البشري، وطيب مقامه ومعيشه. وعلى هذا، فصناعة الإبداع التي نعني، إنما تقوم على دعامتين رئيستين، هما: الفنون الإبداعية، والصناعات الثقافية، إذ أن الفنون والثقافة صارت ـ راهنا ـ موصولة بصناعات ضخمة، وتنشيط تكنولوجي هائل، مثل الترفيه الإعلامي ( انظر إلى القنوات الأمريكية، والبريطانية، والفرنسية إلى حد ما ). وهو ما يشير، ربما، ويعمل، بشكل مبطن لكنه محسوس، على تجاوز الهوة بين النُّخب والجماهير الشعبية عبر منتجات تلك الصناعات التي أمست غازية لكل بيت إنْ عبر الفضائيات، أو عبر شبكة الإنترنت الرهيبة، والتي يشترك فيها الكل، أو يُشْرَكون فيها دفعاً طوْعا أو عنوةً.
وفي هذا الصدد، يغدو من النافل، التأكيد الدائم على وجوب النهوض بالتربية والتعليم بوساطة التعليم الأساس، والتعليم المستمر مدى الحياة. والتأكيد على وجوب احتضان وتشجيع ودعم وتمويل الثقافة العلمية، والثقافة الأدبية والإبداعية. وليس من شك في أن الثقافة بمعْنَيَيْها السابقين، لن تنتشر، وتصبح خبزا وماء ودواءً، وهواءً، ما لم يشمل خيرها وثمارها، كافة الناس، إناثا وذكورا من مختلف الأعمار والفئات، في بيئة جذابة مُواتية، وضمن أجواء تسودها الحرية والديمقراطية، والعدالة الاجتماعية. ولن يتحقق هذا ـ أهي أضغاثٌ أم أحلام يقظة ـ؟ إلا بمحو الأمية الأبجدية المُكبّلة المسؤولة عن تفَشّي الغيبيات، واستشراء الخرافات والجهالة العمياء، والإيمان بالكرامات. إنه محوٌ يتسنى بمحض العناية للتعليم منذ مرحلة ما قبل المدرسة، مرورا بالتعليم النظامي للذين فاتهم قطار التمدرس، أو تسربوا أو انقطعوا لدَواعٍ وأسباب ذاتية وموضوعية. وبمحو الأمية العلمية بخاصة، والأمية الثقافية بعامة. وهو ما يستوجب « الإحاطة بالمعارف الأساسية للثقافة من حقائق مختلفة تدل عليها مفاهيم ومصطلحات، وتعميمات، ومبادىء أساسية.»
كما ينبغي تمويل البحث العلمي التمويل اللازم اللازب، وتثمين جهود واجتهادات أصحابه. ودعم الترجمة أدبيا ومعنويا وماليا، ترجمة موضوعات المجلات العلمية المحكمة، وترجمة كتب وتآليف ذات تخصص علمي وتكنولوجي وفلسفي، وأدبي، من الإنجليزية إلى العربية بالأساس. ومن غيرها من اللغات الحية إذا بان أن الكتب العلمية إياها ذات قوة معرفية، وجدة علمية إجرائية، قابلة للإغناء، والتوسعة، والتطبيق.
أما الإعلام التلفزي بالخصوص، فيتعين مراجعة ما يَرِدُ فيه، وما يقدمه ويعرضه على أنظارنا وأسماعنا ـ صغارا وكبارا ـ بالصورة والصوت، من تُرَّهات وضَحالة، وأفلام مملولة هابطة، وسهرات منمطة مقمطة سخيفة. ومن ثَمَّ، بات العَوَلُ على نشر المعرفة والعلم والإبداع من خلال تقديم الأفلام الرفيعة، والأفلام التسجيلية الهادفة، والبرامج العلمية، والأغاني الماتعة، والبرامج الثقافية المفيدة. إنه رأيٌ يسْري علينا كما يسري على جل تلفزيونات الأقطار العربية الغارقة في مستنقع الرداءة، والوعظ الذي يغزل أكثر من خيط رابط بأعصر التخلف والانحطاط.


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 28/01/2022