حــوارات فكرية د. مصطفى حجازي: الإنسان المقهور مضطر للعيش في ضرورات اللحظة

ثمة أسئلة كبرى تطرح على النخب الثقافية العربية التي كانت تقف، في بعض نماذجها القوية، على محك التنافر القطري، غير قادرة على رسم طريق التكامل الثقافي الغربي. غير أن أطروحات كثيرة أنجزها مثقفون ومفكرون عرب ما زالت حتى الآن تطفو على السطح، لراهنيتها وقوة مضامينها، ذلك أن البلاد العربية ما زالت مستهدفة أكثر من أي وقت آخر، زمانيا ومكانيا، مع العلم بأن تلك النخبة تعلم يقينا أن الأحداث التاريخية العربية زاخرة بالصراعات، التى ما زالت تتكرر بصورة طبق الأصل فى تاريخنا الحديث- بغض النظر عن تلك المرحلة التي كان العرب يتبؤون فيها عالميا الهرم السياسي والحضاري.
في ما يلي حوارات فكرية مع بعض أعلام الثقافة والفكر في الوطن العربي.

 

خلال الحروب تطفو على السطح ظواهر عرفتها الجماعات البشرية في تاريخها، ومن بينها التمثيل بجثث جنود العدو أو الضحايا من المدنيين. وإبان الحرب السورية التي تتقاتل فيها تنظيمات عدة، ظهرت أحداث مؤلمة ومفجعة، من بينها التمثيل بالجثث، وأحياناً يصل مستوى العنف إلى أكل أحد أعضاء الجثة. من أين يأتي هذا المخزون من العنف؟ وما العوامل التي تحفزه من زاوية التحليل النفسي؟
إن ظاهرة التمثيل بالجثث ظاهرة تاريخية ولا تقتصر على الحرب السورية. لقد قابلت حالات من النازحات السوريات في لبنان اختطف رجالهن وأُعدموا، وطالبن بالحصول على الجثة لدفن الميت، على قاعدة أن إكرام الميت دفنه. لقد أجبرت الميليشيات أهالي الضحايا على دفع المال من أجل الحصول على الجثة. هذه الهمجية البربرية لا حدود لها، وكي تحقق التنظيمات الإرهابية سطوتها تستند إلى ترهيب الناس. أنت تتساءلين: من أين يأتي هذا المخزون من العنف؟ هذا العنف –لا سيما التمثيل بالجثث- هو عنف إنساني محض، لا وجود لأي كائن حي على الأرض يمثل بجثة ضحيته إلاّ الإنسان الذي يتمتع بخيال واسع في صناعة العنف. تتقاتل الحيوانات بكل فئاتها كي تأكل أو لتدافع عن نفسها، وحين تتحارب يُترك الذي يُهزم ولا يُقتل؛ فالقتال عند الحيوانات قتال جسدي، وليس ثمة فنون في التعذيب كما هو الحال عند الإنسان. بالنظر –مثلاً- إلى الأنظمة الاستبدادية، فقد طبقت أساليب تعذيب داخل السجون والمعتقلات تتجاوز ما تفعله اليوم التنظيمات الإرهابية كداعش وغيرها، أساليب ليس من الممكن أن يتصورها عقل، هدفها كسر إرادة الآخر، والرغبة العارمة عند الجلاد بالشعور بالتسيد والسيطرة عليه لشطب إنسانيته وإخراجه من عالم البشر، هذا إلى جانب نزوة السطوة؛ فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي يمتلك هذه النزوة، أي نزوة السطوة (Pulsion d’emprise) وهي ذات اتجاه تدميري.
مشكلة الإنسان أن لديه مراوحة في سلوكياته من أقصى القدسية والملائكية إلى أقاصي العنف والهمجية والبربرية، بينما سلوك الحيوانات مقيد لا يجتاحه الخيال العنفي. إن أكل أعضاء الضحية –الذي أشرتِ إليه في سؤالك- غايته الرغبة القوية في الانتقام والتشفي، والذين يأكلون لحوم البشر في بعض القبائل الأفريقية، وهم ما زالوا موجودين إلى الآن، يأكلون ليس لأكل لحم الضحية، وإنما لأخذ طاقات هذه الضحية كي تصبح جزءاً منهم.
شهدنا في الحرب الأهلية اللبنانية تمثيلاً بالجثث، وذلك بغية إشباع مخزون الحقد عبر إلغاء الصفة البشرية والإنسانية للضحية من خلال التمثيل بها وتشويه أعضائها؛ فالقتل وحده لا يكفي بل إن القاتل يريد أن يتشفى ويتأكد أنه قضى قضاء نهائياً على هذا العدو. إن نزوة السطوة تعطي شعوراً بالفوقية والاعتزاز وتطلق طاقات القوة المفرطة؛ القاتل هنا لا يكتفي بامتلاك الجثة، إنما يريد أن يقضي على إمكان عودتها إلى الحياة.

 

 أين هو الشعور بالذنب؟ ألا يشعر من يرتكبون مثل هذه الجرائم بتأنيب الضمير؟

الشعور بالذنب غير موجود عند كل الحالات. هؤلاء الذي يُقدمون على هذا النوع من العنف المفرط هم أناس غير عاديين على مستوى المكبوتات العنفية عندهم، ولكن علينا التنبه إلى أنه حتى البشر العاديين يُقدمون على حالات مشابهة. ففي الحرب اللبنانية -على سبيل المثال- فوجئنا بأن بعض طلاب الجامعات أصبحوا بعد فترة من انخراطهم في الميليشيات والمتاريس يتلذذون بالتعذيب والقتل على الهوية. ثمة شيء جواني كامن عند بعض البشر مغطى بأخلاقيات برانية، ومن هنا تتفجر هذه القشرة الخارجية، وخصوصاً أن هذا العنف لا يولِّد شعوراً بالذنب، وكأن التفنن بالقتل والتمثيل بالجثث واجب مطلوب، تدفعه العصبية الأيديولوجية أو الدينية أو السياسية أو الحزبية. القاتل هنا لديه تبرير بأنه مُعفى من أي شعور بالذنب. الإنسان يشعر بالذنب إذا اعتدى على إنسان آخر في الحالات العادية، أما المنضوون في التنظيمات الإرهابية والأيديولوجية والأجهزة الأمنية في الأنظمة الاستبدادية، فتسقط عنهم المسؤولية الأخلاقية وفق وجهة نظرهم، أي إن الدين والحفاظ على السلطة يدفعان عنهم الشعور بالذنب، بل وبالعكس مطلوب أن يتباروا بالعنف ويتنافسوا في التشفي.

 في كتابك “التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور” تحدثت عن الأساليب الدفاعية التي يلجأ إليها الإنسان المقهور في المجتمعات المتخلفة، وأشرت إلى خلاصة دالة مفادها: “لا يفوق معاناة الحاضر عند الإنسان المقهور سوى قلق المستقبل”، هذا على المستوى الفردي. إلى أي حد يمكن الحديث في العالم العربي الذي يعاني من تبعات التخلف عن “جماعات مقهورة” قلقة من المستقبل؟ ولماذا لا يحضر سؤال المستقبل في وعي هذه الجماعات؟

في الحقيقة الإنسان المقهور التعيس، هو الإنسان الذي أفلت مصيره والمستقبل منه، بينما الإنسان المندرج في الحياة المعاصرة والذي يتمتع بكرامته ووجوده ككائن إنساني يبحث دائماً عن مستقبل أفضل، ولكن بدرجات متفاوتة. الإنسان المقهور مضطر للعيش في ضرورات اللحظة، وهو طبعاً لا يستطيع التفكير في المستقبل، ولكي يُقدِم على هذه الخطوة عليه التحرر من هذه الضرورات. وما ينطبق على الأفراد ينطبق على الجماعات المقهورة والمهدورة. ليس المستوى المعيشي والمادي وتدبير أمور الحياة فحسب، هي التي تُسقط خط الأمان المستقبلي، فالكائن الإنساني نفسه في أنظمة القهر والاستبداد يغيب عنه سؤال المستقبل، فنحن هنا نواجه مشكلة، تتمثل في غياب الاعتراف بهذا الإنسان. لنأخذ -على سبيل المثال- الضحايا في الحرب السورية، نلاحظ أن ثمة تغييباً هائلاً للبعد الإنساني في هوية الضحايا الذين يتحولون إلى أرقام في طاحونة العنف التي لا ترحم، ليس هناك أي اعتبار وقيمة لهم، وهذه قمة العدمية.

إلى ذلك علينا النظر إلى الفئات المقهورة لدى الشرائح الاجتماعية دون خط الفقر، وهنا أسجل احتجاجي على التعبير المهذب الذي أطلقته الأمم المتحدة، على أن الذي يكون راتبه أقل من كذا يكون دون خط الفقر بالنسبة للدخل الوطني. في رأيي أن من يكون دون خط الفقر هو الإنسان دون خط الكرامة البشرية في الأنظمة الاستبدادية.
نلاحظ أن الشريحة التي هي ما دون خط الفقر هي المنتجة الأساسية لأغلب الآفات الاجتماعية، كما شهدنا مع تهجير السوريين، الذي كشف عن أمراض اجتماعية خطرة، وأنتج ظواهر تبرهن على حجم الفقدان على المستوى الإنساني والكياني، فكيف بإمكان هؤلاء التفكير بالمستقبل وهم يعيشون لحظة تدبير الحاضر بالحاضر؟ هؤلاء الناس المقهورون إنسانياً واجتماعياً تسقط عندهم الروادع التي تردع الظواهر السلبية. هذه مشكلة كبرى وعلماء النفس عندنا –للأسف- لا يهتمون بها، يتعلمون النظريات ومن ثم يعلمونها لطلابهم ولا يحتكون في أرض الواقع، فهم لا ينزلون إلى الشارع عند هذه الشرائح المقهورة، وكتابي “التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور” كتبته عن خبرة ميدانية في أحزمة البؤس في لبنان، نتيجة لاحتكاكي مع الأسر والعائلات الفقيرة.
أرى أن علم النفس الذي أتينا به من الغرب قد وضع لإنسان المجتمع الغربي الصناعي القائم على الفرد المنتج، ولم يدرس سيكولوجية إنساننا العربي وخصائصه وقضاياه البعيدة عن واقع الإنسان الصناعي. ولذلك فأنا دائم الدعوة إلى إنشاء علم النفس البلدي (indiginous psychology) يُعنى بدراسة فئاتنا الشعبية وشرائحنا الاجتماعية التي ما زالت قائمة على سيكوسوسيولوجية العصبيات إضافة إلى دراسة نظم القهر والهدر التي لا تعترف بالإنسان. وذلك ملف آخر جارٍ دراسته من قبلي.

 

 

 


الكاتب : حاورته: ريتا فرج

  

بتاريخ : 14/07/2020