حديث محبرة … نــحــنُ مـا نـَقْــرأُ

ليس عبثاً أن تحتفيَ الكتب السماوية التوحيدية الكبرى بالقراءة والكتابة، وتحث عليهما بالأمر الإلهي نحويا ولغويا وسيميائيا ودلاليا؛ مرة في صيغة تقرير وإقرار إخباري كما في مدخل إنجيل يوحنا:( في البدء كانَ الكلمة) وإن اختلف في تفسيرها وإعراب الكلمة خبراً أو مبتدأ: فالخبر يحيل على الرسول عيسى، والمبتدأ يقترن ببدء الخلق. ومرة أخرى في صيغة أمر طلبي إنشائي صارم: (اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم / سورة العلق.). وما ذلك إلاَّ لأن اللغة / اللسان / القراءة تُمَوْضِعُنا في العالم، تقتضي منه ما تقتضيه منا، وتجعلنا نَعيه بوعي أنفسنا، وندركه بإدراك وجودنا، إذْ لا وجودَ للإنسان، ولصنيع الإنسان، ومنجزه البديع المتمثل في بناء سَكَن مُوَاتٍ لائق، بيتٍ حقيقي ومجازي جذاب ومستميل أغرى ويغري بالإقامة ضمن معمار وفنون وآداب، وعلائق آدمية أطلق عليها علماء الاجتماع والإناسة، والأنتربولوجيا، اسم: الحضارة. أي الوجود المشمول بالانوجاد الحق، والنجاعة المحض، والأفضية المحفزة، والإعمار المادي واللامادي معاً ليتحققَ له سَمْتُه ونعته وأَمارَته، ويُسْتدلَّ على أناهُ بما هو حيوان لغوي وثقافي وسياسي بالأساس، قبل أن يُسْتدل على جوهره وماهيته وعقله بوصفه حيوانا ناطقا واجتماعيا في ما ذهب إليه أرسطو قبل قرون. لأن علماء المجال توصلوا ـ بعد التتبع والتحري والدراسة والتصوير ـ إلى أن في الكون أصنافا حيوانية ثديية تمتلك لغة معينة رامزة مرموزة ومشفرة تتواصل بها في ما بينها. وأن الاجتماع ليس مقصورا على الإنسان وحده، بل تشاركه فيه ذوات الأربع، والزواحف، والطيور، والبرمائيات، والمائيات، فهي لا تعيش، ولا « تستطيب « عيشها ومقامها إلا مع أشباهها، وضمن جماعة، أو حشد، أو سرب، أو قطيع لِمَا في ذلك ضمان استمرار توالدها، وبقائها على قيد الحياة، وإنْ كانت تفتقر إلى المشاعر والعقل والأفكار. لاوجود للإنسان ـ إذاً ـ من دون لغة لكونها لسان الفكر، ومجلى الروح، ومطرح العقل. فاللغة التي نفكر بها، ونبني علائقنا بوساطتها مع الأشباه والأغيار، هي ما يرفعنا ويسائلنا، ويقيدنا بميسم البناة الشداة. كما أنها تفكر بنا ندا لند، وفي بعض الأحيان: قاهرا بمقهور. ولئنْ نحن صدقنا الفيلسوف الكبير مارتن هيدجر، فإننا لا شيءَ من دون لغة. فاللغة ـ كنسق لساني وسيميائي، وأيقوني ورمزي ـ هي بيت الكائن. هي ما يتحكم في سلوكنا وآرائنا، ومواقفنا، ونظرنا إلى بعضنا البعض، وإلى العالم والأشياء المحيطة بنا. هي ما يقودنا ويوجهنا نحو هدف دون آخر، وهي ما بنى ويبني الحضارات، ويدمغها بعبقرية شعب دون شعب، أو ما يدمغها ويَسِمها بالاختلاف الهويّاتي والثقافي والعقلي حتى وهي ترتد إلى أصل واحد، وطوْطَم واحد، ومخترع واحد، وأب واحد وهو: الإنسان. فهو من تواضع ـ أفرادا وجماعات ـ على التسميات والتوصيفات « الاعتباطية «، ليحقق وحدة الرؤية والمنظور والتآلف والتكاثف عبر الرُّقَع والجغرافيات منذ فجر التاريخ.
فمُقَوِّمٌ وجودي، وكيان عقلي وروحي كاللغة، وبانٍ وشادٍ للاجتماع والتساكن، والتعايش والتفاهم، أو التنابذ والتناحر، حسب السياقات والطوارئ والنعرات، هذا شأنه، لاَغَرْوَ أن يكون أولَ حجر «رشيد» في صرح وبنيان النصوص الكبرى، عَنَيْت: التوراة، والأناجيل الأربعة، والقرآن الكريم؛ وأُسَّ المداخل إلى دفع الناس لينالوا قسطا وحظا ـ قَلَّ أو كثُر ـ من القراءة، وبالاستتباع: من المعرفة. وما النصوص الكبرى هذه إنْ لم تكن نصوصا لغوية دالةً، طوَّعَتْ اللغة كما لو أنَّها لم تُطَوَّعْ من قَبلُ، وصولا بها إلى الإعجاز البياني والبلاغي، والفكري والمعرفي والفني، والشعري والتصويري، كما هو شأن القرآن، وشأن العهدين القديم والجديد حيث قوة التعبير، وسمو الدلالة، وتماسك المعنى، وبديع التصوير، وجَرْس اللفظ، وموسيقا المقاطع والفواصل والفقرات حتى يتمكن النص من التغلغل إلى الأفئدة والجوارح، ومن ثَمَّ سكناها و» همزها « ليكون حاملها الذي هو الإنسان جديرا بوجوده، حقيقا بالاستخلاف، قمينا بحياته، وبمميزاته وأفضاله، وعلوه على باقي الكائنات الحية. فهل لنا بعد هذا، أن نُشيحَ عن الكتاب، ونضرب صفحا عن القراءة، ونعزف عما يحيينا مثلما يحيي الماء، ويشفينا من أوضار دنيانا، وأوصاب الحوادث والوقائع، وينفعنا نفعا مُبينا بجَوْهَرة أرواحنا، وإراحتنا من الضنك والتعب المجاني، والقلق العقلي الذي يستبد بنا في معترك وجودنا، ومسار حياتنا؟.
إن الكتاب الورقي بأنواعه وأصنافه وأجناس تعبيراته، لغريبٌ، وازداد غربة ويُتْماً بوجود الكتاب الإلكتروني، والنص التفاعلي المقروء والمسموع والمرئي والمصور والمُمَوْسَق. فأمسينا غرباء الدار والاعتبار. غرباء اليد والوجه واللسان بتعبير المتنبي. فلا نحن نقرأ، ونسعى للّحاق بما أنجزه الغير هناك في كافة المضامير والميادين، ولا نحن اتَّعَظْنا وانحنينا تواضعا أمام الوفرة الفكرية، والرياح المعرفية التي تهب علينا من كل الجهات، واعترفنا ـ في لحظة توافق وانسجام وصفاء مع الذات، وإنصات إلى العقل والضمير ـ بأننا أخطأنا الطريق، وأننا مطوقون بالأمر الإلهي، والاكتساح المعرفي العالمي لننهض من غفوتنا وبَيَاتنا، فننكبَّ ـ من ثمةَ ـ على التهام الكتب العلمية والإنسانية والطبيعية، والأدبية بصنفيها: الورقي والرقمي. إن هذا، وإنْ كان موكولا للأسر والمدرسة، فإنه دَيْنٌ ثقيل في أعناق الحكام أوَّلاً بأول.
أما كيفيات النهوض، وطرق الخروج من القمقم، فتكمن ، بالأساس، في وجوب وجود وإيجاد عزم شديد، وإرادة فعلية، إرادة سياسية حقيقية حكيمة مُسْتَتْرَجَة ومُسْتَشْرِفة، ومُفِيدَة من واقع الحال، تقطع مع ما كان سببا في تأخرنا، وما كان علة في علتنا بل عللنا. إرادة تتوجه إلى رسم وتنفيذ ومباشرة مراجعات فورية، وإصلاحات جذرية تتصل بمنظومة التربية والتعليم بشكل رئيس. إذ هي البدءُ والمنتهى. هي الواضعة إذا أسيء التعامل معها، والرافعة إذا تولتها العنايةُ اللازمة والعالية، وحَدَقَ الاعتبار المطلوب بأنساقها ومساقاتها وإلاَّ انضم أطفالنا إلى « جحافل المَسُوقين إلى أقدارهم، وقد ارتضوا لأنفسهم أن توضع حياتهم تحت رحمة الآخرين «. وتتصل باستئصال شأفة الأمية أو ـ في الأقل ـ الحد من تفشيها وانتشارها بين أبناء الوطن الواحد. فالأمية ظالمة، والأمي مُنْخَلِعٌ مهمش، لاَمواطنٌ لأنه لا يحتاز وضعا اعتباريا في معيشه ومعاشه وحياته، ولا يتمتع بحقوقه كاملة كالحق في التعليم والصحة والعيش الكريم. وهي ظالمة وفادحة الحضور إذا ما عرفنا أن أكثر سكان المداشر والقرى والبوادي، أميون. وإذا انسحب ذلك على الأطفال إناثا وذكورا، ضَجَّتِ المصيبةُ، ووَلْوَلتِ الواقعةُ.
كما تتصل الإرادةُ إياها بإيلاء الاعتبار الواجب للثقافة والفكر بدعمهما ماليا وإِعْلاميا، وإكبار رجالاتهما وأَعْلامِهما ماديا ومعنويا وأدبيا. فهما أسّا التنمية وبعدها المركوز والمستدام. ولا مشاحة في ارتباط التعليم بالثقافة ارتباط الرضيع بأمه، والنهر بنبعه، والحوت ببحره. فمن شأن تعليم حقيقي مُعَافَى مؤَهَّل ومُنْتَمٍ ـ جملة وتفصيلا ـ إلى روح العصر، أن يحمل المتمدرسين بالحُسْنى واللياقة والنعومة، على القراءة.. على البحث عن العلم والفكر ـ ولِمْ لا وَقدْ صار العلم طوْعَ اليد وطوع الزّر ـ ولو كانا خارج تخصص المتخرج. وقد ثبت بالدليل والشاهد أن النوابغ وذوي الفكر الخلاّق في مضمارٍ مِهْنيٍّ وعلمي ما، إنما يعود، نبوغُهُم، من دون شك، إلى مداومة تعمقهم وملاحقة الجديد، وإلى انكبابهم على ما يُوَسِّعُ مداركهم، ويُغْني معارفهم، ويُثْري تخصصاتهم، ويرفع منسوبَ ثقافتهم وثقتهم بأنفسهم. أمَّا أين يوجد سر ذلك؟ فإنه يوجد في الكتب ورقيةً كانت أم إلكترونية.. في قراءة المتون المختلفة، وتفكيك مرتكزاتها بالغوص في أعماقها، واستيعاب مقومات تلك المتون وأبعادها وآفاقها؟
أليست الكتبُ بلسما شافيا، ودواء معافيا، وغذاء وافيا، وأنيسا راقيا؟ أليست نِكْتارا مداويا للعقل والقلب والروح، أليس الكتاب علاجا صحيا؟ فكيف والحال هذه، أن تكونَ الأمية الثقافية التي هي أمرُّ وأدْهى من الأمية الأبجدية، ضيفا عزيزا مقيما ـ منذ زمن طال وتَمَدَّدَ ـ بيننا؟، وأن يكون القارئ العربي جُمْلَةً ـ من الماء إلى الماء ـ نادرُ الوجود كالكبريت الأحمر، أو منعدِمُه كالعنقاء؟ أقصد القارئَ المثابرَ المواظبَ الفاعلَ والمبدعَ. القاريء « المثاليَّ « في كلمة واحدة؟.
فكم يقرأ العربي من كتابٍ مُقايسةً بالقارئ الغربي والأمريكي، والإسرائيلي، مثلا؟ وكم ننشر من عنوان في السنة، في مختلف الحقول المعرفية، والمجالات الإنسانية والفنية والأدبية؟ وكم نترجم من كتاب ـ طُلَعَة ـ ذي أهمية علمية وتكنولوجية من اللغات الحية كالإنجليزية والفرنسية والإسبانية والألمانية، حتى لا نزيد خَبْطا ونصبو إلى الصينية واليابانية والهندية؟ وهل نتوفر على بيئة مُواتية تَعي أهمية الثقافة والمعرفة كرافد من روافد التنمية الشاملة، لكي تساعد على تحريك المجال، وخلق دينامية فكرية فاعلة من شأنها أن تشيع وتنشر ظلال العلم، وثماره لما فيه كرامة المواطن، وكرامة المجتمع الذي ينتمي إليه؟. فالعلم في شتى وجوهه وتفاريعه، وأنواعه، كرامةٌ ورفعة وتزكية غالية عالية للإنسان أنَّى وُجِدَ وحيثما كان، من منطلق الآية الكريمة: ( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا / سورة الإسراء ــ الآية 70 ).
إن الأرقام والمعطيات الإحصائية لفاجعةٌ حقا، ومنذرة بسوء العقبى المتمثلة في موتنا ونحن أحياء. أيحق لنا بعد هذا، أن نتلكأ ونتراخى، ونحسبَ الركون إلى « الدعاء «، و» العواء « مجلبةً للحظ والسعد. ونكِلَ حالنا وأمرنا إلى الحلول الميتافيزيقية علَّها تلحقنا ب « الكفّار «، وتنجينا من عذاب النار. لا وألف لا: ما شاء ساعد الإنسان، وعقله الجبار، لا ما شاء الغيبُ، وشاءت الأقدار.


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 11/03/2022