حروب فرنسا الثقافية : اليمين يتحدث بـ «الأمريكاني» !

 

قالت «نيويورك تايمز» إن الحياة السياسية في فرنسا لم تعد تختلف عن أمريكا، سواء الرئيس إيمانويل ماكرون أو حكومته إلى المعارضة اليمينية المتطرفة؛ بسبب صعود هذا التيار الأخير إلى الواجهة.
وقالت الصحيفة بالنسبة لبعض هؤلاء النقاد، هذا هو السبب في أن العديد من الشباب الذين يتبنون وجهة نظر ناشطي حياة السود مهمة يعتقدون أن عنف الشرطة يمثل مشكلة.
بالنسبة لآخرين، فإن ذلك يفسر سبب تدهور جودة البحث الأكاديمي، حيث تزدهر الأفكار الخيالية التي نشأت في الجامعات الأمريكية مثل التقاطعية وما بعد الاستعمار. وبالنسبة لآخرين، هذا هو السبب في أن الناس لا يستطيعون التعبير عن آرائهم بعد الآن، بعد أن خنقتهم تهديدات ثقافة الإلغاء».
وأضافت ربما تكون الشكوى الأكثر شيوعا هي أن الأفكار والممارسات المستوردة من أمريكا تجعل الفرنسيين مهووسين بالاختلافات العرقية والدينية والجنسية على حساب هويتهم المشتركة كمواطنين في الجمهورية.
وتابعت «إنهم ليسوا مخطئين: السياسة الفرنسية، في الواقع، هي التي أصبحت مؤمركة. لكن المشكلة ليست في النظريات اليسارية أو الانتقادات اللاذعة، بل في ظهور خطاب يميني انعزالي وقومي مدفوع بأسلوب عدائي في التغطية الصحفية. المحتوى فرنسي بامتياز، لكنه يتخذ شكلا مقلدا لأمريكا، كالتظلم الذي يستحضر المرارة حول التدهور القومي والهجرة والدين. وكما هو الحال في أمريكا، فإن النتيجة هي مشهد سياسي متدهور يمكّن اليمين المتطرف، ويجر سياسيي التيار الرئيسي في ذلك الاتجاه».
وتتصدر القناة CNews، والتي يطلق عليها قناة Fox News الفرنسية المشهد، لتقليدها لقواعد واتفاقيات القنوات الإخبارية الأمريكية. تم إطلاق الشبكة في عام 2017 من قبل الملياردير المحافظ فينسينت بولوريه، وقد اجتذبت الشبكة المشاهدين من خلال تقديم نقاش جدلي يتميز بميل يميني متشدد، حيث حققت إنجازا مهما الشهر الماضي، عندما سجلت أعلى تقييمات لأي شبكة إخبارية تبث على مدار الساعة في فرنسا.
المتحدث الرئيسي في الشبكة هو كاتب المقالات القومي إيريك زمور، وهو رجل أدين عدة مرات بخطاب الكراهية ضد الأقليات العرقية والمسلمين، بينما يلعب مقدم البرامج النجم، باسكال براود، دور الوسيط الموضوعي. مثله مثل تاكر كارلسون، لديه ميل للقصص الحارقة التي تسمح له بالتحدث باسم الأغلبية الصامتة المظلومة في البلاد.
وبدلا من تخصيص وقت لأهم الأخبار في اليوم، يميل مقدمو البرامج إلى تفضيل تشريح الفضائح الصغيرة التي يتعذر فهمها إلى حد ما للجمهور خارج البلاد، حيث تلتقط الإشاعات استفزازات الضيوف بعد ثوان من نطقها. كما هو الحال في Fox News، غالبا ما تعكس الموضوعات التي يتم تناولها مخاوف المحافظين بشأن دولة متغيرة: حجم السكان المولودين في الخارج، والتجاوزات المفترضة للتصحيح السياسي، ومكانة الإسلام، والشعور بالفخر الوطني المجروح.
وكما هو الحال مع شبكة Fox، غالبا ما تضع CNews أجندة الدولة. فتطورت العديد من الأخبار التي تغطيها القناة بقلق شديد إلى مواضيع حوار وطني كاملة، من بينها التنمر على مراهقة على وسائل التواصل الاجتماعي، بعد أن وصفت الإسلام بـ»دين الكراهية» على إنستغرام، أو ضغط من رئيس بلدية ليون من حزب الخضر لتقديم وجبات خالية من اللحوم في كافيتريات المدارس، أو دعم من أقدم اتحاد طلابي في البلاد للاجتماعات المخصصة للنساء وغير البيض، أو قبول حزب الرئيس، En Marche، بمرشحة ترتدي الحجاب الإسلامي على قائمة انتخابات محلية في وقت لاحق من هذا الشهر. (في النهاية سحب الحزب ترشيحه تحت الضغط).
إن مثل هذه المخاوف، على الرغم من أنها تنشط لدى أولئك القلقين دائما بشأن الهوية العلمانية لفرنسا، لا تهيمن عادة على اهتمام أي دولة، لكنها ارتقت إلى مرتبة القضايا الوطنية لأن السياسيين البارزين اختاروا اللعب جنبا إلى جنب، وليس فقط اليمين المعارض. وانضم أعضاء رفيعو المستوى في En Marche إلى هذه المناوشات، وفي بعض الحالات، فتحوا بنشاط جبهات جديدة في الحروب الثقافية بأنفسهم.
في وقت سابق من هذا العام، اشتكت وزيرة التعليم العالي، فريديريكا فيدال، من آفة مفترضة لـ»اليسار الإسلامي»، وهو مصطلح كان استخدامه في السابق مقصورا على اليمين المتطرف الذي يشير إلى تحالف سياسي وهمي بين المسلمين المحافظين والمناهضين للرأسمالية، حتى أن فيدال دعت إلى إجراء تحقيق في المشكلة لدراسة كيف يقوم بعض الأساتذة بطمس الخطوط الفاصلة بين البحث والنشاط، وهي خطوة أدانتها أكبر مؤسسة أبحاث في البلد باعتبارها هجوما على الحرية الأكاديمية.
وعلى الرغم من أنهم يدّعون أنهم يحمون الحرية الأكاديمية، فإن فيدال وبلانكير سيكونان مؤهلان تماما لعضوية الحزب الجمهوري اليوم، حيث يعتبر انتقاد المعلمين لنشرهم النظريات المتطرفة، وإفساد الشباب، والإضرار بالمصلحة الوطنية أمرا معتادا.
ما الفائدة لماكرون؟ كما أشار الكثيرون، يعتقد مستشارو الرئيس أن هذه المعارك تجلب منافع سياسية. الأهم من ذلك، أنها تهدف إلى جذب الناخبين اليمينيين قبل السباق الانتخابي ضد مارين لوبان، رئيسة التجمع الوطني اليميني المتطرف، في الانتخابات الرئاسية العام المقبل، لكنها مصممة أيضا لإلحاق الضرر باليسار، الذي تختلف أحزابه المنقسمة بشدة، والتي تجد صعوبة في الحديث عن مشاكل التمييز العنصري والديني داخل الإطار القانوني الفرنسي العلماني، ويختلف دائما حول هذه الموضوعات نفسها.
سواء أكانت الإستراتيجية تؤتي ثمارها أم لا في عام 2022، فإن الحروب الثقافية تغذي الدعم لليمين المتطرف اليوم. وتُظهر استطلاعات الرأي قبل الانتخابات الإقليمية لهذا الشهر، حيث هناك 17 رئاسة إقليمية جاهزة للانتخابات، أن التجمع الوطني يتمتع برؤية قوية للسيطرة على الأغلبية في المنطقة لأول مرة على الإطلاق، في حين أن لوبان على مسافة قريبة من ماكرون في الانتخابات الرئاسية.
ولا غرابة في ذلك عندما تدور الأخبار حول قضايا، مثل الحجاب الإسلامي، والشعور المفترض لليسار بالتفوق الأخلاقي، وتصعيد مبالغ فيه إلى حد كبير في العنف ضد ضباط الشرطة، وعندما يزعم قادة التجمع الوطني أن الحكومة الآن تضفي الشرعية على مظالم وانشغالات حزبهم القديمة، ما يجعل من الصعب الاختلاف معهم.
ومن اللافت أيضا أن نرى مدى الانحدار في مستوى الخطاب السياسي في بلد يفتخر بقدرته على النقاش العام الرفيع المستوى والأضواء التي يخصصها للمثقفين. ففي خضم الجائحة وبعد أسوأ أزمة اقتصادية تشهدها البلاد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لا تقدم دورة الأخبار الفرنسية نقاشا حول قضايا شاملة مثل عدم المساواة في الثروة أو النظام الصحي أو تغير المناخ. وبدلا من ذلك، فإنها يركز على النقاشات حول الهوية التي تغذيها الشخصيات التلفزيونية.. فما هو أكثر أمريكية من ذلك؟
في السياق نفسه، نشرت صحيفة «واشنطن بوست» مقالا، لرقية ديالو قالت فيه إن اليمين المتطرف في فرنسا بات يسيطر على النقاش العام.
وتحدثت عن الجدل حول صورة سارة زماحي بالحجاب على قائمة الانتخابات الفرنسية المحلية المقررة هذا الشهر.
وحتى وقت قريب لم تكن زماحي معروفة، فهي مرشحة مقيمة في مدينة مونبلييه عن حزب الرئيس إيمانويل ماكرون «الجمهورية للإمام»، ولم تكن تتوقع أن يخلق مظهرها بالحجاب انقساما على المستوى الوطني.
ووجه جوردان بارديلا، الرجل الثاني في حزب «التجمع الوطني» اليميني رسالة إلى الوزيرة مارلين شيابا المكلفة بشؤون المواطنة عبر تغريدة قال فيها: «يوجد ملصق ضمن حملة انتخابية تظهر من خلاله سارة زماحي، مرشحة للانتخابات المحلية إلى جانب ثلاثة من زملائها، هل هذه هي الحرب ضد الانفصالية؟».
وخلال مقابلة تلفزيونية اتهم بارديلا زماحي بأنها تتبنى أفكارا إسلامية «متشددة». وأنها من أتباع المفكر طارق رمضان.
ثم جاء رد غير متوقع من رئيس حزب «الجمهورية إلى الأمام» ستانيسلاس غيريني استشهد فيه بتغريدة بارديلا قائلا: «القيم التي يتبناها حزب «الجمهورية إلى الأمام» لا تتوافق مع البروز الواضح للرموز الدينية في ملصقات انتخابية» مضيفا: «إما أن تغير الصورة، أو نسحب دعم الحزب لها».
وتعلق الكاتبة أن قانون الانتخابات الفرنسية لا يمنع ارتداء «الرموز الدينية» إلا أن أحد قادة الحزب الحاكم قرر الدخول في لعبة اليمين المتطرف والقبول بها. وهذا التحرك المثير للقلق يظهر كيف انتشر الخطاب العنصري في داخل الطيف السياسي.
ومع أن تصريح غيريني كشف عن انقسام داخل حزب «الجمهورية للأمام» ووصفته النائبة نعيمة موتشو بالتمييز، إلا أن قرارا اتخذ بعدم دعم زماحي.
ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية في 2022 يعرف غيريني أن «التجمع الوطني» بقيادة مارين لوبان لديه فرصة قوية لأن يحصد حصة كبيرة من أصوات الناخبين.
وكان من المتوقع أن يقوم غيريني في وجه النقد الموجه إليه، بتبني خطاب شامل حول الأقليات، لكنه وقادة الحزب قرروا بعد فشلهم بتغيير المواقف ملاحقة الأصوات وإغراء الأيديولوجيا التي تطالب بالاستبعاد.
وتقول ديالو إن هذا ليس المثال الوحيد، فعندما أعلنت الشرطة عن احتجاج، في ذكرى قتل رجلي شرطة أثناء أداء المهمة، قتل أحدهما في حادث إرهابي، كان الهدف المبدئي هو التضامن مع مهنة الشرطة إلا أن اتحاد الشرطة طالب بسياسات قمعية متشددة، والتي تقف على خط التناقض للمطالب السياسية من معسكر اليسار.
وقرر ضباط الشرطة التجمع أمام الجمعية الوطنية من أجل الضغط على المشرعين بشكل قوض مبدأ الفصل في السلطات.
وطالب قائد نقابي في الشرطة أثناء عمليات الحشد بـ «تحديد سلطات القانون والدستور» و»فتح المجال لملاحقة الجناة بطريقة قاسية».
ولم يكن مفاجئا إعلان زعيمة التجمع الوطني، لوبان عن وجود كل المسؤولين المنتخبين عن حزبها في الاحتجاج.
وكشف استطلاع نظم قبل فترة أن نسبة 74% من ضباط الشرطة سيفضلون لوبان على ماكرون في الانتخابات المقبلة.
لكن المثير للدهشة هي مشاركة رموز اليسار في التظاهرة بدون نقد. وكان الاستثناء هو المرشح الرئاسي جان لوك ميلونشون وهو المفضل عند اليسار والذي أعلن أن حزبه لن يشارك.
وكان من بين الحضور مرشح الحزب الشيوعي الفرنسي فابيان روسيل وزعيم الخضر يانيك جادو وأوليفيه فور زعيم الحزب الاشتراكي الفرنسي.
وأثار فور غضبا أثناء التظاهرة عندما قال إن الشرطة يجب أن يكون لها «حق التدقيق» في القرارات العدلية، ولكنه سحب ما قاله لاحقا.
وتضيف ديالو أن التناقض في اليسار لا ينبع من دعمه لإحياء الشرطة ذكرى عنصرين من قواتها ولكن ترويجه لأجندة القمع.
فهناك عدة طرق للمساعدة على تحسين ظروف الشرطة التي سجلت زيادة حالات الانتحار بين عناصرها.
لكن أحزاب اليسار تبدو مشغولة بصورتها أمام أنصار اليمين المتطرف بدلا من تحسين ظروف الحياة وجعل المجتمع مكانا أفضل للمجتمعات المهمشة.
وعندما تخلوا عن مبادئهم الأساسية فتحوا المجال أمام التجمع الوطني لكي يملي النقاش الوطني العام.
وكان آخر الجدل هو حول فيديو بشأن دوري أبطال أوروبا وقدم فيه النشيد مغني الراب يوسفا والذي تعرض لانتقاد من اليمين المتطرف بسبب أغانيه السابقة.
ورد بارديلا حالا عندما قال إن الفيديو مثل «منح جزء من فرنسا لشخص آبق»، وكالعادة قرر الإعلام تحويل التعليق إلى نقاش حول أحقية يوسفا في الغناء نيابة عن بلده فرنسا.
ورغم الدعم للفيديو من وزيرة الرياضة روكسانا ماراسينيانو إلا أن رئيس فدرالية كرة القدم الفرنسية والعمدة الاشتراكي السابق لبلدة غانغان، نويل لوغريت، لم يعلق إلا بعد أسبوع على النقاش وقال إنه كان من الأفضل عدم إنتاج الفيديو.
لكن لوغريت ضيع فرصة للقول إن اليمين المتطرف ليس له حق وضع الأجندة الوطنية. وتعلق الكاتبة أن الأحزاب التي تتظاهر بمحاربة أفكار اليمين الخبيثة لن تحصل على أصوات من خلال تبني خطاب لا علاقة له بمبادئ المساواة التي طالبت تاريخيا بتحقيقها.
وكما قال جين ماري لوبين مؤسس الجبهة الوطنية الفرنسية (الإسم السابق للتجمع الوطني) فالناخبون يفضلون دائما «النسخة الأصلية».


الكاتب : وكالات

  

بتاريخ : 07/06/2021