حوارات في الدين والحداثة والعلمانية -20- المفكِّر الفرنسي إدغار موران (2)

ينقصنا الحد الأدنى من التنظيم النفسي

بدا المفكر الفرنسي إدغار موران في هذا الحوار كما لو كان يبحث عن منفسح إضافي لنقد العيوب المروِّعة التي أصابت الفكر الغربي بالصميم في زمن العولمة. يتركز هذا الحوار الذي أجراه معه الباحث لورانس بارانسكي على مسارات التفكير في أوروبا على الخصوص والغرب عموماً، هذا إلى جانب الملاحظات التي قدمها موران حيال جوانب شتّى، و لا سيما الجانب المتصل بإصلاح الفكر بوجهيه الاجتماعي والذاتي.

لورانس بارانسكي: كيف تُدرِك حضارتنا اليوم هذه المسألة، في رأيك؟

إدغار موران: أحد عناصر الأزمة الذهنية أو الأخلاقية للغرب تأتي من واقع أن أشخاصاً، في أمكنة مختلفة، شعروا بهذا الفراغ في دواخلهم، هذا النقص في الصلات كائن بين أذهانهم وكينونتهم؛ أي أجسادهم. الإضاءة التي حملتها أطروحة فريدريك لونوار F. Lenoir حول دخول البوذية إلى الغرب مفيدة كثيراً في هذا الشأن، في حين أن البوذية في الشرق تعني إرادة إقصاء “الأنا” الخاص، محقة بطريقة تدخل (المرء) في تلك الحال التي تسمى “النيرفانا”nirvana (، من خلال تدمير “الأنا – الذات”، أما المقاربة البوذية للغربيين فتهدف -خلاف ذلك- إلى نماء “الأنا – الذات” نفسها، وليس “الأنا الأنانية” بالتأكيد، ولكن “الذات الفاعلة ”moi sujet ونرى هنا ظهور مسألة جوهرية: تصور الفاعلsujet ، وهذا التصور مفتقد في الغرب، وأنا حاولت من خلال إعمال النظر والكتابة تأسيسه.
ماذا يعني “الكائن الفاعل؟” يتميّز الفاعل بمبدأ التضمينinclusion ، وبمبدأ الإقصاءexclusion. هذا الأخير، يعبر عن واقع أن أحداً لا يستطيع أن يقول “أنا” بدلاً مني، ولا حتى شقيقي التوءم. يتعلق الأمر هنا بأنوية ذاتية، لأني أضع نفسي في قلب عالمي لأنظر اليه وأتدبره. ومع ذلك، لا يقود هذا إلى الأنوية الذاتية، لأن الفاعل يستجيب في الوقت نفسه لمبدأ التضمين: وهذا يتيح لنا تضمين من يخصنا (الزوج، العائلة، الوطن)، وأن نكون على علاقة معهم، بسلوكات أنانية أو غيرية، بهذا القدر أو ذاك، وهكذا يرى الفاعل نفسه منشطراً بفعل هذا المبدأ الثنائي للذاتية.
والأمر هكذا، لا تكمن المشكلة في نفي «الأنا» أو في التسامي بها، ولكن في منحها معنى، القوة، والمسؤولية في امتلاك سلطة الانفتاح الذاتي والنظر إلى مبدأ التضمين الخاص بها في كًليته.
لم يعد الوعي اليوم عائلياً أو وطنياً أو ثقافياً، بل كوكبياً، وترقيته مسألة حيوية، ونعود هنا إلى فكرة ضرورة وجود معرفة وثوقية، تتيح تضمين السيّاق الكلي، وليس ما يسود في أذهاننا المُشكلة بوساطة النظام التعليمي الحالي، الذي -بعامة- يأخذ في حالات قليلة بهذين الُبعدين. يجب علينا أن نُعيد أنفسنا إلى الكون، الذي نعرف أنه ذاهب نحو التبعثر والموت، والذي يشير الينا بموقعنا الصغير الهامشي والطرفي، ومعارفنا في هذا المجال تعزز هذه الفكرة القائلة بأن مسكننا هو الأرض. وهذا، يسوِّغ، بالنسبة لي، ما أسميته “إنجيل الضياعL’évangile de laPerdition فنحن ضائعون على هذه الأرض، في الكون، فلنساعد بعضنا بعضاً إذاً، عوضاً عن صنع حرب بعضنا على بعضنا الآخر. وهو خلاف “الإنجيل” الذي يقول لنا إن خلاصنا مرتبط بكوننا “لطيفين” مع الآخرين. لا، علينا أن نكون “لطيفين” لأننا ضائعون! ولا مندوحة من إدراك سمة عصرنا الكوكبي، ولا يمكننا الامتناع عن واجب المعرفة هذا.

لورانس بارانسكي: أليس ذلك، بسبب أن “اللطافة”، هذا التبادل الدائري بين حب الذات وحب الآخرين، هو ما يحمل فرحاً أكثر إلى كل واحد والى الكل، والباقي يبقى سراً…

إدغار موران: بالتأكيد، هذا محتوى فيما قلته، ولكنك محق في الإشارة اليه. وبطريقة متصلة مباشرة، علينا ترقية “أتيقا الفهم” une éthique de la compréhension على المستوى الدولي، علينا أن نفهم طقوس الآخرين وأعرافهم. ومن المدهش استنتاج مدى صعوبة فهم أنفسنا بالانتقال من نموذج إرشادي paradigme إلى آخر، من نظام ديني إلى آخر. مع أنه يجب علينا أن نفهم بعضنا، ولهذا الغرض على كل واحد منا، بذل جهد تعاطف بإزاء الآخر «المختلف عنا». وفي المنطق الثلاثي، فإن “أتيقا الفهم” هي أيضاً ثلاثية، تتميز بأبعاد ثلاثة: أتيقا للذات، ونحو الذات، وتبعاً للذات. أتيقا للمجتمع لا تتحقق إلا في الديموقراطية، مع حد أدنى من الحقوق والواجبات، واليوم، أتيقا للجنس البشري تجد أصلها في شروط المتحد ذي المصير الكوكبي.
ما هو خطير، على ما يبدو لي، والذي يؤشر إلى قصور مجتمعاتنا، تناقص الفهم لصالح الفردانية، والأنوية الذاتية، وللعوامل التي أفسدت وجوه التضامن. اليوم، يتزايد عدم الفهم، لم نعد نفهم بعضنا حتى داخل العائلة نفسها، وفي الوسط المهني نفسه، وفي المجموعة نفسها (لا سيّما مجموعات المثقفين التي تتفلت في داخلها الأنويات المركزية بشدة(، وفي الجامعة نفسها. وما هو مؤلم ومخيّب للآمال، أننا نحوز أدوات فك ألغاز المسائل النفسية وآلالتها، ما يتيح فهم هذه الظواهر، ومع ذلك نتابع ما نحن فيه.
كيف يمكن التفكير في تحسين العلاقات البشرية على المستوى الاجتماعي، والمستوى
الكوكبي، إذا كنا عاجزين عن فعل ذلك على المستوى الفردي؟ ينقصنا الحد الأدنى من التنظيم النفسي، ولهذا فإن حياتنا يُكدِرها عدم الفهم المتبادل، والكراهية. وعلى أتيقا الفهم أن تؤدي هنا دوراً كبيراً، ومن الطبيعي حاجتها لأدوات، وهذا يفترض تدريباً داخل العائلة، ولا سيّما في المدرسة، الممر الإجبار ي للكل، بما في ذلك مُدرّسو المستقبل.


الكاتب : أجرى الحوار: لورانس بارنسكي تر جمة: د. عفيف عثمان

  

بتاريخ : 14/04/2023