حكايات تروى لأول مرة على لسان رواد «الغيوان» 4 : باكو يلتحق بجيل جيلالة وعين بوجميع ترصده ..وسكينة تروي عن المرحلة

نعود بجمهورنا الكريم في هذه السلسلة الرمضانية، إلى بعض من المسارات التي عاشتها الأغنية الغيوانية، والتي إما مرت دون انتباه أو ستسرد لأول مرة، وهي مسارات ومحطات ندونها على لسان رواد المجموعات، والذين منهم من انتقل إلى دار البقاء ومنهم من مازال
بين ظهرانينا يتمم الرسالة والمسير…

 

لن أكون ثقيلا وأجلس هنا لأعرفكم على الحاج محمد الدرهم، فالمغاربة يعرفون تحف بلادهم جيدا، ويصونونها بقلوبهم قبل عقولهم .. لذا سأدخل إلى صلب الموضوع مباشرة…
الجلوس مع أيقونة الإبداع المغربي وإحدى الركائز الأساسية في الظاهرة الغيوانية، محمد الدرهم، ممتع جدا، فأنت بصدد رجل مثقف عميق ومحلل ماهر له قراءة ثاقبة لما يحيط بمجتمعه، مبدع متمكن ومتعدد، على دراية واسعة بالفنون على مختلف مشاربها، شاعر، باحث واضح المواقف ….أكثر من هذا وذاك، فهو يجيد فن السرد، تشدك طريقة حكيه وجمال كلمته … من الغيوان وجيلالة ولمشاهب وغيرها من المجموعات، يسبح بك الرجل على أمواج خفيفة إلى الإشكالات الحقيقية لمعضلة الفن في المغرب ومعه مشكل الثقافة ككل، يقف عند محطات مختلفة، يتذكر صديقيه بوجميع والعربي باطما ليتحدث عن المشروع الغيواني والعراقيل التي واجهته، وكيف عانت الغيوان وجيلالة ولمشاهب من أجل الصمود، وهول الحروب التي ساهمت بشكل أو بآخر، في عدم وصول الأغنية الغيوانية للعالمية المنشودة، يحيلك على نقاشات جرت بينه وبين العربي باطما بحثا عن المسارب التي تضمن استمرارية المشروع الذي كان يتمنى له البعض الإجهاض والإقبار، تستنتج أنك عندما تتحدث عن المجموعات فإنك تتحدث عن مناضلين وليس فنانين، لأنهم أبدعوا تحت أجواء الضغط والاتهامات بالانتماء إلى اليسار، الذي لم يكن له إلا معنى واحد، وهو ولوج السجن ليس إلا، أضف إلى ذلك إكراهات العيش المتمثلة في أن المتحكمين في الشأن الفني كانوا ينظرون للمجموعات بعين العداء، وبالتالي فإن الإقصاء هو خير جزاء لها .. تفهم وأنت في رحلة التجوال داخل مذكرات الدرهم أن العداء كان يطال كل من يدور في فلك روح الغيوان، وكم من المثقفين والمبدعين عانوا الأمرين فقط لأنهم مبدعون؟ يفتح لك الدرهم في هذا الإطار أبواب قصص عديدة، منها ما تهم الغيوان وجيلالة على الخصوص، وهي التي ارتأيت أن أتركها جانبا في هذه الورقة، وسأقصها في وقت لاحق، ومنها ما تهم أسماء فنية وازنة عملت جنبا إلى جنب مع الغيوان وجيل جيلالة وحتى لمشاهب، ليعرف القارئ والمتتبع كم عانى فنانون نعتبرهم مفخرة للوطن، من أجل إسعاد المغاربة، من خلال تقديم أعمال فنية راقية كانت ستخترق الحدود للإعلان عن فن مغربي خالص سيترك بصمته وسط الساحة الإبداعية الدولية… وأيضا ليضع المتتبع المقارنة اللازمة بين ما يقدم اليوم من فن بملايين الدراهم خلقت لنا بورجوازية جديدة من منتجين لا حس لهم، وبين ما قدمه كبار من أعمال ساقتهم إلى فراش الموت بشكل مباشر دون تعويض مالي أو كلمة «شكرا» … خلال المذكرات التي سجلناها معه في بداية الألفية الحالية، حاول المبدع الكبير الحاج محمد الدرهم أن يقربنا من هموم الفنان المناضل على الخصوص، والذي يحلم بصورة مشرقة لوطنه وسط باقي الشعوب، وسيشرح الدرهم واقع التلفزة في حقبة أوج عطاء الغيوان وجيلالة ولمشاهب، والإجحاف الذي كانت تتعامل به وكيف فرطت في الأرشيف وتركته علفا للنيران، وهو ما اعتبره الدرهم «نوعا من إبادة الثقافة»، يقول محمد الدرهم: هناك أمور مضحكة ومرة في نفس الوقت، كان يعيشها الفنان مع جهاز التلفزة العجيب، وقد أدت في الغالب إلى تحطيم معنوياته، وأتذكر أن المبدع والمخرج محمد الركاب كان قد قرر الرحيل من البلاد إلى غير رجعة، بعدما سئم من ممارسات قام بها مسؤولون في هذا الجهاز، والتي لا تبدي أي احترام للفنان وأعماله.
معلوم أن الركّاب رافق مجموعة جيل جيلالة منذ تأسيسها وأثناء مشوارها الفني، وأراد أن ينجز لها «كليب»، وفي تلك الفترة، لما طرح الفكرة أنجزنا المشروع أنا وهو، وخلال شهر من العمل، توجهنا لمقر التلفزة وعرضنا المشروع على مديرها في تلك الآونة، وكانت الإدارة إذاك تحمل شعار «التلفزة تتحرك»، قدمنا له المشروع فوضعه أمامه وتصفحه في ثلاثين ثانية، ثم ذهب مباشرة إلى الخانة التي تحمل رقم تكلفة المشروع، ليرفع رأسه وينظر إلينا قائلا إن هذه تكلفة جد بسيطة ونحن نريد مع التجهيزات التي اقتنيناها أعمالا ضخمة، سررنا كثيرا لهذا القول وطلبنا منه مهلة شهر كأجل لنهيئ له مشروعا يستجيب لما تريده تلفزته .. لما انقضى الأجل عدنا إلى مكتبه مجددا، وكالعادة تصفح المشروع في ثلاثين ثانية، أي في عجالة قياسية ولما رأى هذه المرة واجب التكلفة، قال لنا إن هذا كثير والتلفزة لايمكنها أن تتحمل هذه المصاريف … فما كان من الركّاب إلا أن سحب المشروع من تحت يد المدير ومزقه أمامه وطلب منه بألا يتصل به مرة أخرى لإنجاز أي عمل وخرج غاضبا، محبطا، وأبلغني أنه سيعود إلى موسكو حيث درس وكان يعيش .. ظل الركّاب متوترا إلى أقصى حد، فالمعاملة التي تعامل بها المدير لم تكن لترضي أحدا ولا يمكن وضعها إلا في خانة الاستهزاء، طيلة طريق العودة ظل يردد على مسامعي فكرة العودة إلى موسكو والاستقرار بها بشكل دائم ، طلبت منه أن يتريث في الموضوع و بألا يتخذ أي قرار وهو على تلك الحال، واقترحت أن يذهب إلى المنزل لأخذ قسط من الراحة وأن نناقش الموضوع في اليوم الموالي بأعصاب غير متشنجة وفي جو هادئ .. التقينا في اليوم التالي، لكني وجدت الرجل لا يزال مصمما على رأيه، شرحت له أن الساحة الفنية في حاجة إلى أمثاله وبأن علينا كجيل ألا نستسلم أمام أي عقبة تقف في طريقنا، بعد جدل طويل ونقاش شبه مستعص أخبرني أنه إن كان سيمدد من مكوثه في المغرب، فسيكون ذلك فقط من أجل إنجاز فيلمه «حلاق درب الفقراء»، الذي لم يكن قد عثر له على منتج بعد لينجزه، فوعدته بأنني سأساعده في البحث عنه، هكذا اتصلت بأحد أقاربي، الذي يعرف جيدا قيمة الركّاب الفنية، واقترحت عليه أن يساعده في إنجاز عمله، بعدها عقدت لهما لقاء في منزلي، شرح خلاله الركّاب لقريبي فكرة الفيلم والمواضيع التي سيتطرق إليها، والإمكانيات التي يتطلبها.. فوافق القريب ووقع معه عقدا في الحال، هكذا شرع الركّاب في العمل، لقد حضرت كل الخطوات التي خطاها الفيلم، وعشت كل المشاكل التي اعترضته، بل عملت على حل البعض منها، لقد كان عملا مضنيا، خصوصا على مستوى الإنتاج، حيث كان المركز السينمائي المغربي يؤخر الدفعات التي خصصها لهذا العمل، وكم كان ثمن ذلك التأخير غاليا، فقد جعل بعض الممثلين والعاملين في الفيلم لا يلتزمون بالمواعيد، ودفع بالبعض إلى التهديد بعدم إتمام الفيلم إذا لم يتوصل بمستحقاته، وأذكر أن الركّاب كان يوزع على هذا البعض أجرته المخصصة له في هذا العمل من أجل الاستمرار في العمل.. وقد حصل أن توقف التصوير بسبب عدم وجود أموال، وكان المركز السينمائي قد أشعرنا بأنه بعث بدفعة 20 ألف درهم، سنتوصل بها عبر إحدى المؤسسات البنكية، تكلفت أنا بمهمة سحب هذه الأموال، وقصدت المؤسسة البنكية من أجل تسلم الدفعة وإنقاذ الموقف، فإذا بي لا أجد شيئا، إذ أبلغني الموظف المكلف بأن البنك لم يتوصل بأي شيء، استنكرت الموقف وأخذت أشرح للموظف أننا بصدد تصوير فيلم وأن تكاليف اليوم الذي نحن فيه متوقفة على هذا المبلغ، أثناء شرحي له ذكرت اسم الركّاب وبعض الممثلين المشاركين في العمل، وهم ممثلون معروفون، بعد انتهائي من الاستنكار والحكي وطرح الأسئلة، تفاجأت بشخص تقدم إلي وصافحني، وطلب مني أن أهدئ من روعي وأن أشرح له بتؤدة، بعد ملخص بسيط من الشرح، سيطلب مني أن أرافقه لكي يمنحني المبلغ المطلوب، سألته مستغربا عن الداعي لاتخاذه مثل هذا الموقف، فرد علي بالقول: أنا مغربي وأعرف كل هؤلاء الفنانين الذين ذكرت وأنا أحبهم كلهم ولا يمكن إلا أن أساعدهم وهم في حاجة إلى مساعدة .. بعد إصراره ذهبت معه إلى المحل الذي يعمل فيه وأمدني بالمبلغ ورفض أن يأخذ مني شيكا أو وصلا، لقد أثر في هذا الحدث كثيرا، ونسيت كل المعاناة واستخلصت أنه من أجل هؤلاء علينا نحن كفنانين أن نتحدى كل العوائق لتقديم أعمال يستحقونها ..عدت إلى المنزل على وجه السرعة واتصلت بقريبي وطلبت منه أن يبعث لي بالمال لأعيده للرجل الذي ساعدنا بأمواله … العديد من العوائق اعترضت عملية إنجاز فيلم «حلاق درب الفقراء»، من بينها ما هو متعلق بالمشاركين في الفيلم ومنها ما هو مادي صرف، وهو أكثر حضورا من المشكل الأول… ورغم المشاكل والعراقيل أصر الركّاب على إتمام الفيلم بأي وجه كان، ولو على حساب صحته، بدليل أنه مباشرة بعد إنجاز عمله هذا أصبح دائم التردد على المصحات والمستشفيات من أجل العلاج من المرض الذي لازمه إلى فراش الموت … لقد لقي عمله هذا نجاحا واسعا ونال عدة جوائز في مختلف المهرجانات الأجنبية التي شارك فيها، كما تناقلته قنوات بعض الدول، إلا أن المرحوم لم يستفد من عائداته لأنه لم يستطع السفر للبلدان التي تعاقد معها لتبثه عبر شاشاتها للحصول على مستحقاته، وذلك راجع بطبيعة الحال إلى مرضه وتردده على الأطباء.
آخر اتصال لي بالركّاب كان عبر الهاتف، حيث اتصل بي من إحدى المصحات الفرنسية، ليخبرني أنه حصل على دعم بقيمة 120 مليون لإنجاز فيلمه الثاني، أذكر في ذلك اليوم أنه كان سعيدا وقال لي إن هذا الدعم هو لنا جميعا وكان يعني نفسه وأنا وقريبي الذي ساعده في إنجاز الفيلم، كما عبر عن نيته في تصوير فيلم جديد، سررت كثيرا لأني لاحظت أنه استعاد معنوياته المجروحة ..لكن بعد أسبوع من هذه المكالمة جاءني نبأ وفاته .. لم تكن الأموال تعني للركّاب شيئا، فهي فقط مجرد وسيلة لتحقيق أحلامه الإبداعية ليس إلا. وكان يقاسمه هذه الميزة المخرج حميد بنشريف الذي لم يكن يكترث لما سيجنيه من عمله.. وتلك حكاية سنرويها في مقام آخر…


الكاتب : العربي رياض

  

بتاريخ : 15/03/2024