حنظلة يلتفت اليوم ليرانا..

عزيزي حنظلة
منذ أن اعتقد المعتقدون أنك توقفت عن مخاطبتنا في شأن تحوُّلات القضية الفلسطينية، وما أصابها من تصلُّب وجفاف في العقود الأربعة الأخيرة، بقيت واقفاً بشموخِ وكبرياءِ الغاضبين الكاتمين غَيظهم.. ظلَّت وقْفَتُك كما هي، تحمل الشمس فوق رأسك ولا تنطق عن الهوى.. طَوَّحت بك الأيام في بلاد الصيف وبلاد الشتاء، وسكنت قبل ذلك المخيمات مهجَّراً ومطروداً بثياب مرقَّعةٍ، مع حرصٍ شديد على مواصلة حَمْلِ الشمس فوق رأسك في الشتاء والصيف.
تذكرتك في هذه الأيام العصيبة، وعُدْت إلى الأحرف التي رسمت طيلة ثلاثين سنة، فوجدت نفسي أمام خيوطٍ تجمع عنف التَّشخيص بالمباشر لتاريخ محاولات الاقتلاع، الذي مارسته الصهيونية والغرب الداعم لأنماط احتلالها واغتصابها لأرض فلسطين وتاريخها.. وشكلتك كلماتك وطريقة تأثيثك لفضاءات الرسوم الكاركاتورية، ما يمكن اعتباره بمثابة سِجِلٍّ يقظٍ لكل ما لحق القضية الفلسطينية والعربية من تحوُّل طيلة ما يقرب من نصف قرن، أي منذ ميلادك الثاني بعد هزيمة 67 إلى دخول الفاعل السياسي الفلسطيني في دوائر التمهيد لاتفاقية أوسلو..
الجميل والساحر في الرسوم والكلمات بَسَاطَتها.. الأبيض والأسود والدائري والمرقَّع، وكذا الغضب الذي يحملُه وَجْهُكَ ولا نراه.. الكلمة الحارقة والصمت الصادح بالصراخ وبالبكاء، دون رؤية العين الدامعة والوجنتين.. فكل هذا شَكَّل علامات قوية في الرسوم وفي الكاتالوج الجامع، حيث لا تبكي وحدك بل يبكي الذين يرونك في قلب المخيم ومدرسته وأزقته، ثم يكتشفونك بينهم لاحقاً في فصائل التحرير والنضال وفي قياداتها، حيث لا يتردد الجميع في الادِّعاء بأنهم أنت حنظلة يمشي في الأسواق، ويشارك في الانتفاضات ويعلن رأيه في ما جرى ويجري..

عزيزي حنظلة
تُوَاصلُ رسومُك ممارسة ما تطلعت إليه، ذلك أنك حرصت في مواقفك على مواجهة نفسك ومصيرك، عثراتك ومقاومتك.. حرصت في الرسوم وفي المواقف التي رسمت على مغالبة حزنك وغضبك، نقد الخيانات والتراجعات، نقد الخوف والجبن والمؤامرات، نقد الداخل أكثر من الخارج، نقد القيادات والتيارات، نقد الماضي والحاضر.. تشبَّثت بالحلم والأمل والأرض والتاريخ والإنسان، رغم أن العدو استقر واستوطن ورَكَّب التاريخ المناسب للفوز بشرعية تسندها شريعة الأقوياء في المنتظم الدولي.. لم تستطع التخلص من الشمس التي زينت بها مُحَيَّاك، وواصلت الوقوف الذي لا يتوقف عن التفكير باقتراب أُمِّ الانتفاضات، القادرة وحدها على التَّغَنِّي بِعِنَب الخليل وجبل الكرمل وتاريخ الأشواق..
لم أكن أتصوَّر وأنا أتابع رسومك في الصحافة العربية فور انتهائك منها، أنها تُحَدِّث الأجيال القادمة.. اليوم وأنا أكتب لك أتصفح في الآن نفسه، صفحات المجموع الذي يحملها، أدرك أنها تخاطبني تخاطبنا جميعاً.. إنها تروي ما تَحَوَّل إلى حكاية مغطاة بكثير من الرماد الكثيف.. فمن ينفض الرماد ويمنح الجمرات التي تحته، اللهيب القادر على منحك القدرة على الالتفات نحونا، لنتمكن من التملِّي في وجهك، ونتمكن ونحن نلاحظ أنك تكبر، وتحرك ذاتك وجسدك وتبدأ رحلة الرقص والغناء؟

عزيزي حنظلة
وأنا أتأمل رسومك قبل النوم، رأيتك في الرسوم أثناء النوم وقد التَفَتَّ صوبنا، رأيت الشمس على رأسك تتحول إلى قمر، وقرأت في كلمات الرسوم وحوارات مؤثثي فضاءاتها، مواقف تخص بغداد ودمشق وصنعاء وطرابلس، رأيت حنظلة العُروبي يغادر المخيم ويحلم بزمن يحمل عناوين وطموحات في طور الاندثار، فسألتك عن مبررات هذا التغيير الذي لحق صورتك، حيث اختفى الظهر وحَلَّ الوجه مكانه، وغابت الشمس ولاح القمر، فحرصت على الصمت المعهود فيك.. فعدت لأسألك عن أحوال العراق والشام واليمن وليبيا، بحكم أن أحوال هذه الحواضر اليوم من أحوال فلسطين، فالتهجير والمخيمات والاغتصاب والاجتثاث، أفعال عَمَّت بلداناً عربية عديدة، الأمر الذي أصبح يتطلب انتفاضات كبرى هنا وهناك، من أجل مقاومة أنماط الاحتلال والاستيطان قديمها والجديد..
التفتَّ اليوم لترى مآلات القضية في زمن كورونا، زمن الهرولة التطبيعية الجديدة، ما وقع منها في واشنطن بإشراف راعي الاحتلال والاستيطان، وما ينتظر التوقيع في آجال قريبة.. التفتَّ لنرى عيونك ودموعك وأنت تشاهد أحوال عمران الحواضر اليمنية والشامية، وتشاهد مليشيات بنغازي وطرابلس، وأحوال أطفال المخيمات في الأردن ولبنان وفلسطين.. إننا ننتظر كلمتك في كل ما تشاهده اليوم بالعين المصوَّبة نحوه، مثلما كنا ننتظر ذلك منك بالأمس، وأنت تجمع يديك خلف ظهرك غاضباً أو حزيناً وكأنك في مأتم ملحمي، شبيه بمآتم أزمنة الأوبئة والحروب التي لم تغادر ديارنا منذ نكبة 1948.. إنني أنتظر كلماتك الغاضبة، نقدك اللاذع ودموعك الحارقة، جنونك الذي ملأته نُعومةً وسخرت جُملَه القصيرة من أجل دفعنا إلى الاقتراب من مقدمات وشروط ما جرى ويجري، ومقدمات وشروط كيفيات التخلص من آثاره، في زمن نشعر فيه بعدم جدوى الكلمات والأفعال..
عَقَّدتِ السيول الجارفة في الزمن الصعب سُبل التخلص من الهاوية التي انزلقنا فيها.. تحولت المتاهة أمامنا إلى درب وحيد، تحولت إلى منحدرٍ بدون قاع أو أرض أو لوحةِ خشبٍ يمكن أن تحملنا.. ووقف الآخرون أمامك ينظرون إليك رغم أنهم يعرفونك.. إن وجهك اليوم أمامهم يحمل أشعة الشمس، وقد امتلأ بعينيك وحروفك الأخرى.. ولم تعد تحمل يديك وراءك، إلا أن الذين يشاهدونك اليوم من جديد أمامهم لم يعرفوا مكان يديك!

عزيزي حنظلة
عندما تمليت في ملامح وجهك استبشرت خيراً بطلعتك، رغم أن معاينتي المتواصلة للأوضاع الفلسطينية في الأرض المحتلة، وتحولات الإسناد العربي للمشروع الوطني التحرري الفلسطيني، عرفت وتعرف في السنوات الأخيرة تراجعات لا مثيل لها إلا في زمن الهزائم، وكذا في الأزمنة التي تُراوح فيه القضية مكانها جامدةً ومنتظرةً عدالةً لا يجود بها التاريخ أبداً.. فقد أغلقت القضية قبل سنوات قرناً كاملاً، إذا ما أرخنا لميلادها بوعد بلفور المعلن سنة 1917، الوعد الذي منح اليهود وطناً بعد أن اقتلع منه أهله، وتَمَّ ذلك في سياق ملابسات سياسية مرتبطة بأنماط من الصراع الأوروبي والصراع الأوروبي العربي، زمن المشروع الإمبريالي الاستعماري كما خططت له القِوى الأوروبية زمن صعودها التاريخي.. التفتَّ اليوم لترى ما كنت تسمع وما كنت تراه دون أن نراك، فلماذا التفت الآن، بعد أن استأنسنا عقوداً بوقفتك الغاضبة وبأيديك المجموعة وراء ظهرك.. لا تريد أن تجيبني عن سؤالي.. تبتعد عني، أعيد طرح السؤال ولا أنتظر جواباً..
استيقظت منزعجاً، وأنا أتأمل صورتك الجديدة كما تمثلتها في ذاكرة النوم، وحملت كتاب رسومك الذي وضعتُه قبل النوم بجوار سريري، فوجدت أنه يواصل سرد ملحمتنا.. ويروي جوانب من معاناتنا.. وجدته كما عرفته شاهداً على الجروح الدامية في أرض فلسطين، وجدته يتغنَّى بطريقته المعهودة، حيث لا شيء تغير.. وحيث الحلم بالعودة واستكمال التحرير، لا يزال أفقاً مرسوماً أمام الفلسطينيين والعرب، أمام شباب العرب الذين يعانقون تطلعاتهم في التحرر والتقدم والتصدي للغزاة القدامى والجُدُد.. هل كان حنظلة مجرد طفل حالم؟ إنه يبلغ من العمر اليوم ما يقرب أو ما يزيد قليلاً عن ستين سنة. فكيف ستستأنف معاركك؟

عزيزي حنظلة
أعرف أن قضيتك اليوم تتمثل في الانقسام الفلسطيني، في ضبابية وغياب الملامح الكبرى للمشروع الوطني التحرري في فلسطين، قضيتك الكبرى تتمثل أيضاً، في تزايد عدد المطبعين واستهتارهم بقيم العروبة والتقدم، فكيف تواجه كل هذا؟ وكيف يمكنك بناء الطريق المفضي إلى إعادة تفجير طاقات الشعب الفلسطيني المكلوم والمهزوم، وقد نزلت بأرضه وسمائه الصواعق والمتفجرات، لتحطم آماله الكبرى في الاستقلال والتحرير وعودة اللاجئين وحفدتهم إلى أرض الأجداد.. أعرف أنك لا تحب البكائيات، اسمح لي أن أتوقف هنا لأتابع مواصلاتك لنضالاتك من أجل فلسطين..


الكاتب : كمال عبد اللطيف

  

بتاريخ : 04/12/2020