حديث محبرة … عبد الله راجع: المكانة والجدارة

كتب عبد الله راجع اسمه كشاعر قادم بقوة إلى المشهد الثقافي العام، والشعري الخاص، منذ مجموعته الشعرية الأولى ( الهجرة إلى المدن السفلى ). ففي تلك المجموعة، تألقت اللغة وتوجعت إذْ تمثلت جوهر الشعر، وحرائق المرحلة؛ ما يعني أنها وَعَتْ، بعمق، كيف بالإمكان جمع الفن النابض بالواقع المر، وأدركت، تاليا، معنى أن تسمو اللغة لتصبح شعرا. وصار النقد الأدبي المقارب للشعر المغربي المعاصر ـ فترتئذ ـ يتكلم عن شعرية نوعية مغايرة بقدر ما هي رافدة بطميها الخصيب لهذا الشعر المغربي الذي شرع يكرس صوته، ويرسخ خصوصيته، ويدافع فنيا عن شرعية شعرية مغربية سَمْتاً ونعتاً، وتربة، وهوية مركبة، وخصوصية تصب في بحر الخاصيات العامة، محافظة على سماتها وملامحها وما يصنع فَرْقَها.
ومع عبد الله راجع، فضلا عن ثلة من مجايليه ومحايثيه، انكتبت القصيدة المغربية الحديثة والمعاصرة، تلك التي لطالما تَغَياها الشاعر الرائد أحمد المجاطي، وسعى لتخطيط معالمها وبنيتها، وشكلها، وتأثيثها بثقافة العصر، ومكونات المَغْرَبة، وعناصر الشعر البانية التي لا مندوحة للقصيدة عنها إذا شِيءَ أن تكون صوتا لغويا وأسلوبيا وجماليا ذا صلة وارتباط بتربة وتاريخية مَنْشَئِه ومهده، لا صدى أجوفَ، ورَجْعاً مدويا يتلاشى في خضم الشعر العام. من هنا، يكون عبد الله راجع شاعراً حديثا ومعاصرا ومجددا بكل ما تعنيه الصفات إياها من وجوب الحديث عن شعر مغربي جدير بالتسمية، وعن شاعر مغربي عرف كيف يغوص عميقا في حرائق المرحلة، وكيف يضع يده / شعره بقوة ورهافة في آن، في قضايا المجتمع والإنسان المغلوب المقهور، وقواهُ / نُخَبُهُ العضوية من سياسيين شرفاء، ومثقفين مستنيرين الذين تصدوا، كل من موقعه، للقهر والظلم، والاستبداد. ولعل الشعر المغربي كمثيله العربي والإفريقي، انخرط في المعركة بحسبان. فمنه من ركب المباشرة والتقريرية والهتافية على اعتبار أن الأدب رسالة اجتماعية في البدء والمنتهى، فكان نَظْماً لا شعراً، أو خلطا بين هذا وذاك. ومنه من ساوى بذكاء ورهافة بين قول الظلم والاستبداد عبر إكساء المعنى والدلالة جماليةً، ودمغها بأسلوبية بديعة، ولغة رفيعة مكثفة تنوس بين التوصيل والتخييل، مسنودة بالأسطورة الشعبية، والأمثال الهادفة، ونثار الأغاني الملتزمة كما فعل ثلة من شعراء السبعينيات، وعلى رأسهم الشاعر عبد الله راجع. فقد باشرـ منذ قصائده الأولى إلى قصائده الوسطية في مجموعته ( أيادٍ كانت تسرق القمر ) مرورا بديوانه البصري ( سلاماً وليشربوا البحار ) ـ بتوقيع شعره بلغة تهفو إلى السرد السائل المنساب حتى لكأنه قصٌّ وحكيٌ مجنح وغامر، وبلغة غنائية ميلودرامية مسبوكة كأنها سلاسل ذهب متراصة الحلقات، ودوائر مُجَوْهَرة.
وعبد الله راجع وإنْ كان أحدَ ثلاثةٍ ( الاخران هما: محمد بنيس، وأحمد بلبداوي )، فإنه انْماز عنهما من دون أن يعني ذلك أنه تجاوزهما شعريا، وإنما المراد أنه اختط لنفسه نهجا شعريا احتفى باللغة والمجاز والسرد أيّما احتفال، وبقضايا بلاده بشكل تعبيري إبداعي خاص به.
استند راجع إلى مرجعية واقعية بيضاء وسوداء، ونهل من حياض ثقافي فياض ومتنوع، واستند على نفسه طبعا، ما يعني: على موهبته الوقادة، وسهره اللاَّينتهي على تجويد صناعته، وهو ما قاد إلى القول، وما يقود إلى القول بقيمة شعره الفنية والجمالية، واللغوية، والأنتربولوجية. وكان الذي جمع الثلاثةَ، هو التجريبُ والتنقيب، والاستقصاء الإبداعي، والتصوفي، و» الميتافيزيقي «، والثقافي العام. فقد غرفوا من المتون الشعرية الأندلسية على مستوى أشكالها وهندستها. ومن عمائر الأندلس، وفتوحات شعرائه الجمالية: الزخرفة الخطية، والتعشيق التركيبي، والتشكيل الحِبْري النباتي والصَّمْغي والتَّشجيري، أي ما يطلق عليه بالكاليغرافيا. هكذا مارس الثلاثة جنونهم الشعري الأرابيسكي، وتجريبهم الإبداعي المفارق، فكتبوا نصا بصريا في سعي منهم إلى التميز، والتفرد، والبناء الشعري المستقل عن صنوه المشرقي، وفي تَحَرُّق وتوق لكتابة نص شعري مغربي اللون والطعم، والرائحة. وقد صاحب تجريبهم النصي الزخرفي التوريقي والتدويري، والتقويسي، أو المُفَوَّف والمغلف و» اللاَّهوتي «. صاحَبَ ذلك، تصورٌ نظري قصدوا من ورائه، التوضيح، والتفصيح، والدفاع عن مشروعهم الشعري الجمالي، وعن خصوصيته أيضا، وإنْ كان لهم سلف نائمٌ وثاوٍ في طوايا وثنايا الشعر الأندلسي، وشعر الشاعرين الفرنسيين الكبيرين: ستيفان مالاَرْمِه، وغيّومْ أبولينيرْ، وشعر الألماني الهائل نوفاليسْ على سبيل المثال.
هو ذا عبد الله راجع، باختصار شديد. وقد تكرس شاعراً لا يجادل أحد في شعريته وشاعريته، لماّ توالت إصداراته الشعرية النوعية والإضافية التي توقفت بتوقف قلبه رحمة الله عليه. ولكنها استمرت تنكتب، ويتجدد دمها، ونبضها، وجذوتها بالتلقيات التي تقبل عليها محتضنةً ومحتفلة. فالشعر الحق الجميل والشاهق لا يموت. والشاعر الرائي الاختراقي يواصل حياته، وتحليقه في الدنيا، وفي الملكوت الأعظم والأبهر.


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 29/07/2022