حوار مع الباحث الأكاديمي د. عبد المالك أشهبون :  ليست هناك أيقونات وعلامات أو نصوص صماء وأخرى ناطقة 

 

الفائز بجائزة كتارا للدراسات النقدية صنف الرواية دورة 2020

 

ــــ الأستاذ الناقد د عبد المالك أشهبون، فزتم مؤخرا بجائزة كتارا للرواية العربية، فئة الدراسات النقدية غير المنشورة: هل يمكنكم اطلاع قارئ الجريدة على فحوى هذه الجائزة؟ وفي أي سياق تأتي؟

في البداية، وجب التذكير بان جائزة كتارا للرواية العربية هي جائزة سنوية أطلقتها المؤسسة العامة للحي الثقافي ـــــ كتارا في بداية عام 2014، وتقوم المؤسسة بإدارتها وتوفير الدعم والمساندة والإشراف عليها بصورة كاملة من خلال لجنة لإدارة الجائزة تم تعيينها لهذا الغرض. وتهدف الجائزة إلى ترسيخ حضور الروايات العربية المتميزة عربياً وعالمياً، وإلى تشجيع وتقدير الروائيين العرب المبدعين للمضي قدماً نحو آفاق أرحب للإبداع والتميز، مما سيؤدي إلى رفع مستوى الاهتمام والإقبال على قراءة الرواية العربية وزيادة الوعي الثقافي والمعرفي.

ومن الخصال الحميدة التي تميزت بها الجائزة إلى جانب المكافأة المادية، وخصوصا في مجال الرواية بصنفيها المخطوطة والمطبوعة، هي أنها تعمل على ترجمة العمل إلى اللغتين الفرنسية وإلى الإنجليزية، وبالتالي تفتح للإبداع العربي نوافذ جديد، وآفاقا قرائية ترتقي بالعمل الروائي من بعده المحلي والوطني والقومي إلى بعده العالمي من خلال عامل الترجمة.

ولقد خضنا ـــ بدعم وتشجيع وتحفيز من كثير من أصدقائنا وصديقاتنا ـــ مغامرة المشاركة في هذه المسابقة السنوية، وكان هاجسنا الأساس هو أن المشاركة ـــــ في نهاية المطاف ــــ ستكسبنا كتابا جديدا في نهاية السنة، سواء فاز المخطوط في المسابقة أو لم يفز. فكان هذا هو الرهان الذي حمَّسنا للمشاركة في هذه المسابقة التي بدا فيها التنافس شرسا بين المشاركين والمشاركات (75 مشاركا ومشاركة).

أما السؤال الأساس الذي طرحته علي الجائزة فهو: “ماذا سأكتب بعد فوزي بالجائزة؟” ، “وهل يمكن لي أن أتجاوز العمل الفائز بعملٍ ثانٍ يضيف ويؤسِّس لرؤية نقدية جديدة مثلا؟” وهل ما سأكتبه لاحقا سيشكل قيمة مضافة نوعية إلى ما هو رائج في المشهد النقدي العربي؟

هذه هي الأسئلة التي طوقت عنقي، وأنا أتلقى خبر فوزي بالجائزة التي كانت بالنسبة لي مغامرة محفوفة بالتوقعات والانتظارات… من هذا المنطلق أعتبر أن الجائزة مسؤولية يجب أن أتحملها لكي أكون في مستوى انتظارات القارئ العربي أولا، وأن أكون جديرا بقرار لجنة التحكيم التي اختارت عملنا في الدورة السادسة ثانيا، كما أنني ممنون لكل هؤلاء الذين شجعوني للمشاركة، ومن باركوا فوزي بعد إعلان النتائج، وهنأوني من كل ربوع وطننا العربي، أشكرهم جميعا واحدا واحدا على هذه تقديرهم لمجهوداتي في مجال النقد الأدبي عموما والروائي على وجه الخصوص.

ــــــ فوزكم بجائزة عربية مهمة في مجال الدراسات النقدية حول الرواية هل يعني عودة الاهتمام بالرواية بدال من الاهتمام بالشعر، إشارة إلى انكماش الشعرية العربية وتراجع الاهتمام بها خاصة مع غياب رموز القصيدة العربية المعاصرة؟.

على مدى العقود الثلاثة الأخيرة، يلاحظ أن هناك نقلة نوعية في المشهد الثقافي العربي، تجلى ذلك الانتشار الكبير لفن السرد عموماً، والرواية على وجه الخصوص، وساعد على ذلك أيضا تخصيص ندوات ومؤتمرات وجوائز هامة لهذا الفن، وهذا ما دفع الكثير من كتاب القصة والشعراء والمؤرخين والمفكرين والفلاسفة إلى ركوب موجة الكتابة الروائية، في ما يشبه هجرة جماعية إلى قارة الرواية، باعتبارها الفن الأكثر انفتاحا وديموقراطية ومرونة.

ولقد بلغ الاحتفاء بحال الرواية العربية حد اعتبارها أكثر من ديوان للعرب (على حد تعبير حنا مينه)، وأننا نعيش زمن الرواية بامتياز (على حد تعبير جابر عصفور)، حيث أصبحت الرواية تحتل الآن المساحات الفارغة التي يرى البعض أن الشعر والمسرح أخلاها، حتى أن الكثير من الشعراء تحولوا إلى الكتابة الروائية التي تشكل بالنسبة إليهم عالماً متسعاً، يقبل كل أشكال التشكيل والتجريب والتجديد. كما اعتبرها البعض الآخر أم فنون الحكي العربية، فهي قادرة على استيعاب كل فنون القول من شعر ونثر ومقامات وغيرها…غير أن هذا التقدير الجديد لفن الرواية لا يجب أن ينطلق من تصور مفاده أن هذا الفن أحسن من ذاك. فهذا المنطق التفاضلي بين الأجناس الأدبية مرفوض؛ لأن لكل جنس أدبي محبوه، سواء على مستوى الكتابة أو التلقي. ربما هذا النزعة التفاضلية هي التي سادت في الثقافة العربية القديمة، والتي بموجبها كان للشعر المنزلة الرفيعة، وهذا التصور الضيق عمل على إقصاء فنون السرد الأخرى، لا لشيء إلا لأننا “أمة الشعر”، وبالتالي ضاع الكثير من رأسمالنا الرمزي من السرديات…وهذا الأمر مأسوف عليه اليوم، لأننا سنكتشف بأن الخزانة العربية السردية غنية جدا وعامرة وغامرة، لكن الانشغال بها كان باهتا مقابل الانشغال الكلي بالشعر…

ـــــ في دراساتكم للمتن الروائي العربي يلاحظ المتتبع لأعمالكم تركيزكم على بعض مكونات النص الروائي من قبيل: العتبات والبدايات والنهايات، فهل تتهيبون الدخول الى متن النص الروائي أم أن الأمر لا يعدو أن يكون فقط منحى في الكتابة النقدية تتميزون به؟

مما لا شك فيه أن موضوع العتبات كان رائجا في النقد العربي عموما والمغربي على وجه الخصوص، في نهاية ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، لكن جدة كتابنا “عتبات الكتابة في الرواية العربية”(دار الحوار(الطبعة الأولى(2009))، ودار رؤية (2016 طبعة مزيدة ومنقحة) تكمن في كونه الكتاب الأول الذي كرس نفسه من البداية إلى النهاية لمقاربة عتبات الكتابة في الرواية العربية بدراسة معمقة ومتخصصة، في حين كنا نجد ــــ بين الفينة والأخرى ـــ مقالات في مجلات أو فصولا من كتب نقدية، تتطرق إلى عتبة من العتبات دون أن توفيها حقها من الدرس والتحليل، ثم ما تلبث أن تنتقل من العتبة إلى النص/ العمدة. كما أن العديد من العتبات لم تكن مطروقة في نقدنا العربي، ومنها عتبة الإهداء، وخطاب التنبيهات، وصورة الغلاف… وبخصوص عتبة صورة الغلاف سنجد أن جيرار جينيت نفسه في كتابه الرائد “عتبات” Seuils”(1987)، يعترف بأن كتابه هذا اعترته مجموعة من الثغرات والنواقص؛ لأنه لم يشمل مجموعة أخرى من العتبات التي تركها جانباً، لأسباب معرفية وتقنية. ومن هذه النصوص/ العتبات يذكر الترجمة Traduction، والنشر عبر حلقات  Publication en feuilleton، وأخيرا الرسومات والصور التوضيحية Illustrations، حيث اعتبر هذه الأخيرة بمثابة قارة هائلة ينبغي إيلاؤها الاهتمام الذي يناسب غناها وثراءها. هكذا تفاعلنا مع هذا الاقتراح الجينيتي (نسبة إلى جينيت)، وعكفنا على مقاربة هذا الموضوع (صورة الغلاف) الذي لا ننكر مدى الصعوبات التي واجهتنا ونحن بصدد الكتابة فيه، حيث قاربنا صورة الغلاف في الرواية العربية من خلال عقد مقارنة بين ما هي عليه في الرواية العربية ذات الحساسية التقليدية التي يمثلها نجيب محفوظ (صاحب صور الأغلفة هو الفنان القدير جمال قطب)، وروايات الحساسية الجديدة ممثلة في روايات إدوار الخراط (صاحب صور الأغلفة هو الفنان التشكيلي المعروف عدلي رزق الله). فكل غلاف روائي يعبر عن نفسه، عبر استعمال شفرة محددة، تنتمي لثقافة بصرية معطاة سلفاً (على شكل حساسيات فنية)، تأخذ لها موقعا هاماً على مفترق الطريق بين اللساني والأيقوني.

المهم هو أنني لم أترك عنصرا من العناصر الأساسية في خطاب العتبات إلا واستهدفته بالبحث والدرس والتحليل؛ لأنني أعتبر أنه لا شيء محايد في الرواية، وليست هناك أيقونات وعلامات أو نصوص صماء وأخرى ناطقة، فكل ما في الرواية ـــ سواء كان هامشيا أو مركزيا ـــ يخدم استراتيجية الكتابة من منظور الكاتب، أو من منظور الاتجاه الجمالي الذي ينتمي إليه الروائي في النهاية، هكذا بدأت بأصغر مكون في الرواية ألا وهو اسم المؤلف وضمنته كتابي: “الحساسية الجديدة في الرواية العربية… ” (2010)، فيما أفردت لعتبة العنوان كتابا شاملا هو “العنوان في الرواية العربية” (2011)، تتبعت فيه عناوين الرواية العربية من بداياتها حتى عناوين الروايات الجديدة، مرورا بصورة الغلاف والإهداء الخطاب التقديمي والنصوص التنبيهية والتوجيهية (“عتبات الكتابة في الرواية العربية”)، وصولا إلى دراسة مكوني: بدايات الرواية ونهايتها (كتاب “البداية والنهاية في الرواية العربية” (2013 ))…وهو من المواضيع الطريفة والمستجدة في نقدنا العربي… وأستطيع أن أزعم ـــــ بعد سلسلة الإصدارات المتواضعة في مجال الرواية ــــ أنني حاولت أن أكون ملما بأبرز وأهم المداميك التي ينهض عليها الفن الروائي، الذي بات يكرس نفسه ديوانا للعرب، سواء على صعيد الإنتاج أو التلقي.

ــــ كيف ترون مستقبل الكتابة الروائية في سياق التحولات الرقمية الحديثة؟

صحيح أن الرواية العربية ــــ راهنا ــــ تمر بمخاض عسير، نتيجة جملة من المتغيرات المجتمعية، وعلى الخصوص الطفرة الرقمية التي حدثت في العالم، لذلك فإن مستقبل فن الرواية يظل غامضا، رغم أن وطننا العربي يصنف من المجتمعات المتخلفة على ركب التكنولوجيا.

وهنا أستحضر قولة للروائي والقاص التونسي إبراهيم درغوتي الذي يؤكد فيها على أن دول العالم الراقي ستودع عالم الرواية؛ «لأن الصورة هي التي ستسود العالم خلال القرون القادمة ولن يبقى للكلمة المكتوبة هذا الطغيان المقدس. سيكون «الفيلم» التسجيلي واللقطة المشهدية ونشرات الأخبار المصورة على أجهزة التلفاز. وغرائب الأنترنيت فنون المستقبل التي ستجعل أحفادنا ينظرون إلى «الرواية» نظرتنا الحالية إلى «الخرافة» و«والأسطورة» و«المقامة» (إبراهيم درغوثي: “بدون حرية لا يمكن للكاتب أن يبدع نصاً”، حاوره: كمال الرياحي، في: “كتاب عمان (1): حوارات ثقافية في الرواية والنقد والقصة والفكر والفلسفة”، (بدون تاريخ النشر)، ص:167).

تفضي بنا المعطيات السابقة إلى أن فن الرواية سيظل متربعا عرش الأجناس الأدبية في العقدين المقبلين على أبعد تقدير، لكن ارتفاع وتيرة الحياة المتسارعة، وإقبال المتلقي على وسائل التواصل الاجتماعي التي شكلت وتشكل منافسا شرسا لفن الرواية، ونفور المتلقي من بعض الروايات الطويلة، كلها عناصر لا تمكننا من ممارسة ترف قراءة الرواية على نطاق واسع، لذا فإن الرواية ستظل موضع اهتمام شريحة معينة من المثقفين المهتمين بهذا اللون الأدبي، أما القطاعات العريضة الأخرى التي تنشد المتعة والتسلية، فلن تجد في الرواية المعاصرة بتقنياتها المعقدة ورؤاها العميقة، ضالتها.

 


الكاتب : أنجز الحوار: د مصطفى شميعة

  

بتاريخ : 17/11/2020