حوارات ولقاءات مع بيير بورديو – 14 – من القاعدة إلى الاستراتيجيات 6/4

بعد وفاة بيير بورديو، نعتْه الأخبار اللبنانية – من بين منابر أخرى في العالم، أكثرها عددا من أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط – في مقالة تحت عنوان « ببير بورديو شاهدا على بؤس العالم» واصفة إياه ب «العالم المناضل الذي هجر الفلسفة وفخامتها الخادعة»، كما يقول هو نفسه. واعتبرته « لوموند» من زعماء حركة مناهضة العولمة ومن أشد منتقدي الرأسمالية. فعلا، ففي نص بعنوان «لأجل معرفة ملتزمة»، نشرته «لوموند ديبلوماتيك» عدد فبراير 2002، أياما قليلة بعد وفاته، يقول الباحث وعالم الاجتماع الفرنسي، بيير بورديو، إنه «ضروري في أيامنا هذه أن يلتزم الباحثون المستقلون بالحراك الاجتماعي وخصوصا في مواجهة سياسة العولمة»؛ وقد كان، بالفعل، حاضرا وبقوة في الأنشطةالسياسية شملت مؤلفات بورديو موضوعات الثقافة والأدب، و الفنون و السياسة والتعليم و الإعلام وموضوعات دعم كفاح الطبقة العاملة و المعطلين، ما جعله نقطة ارتكاز فكري لليساريين.
إلا أنه تميز أكثر باشتغاله في مجال السوسيولوجيا (من بين مؤلفاته في المجال ” أسئلة في السوسيولوجيا “، 1981)، حيث يرى البعض أن أعماله تجديد للنظريات السابقة. نقف، مثلا، على مفهوم ماركس فيبر عن أهمية القيمة الرمزية لشرعية كل سيطرة في الحياة الاجتماعية. كما طور مفهوم رأس المال انطلاقا من نظرية ماركس لتنطبق على النشاطات الاجتماعية و ليس على الاقتصاد فقط. نجد، أيضا، في نظرية بورديو حتمية إميل دوركهايم، وبنيوية ليفي ستراوس، وإلى جانب علماء الاجتماع الذين أثروا فيه، نجد فلاسفة تركوا بصمتهم في أعماله مثل هسزل وفيتغنستاين، كما تأثر بباسكال واعتبر نفسه في كتابه ” تأملات باسكالية “(1972) ” باسكالي الهوى”.
كل ذلك، إلا أن إطلالاته الإعلامية عرّضته لحملات قاسية بسبب انتقاده دور الإعلام وتوجهاته التي لا تتسع للنقد، بل تسهم في قولبة الوعي حسب النمط المهيمن والقيم السائدة.
لتقريب القارئ من عوالم بيير بورديو، الغزيرة و المقلقة، نقترح هنا ترجمة لسلسلة من حواراته ولقاءاته.

 

n بحديثكم عن العائلة واسترتيجيها، ألا تطرحون كمسلمة تجانس هذه المجموعة، تجانس مصالحها، ثم أ لا تتجاهلون التوترات والصراعات المرتبطة بالحياة المشتركة مثلا؟

pp بالعكس، إن الاسترتيجيات الزواجية تترتب في الغالب عن علاقات القوة داخل مجموعة المنزل و لا يمكن فهم هذه العلاقات إلا باستحضار تاريخ المجموعة وبوجه خاص تاريخ الزيجات الداخلية. في القبايل، مثلا، تنزع المرأة، حين تأتي من الخارج، إلى تقوية موقعها بالسعي إلى إيجاد استفادة داخل سلالتها وتكون لها حظوظ نجاح كلما كانت سلالتها ذات حظوة. بإمكان الصراع بين الزوج و الزوجة أن يتم بواسطة الحماة المتداخلة. يمكن أن تكون للزوج أيضا مصلحة في تقوية تماسك السلالة، بزواج داخلي. بإيجاز، عن طريق علاقة القوة التزامنية هذه بين أفراد العائلة، فإن تاريخ السلالات، ولا سيما كل الزيجات السابقة، يتدخل بمناسبة كل زواج جديد.
هذا النموذج النظري له قيمة عامة جدا وهو ضروري، مثلا، لفهم الاستراتيجيات التربوية للعائلات أو، في مجال آخر، استراتيجياتها في الاستثمار أو الادخار. لاحظت مونيك دوسان مارتان داخل الارستقراطية الفرنسية الكبيرة استراتيجيات زواجية شبيهة تماما بالاستراتيجيات التي كنت لاحظتها عند البدويين البيارنيين. ليس الزواج تلك العملية الحريصة والتجريدية المبنية فقط على تطبيق قواعد علاقة القرابة والتحالف، التي يصفها التقليد البنيوي، بل هي فعل يدمج مجموع الضرورات المرتبطة بموقع في البنية الاجتماعية، أي في حالة اللعبة الاجتماعية، بفعل الفضيلة التركيبية لحس لعب «المفاوضين». إن العلاقات التي تُربط بين العائلات بمناسبة الزيجات صعبة ومهمة بحيث أن مفاوضات دبلوماسيينا المصقولين أكثر، وقراءة سان سيمون أو بروست تهيء بالتأكيد لفهم الديبلوماسية الماهرة للبدويين القبايليين أو البيارنيين أحسن من قراءة «ملاحظات و استفسارات حول الانتربولوجيا» (2). لكن قراء بروست أو سان سيمون ليسوا مهيئين ايضا للتعرف على ماركيز دونوربوا أو الدوق دوبري في بدوي ذي سمات خشنة ونبرة فظة وفي جبلي، سوى على السياجات التي نحيطه بها؛ سياجات الإثنولوجيا، تدفع إلى اعتباره، شئنا أو أبينا، آخر على نحو جدري، أي باعتباره بربريا…

n لم تعد الإثنولوجيا فعلا تتناول لا البدويين ولا أي شخص آخر باعتباره «بربريا»، في اعتقادي. إضافة إلى أنه من المرجح أن التطورات التي عرفتها سواء حول فرنسا أو أوروبا لا تزال تساهم في تغيير النظرة التي تُلقيها على المجتمعات.

pp أعي جيدا أنني أشدد اللهجة. إلا أنني أتمسك مع ذلك بأن هناك شيئا فاسدا في وجود الإثنولوجيا كعلم منفصل وكوننا نجازف بأن نتقبل، عبر هذا الفصل، كل ما كان مندرجا في التقسيم الأساسي الذي تحدرت منه والذي يتأبد، أعتقد أنني بينت ذلك، في مناهجها (مثلا، لماذا كل هذه المقاومة للإحصائيات؟) وبوجه خاص في أنماط تفكيرها: مثلا، رفض التمركز حول الذات الذي يمنع الإثنولوجي من أن يربط علاقة بين ما يلاحظه وتجاربه الخاصة – كما فعلت قبل قليل وأنا أقرب التصنيفية المندرجة في فعل شعائري وتلك التي ندرجها في إدراكنا للعالم الاجتماعي – تُفضي، في هيئة احترام، إلى إقامة مسافة يتعذر تجاوزها، مثلما كان الأمر خلال عهد «العقلية البدائية» الجميل. ويمكن أن تكون لذلك قيمة كذلك حين نُمارِس «إثنولوجيا» البدو أو العمال.

n لكي نعود إلى الاستراتيجيات الزواجية، تقصدون أن مجموع بنية وتاريخ اللعبة حاضرين، بواسطة «هابيتوس» الفاعلين وحس اللعب عندهم، في كل واحد من الزيجات التي تترتب عن مواجهة استراتيجياتها.

pp بالضبط. بينت، في حالة القبايل، كيف أن الزيجات الأكثر صعوبة، الأكثر حظوة بالتالي، تعبئ مجموع الجماعتين الحاضرتين وتاريخ معاملاتهما السابقة، الزواجية أو غيرها، بحيث أنه لا يمكننا فهمها إلا شريطة معرفة حصيلة مبادلاتها في وقت معين وكذلك، بالـتأكيد، كل ما يحدد موقع الجماعتين في توزيع رأس المال الاقتصادي والرمزي أيضا. والمفاوضون الكبار هم الذين يعرفون كيف يحققون أكبر استفادة من ذلك كله. إلا أن ذلك، قد يقول البعض، لا يكون ساريا إلا طالما كان الزواج قضية عائلات.

n نعم، بإمكاننا التساؤل إذا لم يكن الأمر نفسه ينطبق على مجتمعات كمجتمعنا حيث «يترك اختيار شريك الحياة» ظاهريا لحرية اختيار المعنيين.

pp فعلا، إن غض طرف السوق الحرة يخفي ضرورات. أثبتت ذلك في حالة بيارن وأنا أحلل الانتقال من نظام زواجي ذي نمط مخطط له إلى السوق الحرة التي نجدها مجسدة في الحفل الراقص. إن الرجوع إلى مفهوم «الهابيتوس» يفرض نفسه في هذه الحالة أكثر من أي وقت مضى: فعلا، كيف يمكن أن نفسر بطريقة مغايرة الزواج المتكافئ الذي نلاحظه رغم كل شيء؟ هناك بالتأكيد مجموع التقنيات الاجتماعية الهادفة إلى الحد من حقل الاعتقادات الممكنة، بنوع من الحمائية: سباقات «الرالي»، الحفلات الراقصة الانتقائية، اللقاءات الاجتماعية، والتقارب العفوي (المعاش كنوع من التعاطف) الذي يقرب الوكلاء المتمتعين ب «الهابيتوس» أو بأذواق متشابهة، ناتجة إذن عن شروط أو عن تكييفات اجتماعية متشابهة. كذلك بوجود تأثير الإغلاق المرتبط بوجود جماعات متجانسة اجتماعيا وثقافيا كجماعات الزملاء (أقسام الثانوي، شعب الكليات، إلخ)، المسؤولة، اليوم، عن جزء كبير من الزيجات أو من الروابط والتي تدين هي نفسها بالشيء الكثير لتأثير قرابة أوجه «الهابيتوس» (لا سيما في عمليات الانتقاء).
لقد بينت بشكل مفصل، في «التمايز»، بأن الحب يمكن وصفه كذلك باعتباره شكلا للحب القدري: أن نحب معناه دائما، تقريبا، أننا نحب في الغير تحققا آخر لقدرنا الاجتماعي الخاص بنا. تعلمت هذا و أنا أدرس الزيجات البيارنية.


الكاتب : n ترجمة: سعيد رباعي إلى روح محمد جسوس

  

بتاريخ : 29/04/2021