حديث محبرة … مـــحمـود درويـش، والذهاب بالنص إلى أقصى الهديل

درويش ليس حالة شعرية مثلما ذهب إلى ذلك الناقد المصري صلاح فضل، ولا ظاهرة شعرية كما وصفه الشاعر الفلسطيني زهير أبو شايب. إنه شاعر الأحوال والمقامات والظروف والسياقات، والأحداث والمستجدات، يطويها طي كتاب، ويقرأها متى شاء وأنَّى شاء، ثم ينشرها على رؤوس الملأ والأشهاد فإذا هي جواهر لغوية تتلألأ، وزمرد شعري يخطف الأبصار، ولاَزَوَرْد ( ما أحب هذه الكلمة إلى درويش )، إبداعي ابتداعي، يختزل المر والحلو في شفوف الزرقة الماسية، والأخضر الفيروزي.
شاعر الحاضر وشاعر الآتي، بل هو الشاعر لأن الحالة تتبخر وإن طالت، وتتبدل بتبدل الحالات النفسية والمزاجية، والاجتماعية والمعرفية. كما أن الظاهرة، وإن أبهرت، وهزت الأعطاف والأفئدة، وعمرت ردحا من الزمن، فهي إلى تلاشٍ ونسيان. ولنا في ظاهرة الفرق الغنائية الغربية والأمريكية والعربية، وظاهرات الصرخات الأدبية والتشكيلية والشعرية، كظاهرة أحمد مطر، ومظفر النواب، وشعراء العمود المنبريين، وغيرهم، لنا في ذلك ما يقوم برهانا على ما ذهبنا إليه. فالظواهرـ غالبا ـ ما تلتبس بالمناسبات، وتستدعيها المستعجلات، والرياح العابرات.
أما ما يبقى من الظاهرة أو الحالة فليس غير ريش ذكرى، وفتات زمنية ولَّتْ، ودخان وضباب صارا إلى غياب.
في أعمال درويش الشعرية ــ منذ « ورد أقل «، و» أحد عشر كوكبا «، و» أرى ما أريد «، و « جدارية «، تلك القصيدة المدهشة والمرعبة والاستثنائية في تاريخ الشعر العربي المعاصر، مرورا ب « لماذا تركت الحصان وحيدا «، و» حالة حصار «، و» لا تعتذر عما فعلت «، و « كزهر اللوز أو أبعد «، بالمُكْنَة استقراء القلق الوجودي الدرويشي الكبير، وتوتره المعرفي واللغوي العاتي. كأنه كتب تلك المجاميع الشعرية « على قلق «، لا على عجل، « كان الريح تحته «، و» جمر الغضا « يشعل أنامله ودمه وأعصابه. وكأن الموت يراه ويوميء له: أَنْ تعالَ. من هنا، خوفه من أن يُطْوَى ويصير إلى غياب، من دون إنهاء ما عاهد الشعرعليه، وما عاهد الشعر عليه لم يكن سوى الذهاب به إلى أقصى القلق وأقصى الهديل، إلى أبعد نَفَس، ومهب روح، ما يعني إلى صياغة النص كما يفعل صائغ الذهب تماما، وكما يفعل الخبير العارف بالأحجار الكريمة إذ يزنها بميزان اليد المجربة، واللمس الرهيف، والعين الحاذقة، وبالحواس كلها، والحدس أيضا.
منبع قلق درويش، مُتَأتٍ من تكرار نفسه، واجترار صنيعه، وتدويره كما تُدَوَّرُ المتلاشيات والفضلات. ومأتى هديله جاءٍ من حرصه على التشذيب والتهذيب والتجويد والتجميل، فإذا نصوصه الشعرية آية في النقاء والصفاء اللغوي، والصقل الجمالي، والتحكيك الفني، وغاية في الأناقة والرَّفاه حتى لكأنه شاعر أرستقراطي مع ما تفيده الأرستقراطية من معنى ودلالة على جمال الشكل، و» الشياكة « المظهرية والمخبرية اللغوية، وحريرالأردية التصويرية المنمنمة، ومرايا الضوء التي تعكس ألوان النيون وأقواس المطر.
لذلك كان مفتاح دخوله إلى أرض القصيدة، هو اللغة التي كان يجلس إليها الأصباح الطويلة المتعاقبة، مقلبا وسابرا باحثا في جذورها، وأصولها واشتقاقاتها، ومرادفاتها. يجلس ممسوسا مفتونا بالمعجم والقاموس. لعل « لوثة « بديعة عالية الشأن، ملهمة بعيدة الأثر والعدوى، مسته من أجداده أبي تمام والبحتري والمتنبي بما هم سادة وأمراء وأساطين اللغة والبيان. ولا يمكن لقاريء شعر درويش إلا أن يلمس هذا التأثير والمس في درويش من حيث إتقانه الهندسة والبناء، والتحكم في اللغة إلى درجة تفقيس المترادف واستدعاء الجذور اللغوية المتصاقبة، واقتناص الجناس بأنوعه ابتغاء جلب الموسيقى والجرْس العذب، والماء الرقراق لشعره، ولنصوصه حتى المنثورة منها، أي التي جمَّعَتْها كتبٌ بديعة التوصيف والنسج والتصوير، مثل: ( ذاكرة للنسيان )، و( أثر الفراشة )، و ( في حضرة الغياب ).
ولعل تطور علاقة درويش بمرجعياته، ومقروءاته، وإنصاته العميق والمرهف لما يسري ويجري في عروق وَوَتِين التقدم والتحول في المضامير الإنسانية المعرفية المختلفة، والشعرية العالمية، كان وراء الألق والصفاء، والعذوبة المتدفقة والسيولة النثرية والمُدَوْزَنَة التي عرفتها دواوينه الأخيرة، واندمغت بها سيرته الشعرية الباذخة: « لماذا تركت الحصان وحيدا «، وكتاب الحب السيري المتفرد في بابه: « سرير الغريبة «، والعنفوان التصويري الهائل في « لا تعتذر عما فعلت «، وإرباك المحتل بالحجة التاريخية الماثلة، والورد الكنعاني في ديوانه: « حالة حصار»، وصولا إلى قصيدته / الذروة: « لاعب النرد «.
إننا نعني بالتطور المشار إليه، تطور اللغة الدرويشية في علاقتها بالمرجعية الكلاسيكية، وفي علاقتها بالمثال الرومانسي وانتهاء بعلاقتها بذاتها. ما يفيد خلوصها إلى التفكير في اللغة بما هي كلام أمير، وتوصيف للدخائل والأعماق، وتنافذ أزمنة، وتداخل أمكنة وتجارب، وتغريبة، ومقامات، ووطن بديل.
شغف درويش باللغة وهيامه بها، قاده إلى محضها التعهد والعناية والسهر والصبر حتى تؤتي ثمارها يانعة نَضِرة خَضِلَة شهية، وتنهض وطنا نصيا بديلا من وطن واقعي محتل ومسروق. وهو الشغف والهيام اللذان عبر عنهما في كثير من آرائه ووجهات نظره، وفي جملة معتبرة من أشعاره حتى صور نفسه « كائنا لغويا «. فقد ورد في ديوان ( لماذا تركت الحصان وحيدا )، جملة شعرية دالة بما لا يقاس: ( من يكتب حكايته يرث أرض الكلام، ويملك المعنى تماما ). وكانَ أَنْ كتبَ حكايته شعرا ونثرا، ومواقفَ، فورث أرض الكلام، ورث الحضور في التاريخ والمكان والزمان، في الماضي المشطوب، والحاضر المنكوب، والغد المتلامح المحجوب.


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 22/07/2022