حكايات تروى لأول مرة على لسان رواد «الغيوان» 05 : باكو يلتحق بجيل جيلالة وعين بوجميع ترصده .. وسكينة تروي عن المرحلة

نعود بجمهورنا الكريم في هذه السلسلة الرمضانية، إلى بعض من المسارات التي عاشتها الأغنية الغيوانية، والتي إما مرت دون انتباه أو ستسرد لأول مرة، وهي مسارات ومحطات ندونها على لسان رواد المجموعات، والذين منهم من انتقل إلى دار البقاء ومنهم من مازال
بين ظهرانينا يتمم الرسالة والمسير…

 

وباكو يسبح في عالم تاكناويت مأخوذا ببهاء أجواء غابة الديابات، متفاعلا مع زوار المدينة القادمين من كل أرجاء العالم بحثا عن لحظة تحرر وصفاء ذهني داخل عالم الهيبي، الذي اتخذ من مدينة الصويرة واحدة من عواصمه، ستظهر في الساحة مجموعة ناس الغيوان، التي سيجد باكو نفسه منجذبا إليها إن على مستوى النصوص أو على المستوى الموسيقى وأيضا على مستوى الأصوات، وكما أشرنا في الورقة السابقة فإن عبد الرحمان انبهر كثيرا بصوت بوجميع والعربي، وفي هذا الصدد يقول عبد الرحمان: «تمنيت لو التقيت بهؤلاء، ليس للعمل معهم، لكن فقط للإنصات إليهم عن قرب».
ظهور الغيوان سيعقبه مباشرة ظهور بارز لمجموعة جيل جيلالة التي سترسم مدرسة خاصة بها في العالم الغيواني، لكن قبل تشكلها وخروجها للعلن كان لزاما أن تبحث عن أسماء وازنة تتمتع بمواهب مختلفة في عالم الغناء، كالقدرة على الكتابة والبحث والقدرة على التلحين والتوزيع الموسيقي دون أن ننسى جمالية الأصوات، لأن النموذج الذي أمامها اسمه ناس الغيوان وما أدراك ما ناس الغيوان؟ وأعضاء مجموعة جيل جيلالة يعلمون جيدا من يكون أفراد هذه الفرقة، التي خلقت الحدث، فمولاي الطاهر الأصبهاني والزوغي، كانا زميلين لبوجميع وباطما وعمر وعلال في مسرح الصديقي ولهما معهم عدد من الأعمال المشتركة، كما أن اطلاعهما كبير على قدرات هذه الأسماء والموهبة التي يتمتعون بها، بل أكثر من هذا فإن مولاي الطاهر كان صديقا مقربا من بوجميع منذ أن مثلا سوية مسرحية «الحراز»، أي أنه على دراية كاملة بالقدرات الفنية التي يمتلكها الرجل وبالتالي فهو يعي جيدا معنى أن تدخل في منافسة مع فنان من حجم بوجميع أوالعربي باطما، ولا ننسى «اللاعب» الكبير مولاي عبد العزيز الطاهري.. فالدرهم ومولاي الطاهر يعلمان جيدا ما في جعبة هذا الرجل من أبحاث وأعمال وقدرات فنية هائلة، أو لم يكن يشكل برفقتهم وبرفقة شهرمان، فريقا مسرحيا متراصا، جعل اسم مراكش يسطع عاليا في سماء مسرح الهواة، أيام شبيبة الحمراء الرائدة؟ حيث تبقى مسرحية «التكعكيعة» أكبر شاهد على علو كعب شهرمان ومولاي عبد العزيز الطاهري ومولاي أحمد بنمشيش، ذلك أن هذا العمل مازال حاضرا في أذهان كل عشاق المسرح حيث فاز بجوائز وطنية وخلق نجوما بمراكش، وجعل كل الأعين تلتفت لهذه المدينة لاستقطاب مواهبها.. ما يعلمه مولاي الطاهر والزوغي والدرهم عن الغيوان تعلمه أيضا سكينة التي كادت أن تكون عضوا في فرقة ناس الغيوان باقتراح من بوجميع والسعدي، لكن التخوف من العائلة جعلها تتردد لتنطلق الغيوان من دونها (وتلك حكاية سنعود لها بتفصيل في وقت لاحق)، قبل أن تقرر تأسيس فرقة على شاكلة الغيوان بمعية الزوغي ومحمود السعدي القادم من ناس الغيوان بعد أن قرر المغادرة، والذي بدوره يعلم جيدا من هم الغيوان، فهو من جهة، ابن الحي وعلى معرفة كبيرة ببوجميع وعمرالسيد وأضحى مع تجربته الغنائية معهم يعرف أكثر قوتهم الفنية ..كل هذا سيجعل سكينة والسعدي والزوغي يتصلون بمولاي الطاهر والدرهم وشهرمان، أي مجموعة لها دراية بفنون الكتابة والتوزيع الموسيقي وتتمتع بأصوات مدهشة ومتشبعة بالفنون التراثية وضليعة في العمل المسرحي، من أجل البصم على تجربة فنية ذات وزن يحترمه الجمهور، بعد تشكل هذه المجموعة التي كانت تضم أيضا الممثل القدير محمد مجد، وللإفادة ففي هذه الفترة كان الزوغي على خلاف مع الطيب الجامعي بسبب بوجميع، فسكينة تتذكر أن الغيوان كانوا في المسرح يقدمون عرضا وبحكم الصداقة التي تجمعهم مع الزوغي، كان الأخير لا يتردد في تقديم النصح والمساعدة إذا أمكن، وفي تلك الليلة كان بوجميع يغني وصوته غير مسموع بسبب بعده عن مكبر الصوت، فنبهه الزوغي للأمر طالبا منه الاقتراب أكثر، وهو ما نفذه بوجميع، الأمر الذي لم يرق للطيب الجامعي الذي كان يرأس الغيوان في تلك الفترة، فتدخل وطلب من الزوغي ألا يتدخل في فرقته، الشيء الذي لم يستسغه الأخير ليقرر تأسيس مجموعة على تلك الشاكلة، أيضا محمد مجد في تلك الفترة كان على خصام مع الصديقي فلازم الزوغي إلى أن أسسوا جيل جيلالة، أما الدرهم فقد كان يشتغل مع مسرح عفيفي بالجديدة، قبل أن يسافر إليه السعدي وسكينة والزوغي ليقنعوه بالدخول في التجربة معهم … المجموعة بدأت ترسم مسارها علما أن كل ما في جعبتها الغنائية ثلاث أغان فقط، وكلها من توقيع شهرمان وأجزاء منها قدمت في المسرح بين شهرمان ومولاي الطاهر والدرهم عندما التحقوا بمسرح «كوميديا» بمراكش بعدما غادروا شبيبة الحمراء، حيث قدموا أعمالا كبيرة حازت على جوائز وطنية، ولعل من بين أبرز هذه الأعمال مسرحية «نكسة أرقام» و «الضفادع لكحلة»، وهذه الأعمال معظم مشاهدها من إبداع شهرمان فيما كان مولاي الطاهر يفوز غالبا بجائزة أحسن ممثل، ضمن هذه الأعمال وظفت مجموعة من الأغاني التي غنتها جيل جيلالة ك «الكلام المصرع « ، وهنا لابد أن أشير إلى أن المقطع المهم من أغنية «نرجاك أنا» للغيوان كانت قد وظفت في الأعمال المسرحية التي كان يقدمها الدرهم وشهرمان والأصبهاني في مراكش، (سأعود لهذه الحكاية في ما بعد) … قلت لم يكن في جعبة جيل جيلالة سوى ثلاث أغاني، ولكن أي أغان: «الكلام المرصع» التي بالإضافة إلى مضمونها القوي وكلماتها البديعة، تقدم على طبق مرصع بإيقاع «أقلال» وما أدراك ما إيقاع «أقلال» الذي لا ينقره إلا الراسخون في علم الإيقاع، ومن غير المستساغ أن ينقره سباب في بداية العشرينات، وأعتقد أن من هنا جاءت قوة جيلالة، فأفرادها «ميازنية كبار»، ثم أغنية «آه يا جيلالة «وأغنية» العار آبويا «، التي كتب مطلعها الزوغي فيما كتب محمد الدرهم مقاطعها الأخيرة ولحنها مولاي الطاهر الأصبهاني، وكانت هي تتخلل مشاهد من مسرحية ليالي الحصاد، التي أخرجها حميد الزوغي .. إذن نحن أمام أعمال نوعية رفيعة، لا ينقص الآن سوى اختيار الآلات وشراء المعدات والبحث عن عازف على آلة السنتير لكن يجب الوصول إلى عازف من المستوى الرفيع، تقول سكينة: سافرت أنا ومولاي الطاهر والدرهم والزوغي إلى مدينة مراكش، واشترينا كل الآلات الإيقاعية التي سنحتاجها في أعمالنا، لأن مراكش واحدة من المدن القليلة التي ستجد فيها آلات خاصة بالمحترفين في مجال الإيقاع على الخصوص، بعد أن اشترينا كل ما نحتاج فكرنا في البحث عن عازف آلة السنتير، توجهنا مباشرة إلى لمعلم باقبو والد مصطفى باقبو، ولأنه محترف في المجال تشاورنا معه بعد أن أبلغناه عزمنا تأسيس فرقة غنائية، فنصحنا بالسفر إلى الصويرة لأن فيها شابا يعد من أمهر العازفين على هذه الآلة… من غرائب الصدف أن يكون لمعلم باقبو هو الذي دل جيل جيلالة على عبد الرحمان فيما سيصبح ابنه مصطفى باقبو هو العازف الرئيسي لجيلالة دون تدخل والده.
عرج أفراد جيلالة على الصويرة وسألوا عن باكو فقيل لهم إنه في «البرج» في الديابات، التحقوا به ليجدوا أنفسهم أمام هيبي حقيقي بشعر طويل وقميص أصفر وبنطلون بلون الآجر الأحمر، اقترحوا عليه الفكرة، لم يناقشهم في شيء حمل آلته وركب معهم السيارة ليتجهوا جميعا نحو الدارالبيضاء، وبالضبط إلى حي الرياض العالي قرب مسجد السنة حيث وفر الزوغي أول ناد للمجموعة، وشهد التأسيس الرسمي لجيل جيلالة، وبخلاف ما يعتقده البعض فإن المجموعة أسست، في الواقع، بقلب الأحياء الشعبية للعاصمة الاقتصادية وليس بمراكش، وهو الأمر الذي لا يعرفه المنتخبون هناك، بدليل أنهم لم يقدموا ولو على تكريم واحد لفائدة أعضاء هذه الفرقة التي هي في الحقيقة ليست في حاجة إلى تكريم من لدن جهلة بتاريخ «قلاعهم» الانتخابية، فهي مكرمة من لدن الشعب النقي، الذي يفهم معنى الفن والفنون بعيدا عن أكلة الريع …
سيقطن عبد الرحمان في نادي المجموعة بمعية مولاي الطاهر، قبل أن يسافر من جديد للصويرة لاستقدام زوجته، وبعد أن قرر الاستقرار عمل عبد الرحمان على إبراز مواهبه داخل المجموعة، يقول عبد الرحمان : لقد عملت على إدخال أحد الإيقاعات الكناوية وهو إيقاع تمرنت عليه مع فرقة «ليفينغ تياتر»، ويظهر هذا الإيقاع في استهلال أغنية «آه عليك آراسي»، كما ساهمت في إيقاع الكلام المرصع، عند ظهور أول أسطوانة من 45 لفة لمجموعة جيل جيلالة، تضم الأغاني التي ذكرت، بلغني أن بوجميع لما سمع المقطع الذي اشتغلت عليه في أغنية « آه عليك آ راسي « أعجب به كثيرا فقال لأفراد الغيوان «علينا أن نأتي بهذا الكناوي بأي ثمن، فجيل جيلالة ليست عالمه ولا المدرسة التي يجب أن يكون فيها بل عليه الالتحاق بالغيوان …».
يجهل البعض سبب صياح باكو في كل سهرات الغيوان قبل الدخول في الرقص والجدبة «ها الغيوان»، ذلك أن بوجميع لما استقدمه إلى المجموعة، نقله للعيش معه إلى منطقة عين الذئاب حيث كان يتواجد أول ناد للفرقة، هناك لم يكن بوجميع يفرض على باكو أن يغني أي شيء بل كان يطلق له العنان لكي يعزف أو يغني ما يريد، وكانوا إذاك يهيئون واحدة من أروع الأغاني في تاريخ المجموعة وهي أغنية «غير خذوني»، التي يعتبرها عبد الرحمان «قالب السكر باش دخل لدار الغيوان»، كان بوجميع يكتفي بالإنصات وإطلاق ضحكته الرائعة كلما أعجبه شيء مما يعزفه باكو حتى إن الأخير كان يساوره الشك قبل أن يفهم طباع بوجميع، وكان بوجميع دائم الاستقبال في ذلك النادي للكتاب والنقاد والمبدعين والإعلاميين، وكان كلما قدم لهم عبد الرحمان يقول لهم «ها الغيوان»، بعد أن يطلب منه إسماعهم عزفه على السنتير…


الكاتب : العربي رياض

  

بتاريخ : 16/03/2024