حديقة أمزميز الحجرية

كانت الدوائر صغيرة، لكنها بدأت تتسع تدريجيا. اتسعت إلى أن أصبحت شبيهة بفيلة ونمور ضارية. في البداية صرخت. هل صرخت؟ نعم صرخت. لكن صراخي كان ضعيفا إلى درجة أنني لم أكن أسمعه. هذا يعني أنه كان بدون جدوى. فإذا كنت أنا شخصيا لم أسمعه، فكيف سيسمعه الآخرون؟!
جربت الضرب على صدري. فلم يفد ذلك في شيء. كان الأمر أشبه بالضرب على دف جف جلده. لذلك كانت تتحول نقراتي ألى صوت شبيه بتساقط قطرات ماء في مجرى جبلي نائي.
جربت بعد ذلك الضرب على الجدران، لكن أياديك هاته المرة لم تطاوعك. لم تعد قادرا حتى على أن تحرك أصابعك. كان هذا يحدث، بينما كانت الدوائر تتسع، لتتحول هاته المرة إلى نسور وصقور جارحة. كانت النسور تطلق أصواتا مثل تلك التي تحدث حينما تعبث بأسلاك صدئة في سياج شبيه بشريط مخصص لحزم هدايا أعياد الميلاد. سياج رث منسي يسيج حقلا بدون ملاكين. لذلك فقد استسلم لغواية الصدأ المأفونة.
عاودت الصراخ. لكنني كنت وحيدا، ولم أفطن إلى ذلك إلا بعد فوات الأوان. كنت قد تحولت إلى لقمة سائغة في أفواه الجدران التي كانت تلتهمني بشكل سيء. هذا يعني أنها كانت تبتلعني دون مضغ جيد. لقد تحولت هاته الجدران في رمشة عين إلى عدو بعد أن كانت قبل قليل تشكل دائرة محببة إلى قلبي. دائرة هي بمثابة الملاذ الذي اشتهيته دوما. فلطالما أردت البقاء في هاته المنحدرات وبين أحضان هاته الجبال. كانت تسليتي الوحيدة هي أن أبقى لأسبوع أو أكثر داخل هاته الحديقة الحجرية. لقد سميتها هكذا:»حديقة أمزميز الحجرية». كنت أنام طيلة الوقت مستسلما لأحلام غريبة تعيدني إلى طفولتي بمدينة الرباط. رغم أن قدومي رفقة أسرتي كان يحدث بشكل متباعد، لكن هاته القرية استطاعت أن تسكنني. لقد اكترت غرفة صغيرة في قلبي. هل قلت : اكترت؟ لكن ماذا كانت تدفع لي كأقساط شهرية؟ في الحقيقة أصبحت مهووسا بهاته الأتربة الحمراء وهذه الأشجار المتناثرة هنا وهناك.
كانت هذه الأشجار بالنسبة لي بمثابة حراس شخصيين تمنحني رؤيتهم السكينة. فهاته الأشجار الواقفة بعناد شديد في السفوح الوعرة كانت كعسس لا تحرس جسدي، بل تحرس روحي.
لكن الدوائر بدأت تتسع بسرعة الآن. لقد أصبحت عبارة عن صهاريج كبيرة تمتلئ بالماء، وأنا أغرق بداخلها، لأنني لم أحسن أبدا السباحة. فدائما كنت ذلك الولد الفاشل في أن أتخطى المتر الواحد بعيدا عن باب الشاطئ، حيث يصطف المتشمسون. لذلك أطبقت علي المياه بقسوة شديدة. لقد تحولت قطرات الماء إلى جلادين يحكمون الخناق حول عنقي كي أسلم روحي بسرعة. قلت لهم:» لا تتعبوا أنفسكم! لم يكن ضروريا أن تحملوا كل هاته الأحبال! فكوني لم أعد أرى الأتربة الحمراء والأشجار الصغيرة الشعثاء، فذلك يعتبر بمثابة موت بالنسبة لي!». لكنني في لحظة ما قلت:»لأجرب الصراخ من جديد!»، فصرخت. كنت قد توقفت عن الحركة منذ وقت طويل، وحدث أن هذا الصراخ بدأ يريحني، بل أصبحت ألتذ به. وحينما كررته أكثر من مرة أصبح بمثابة لعبة مسلية. لذلك حاولت تجويده ليصبح أكثر فعالية. لقد بدأت في تقليد مجموعة من الأصوات. قلدت في البداية صوت أبي الرخيم، وهو يقرأ القرآن الكريم بعد صلاة الفجر. فقرأت سورة الفاتحة، ثم قلدت صوت أمي، وهي تترنم ببعض الأغاني القديمة أثناء إعدادها لوجبات الغذاء. كانت تغني دائما في المطبخ؛ ربما كي تقتل الملل أو كي تتذكر طفولتها هي الأخرى. فالطفولة هي أقحوانة الإنسان اليانعة. بعد ذلك فطنت إلى أهمية أن أقلد أصوات معلمي المدارس الإبتدائية. لذلك شرعت في تقليد صوت ذلك المعلم البشوش المجعد الشعر، والذي كان يلقننا تلك الأناشيد التي تبتدئ كلها ب:»موطني…».
لكم أن تتصوروا حجم الطمأنينة التي أحسست بها. لقد بدأت الجدران في التراجع إلى الخلف، والمياه التي كانت تحاول خنق أنفاسي عادت إلى منابعها البعيدة.
فجأة أصبحت الدوائر تضيق تدريجيا إلى أن أصبحت كفقاعات صابون سرعان ما كانت تنفجر في الهواء. فبدأت أسمع أصوات ضربات فؤوس متباعدة، كان وقعها يشتد في لحظات بعينها، ليختفي بعدها. بدأت تلك الضربات تقترب مني، وأنا ممدد في ذلك المكان الشبيه ببئر. كان يرافق تلك الضربات نباح كلاب يخفت، ثم يعود للإرتفاع من جديد. كان كل هذا بالنسبة لي مجرد أحلام أخرى تمنحني الفرصة كي أمشي في طرقات خيالية تجعلني أقلد المزيد من الأصوات. لذلك قلدت أصوات العصافير والقطط والقطر والسيارات والبنادق والسقائين بساحة «جامع الفنا « بمراكش، وأصوات باعة البوظة بساحة «بوجلود» بفاس إلى أن أصبحت تلك الأصوات أكثر واقعية وأكثر قربا مني، ثم فجأة أانقشع أمامي ضوء أعمى عيني، وسمعت وقع أقدام إنسانية ترفس المكان، كما سمعت صوت زغاريد نسائية، ليغمى علي.
استيقظت بعد وقت طويل مثلما قيل لي، لأجد نفسي فوق هذا السرير الأبيض داخل المستشفى الجامعي بمراكش، والممرضات يحطن بي. قالت لي إحداهن:» الحمد لله..على السلامة!». فقلت لها: « هل نجوت؟ أقصد هل اختفت الدوائر؟!». أجابتني قائلة:» لقد نجوت فعلا. لكن عن أي دوائر تتحدث؟!». فسألتها:» وهل نجت أمزميز؟ هل نجت الأشجار الشعثاء؟!»،لتقول لي :» لم تنج أمزميز!»، والتفتت إلى زميلتها، لتسألها قائلة:» هل هناك أشجار شعثاء؟! هل سبق لك أن رأيت شجرة شعثاء؟!».


الكاتب : مصطفى نفيسي

  

بتاريخ : 28/09/2023