حين نظل على أهبة حكي ممكن

“ هكذا كانت دروب بلدتي “. هي عبارة الختم التي انهى بها الراوي مكتوبه، وأبدأ :
هكذا بدت لي العروة الوثقى عبر مشهد بصري على الاقل، قبل أن يستقر ويستقيم في الادراك وما يلي ذلك من تأويل وتفسير .
إنها عربة اسْ الطاهر. عربة بدائية حقا. بعجلتين كبيرتين تفوقان حاجتها في الوزن والسرعة. بمقصورة يفوق عمقها المتر ونصف المتر ، مربعة الشكل بل مكعبته، حديدية الإطار . في ذهابه إلى المدينة كان الطاهر يشد رصن الحمار مسافة الساعتين. الحمار أشهب دون البغل. بينما في إيابه وبعد ملء العربة بأغراض الناس المتنوعة ، كان يوكل للأشهب أخذ الطريق بينما يضع يده على إحدى أخر زاويتي المكعب كأنه يدعم الدابة في تقدمها . في المقصورة كانت حاجات الناس من طحين وزيت إلى سواك وتبغ.. نسأله لم هذه العجلات الكبيرة ؟ لئلا توقفني حواجز الطريق، يرد الطاهر .. ثم نسأله : ولم لا تغير الحمار ؟ ولم أغير مطية الأولياء؟ يستنكر على إيقاع الأشهب.
في الكاتب رابحي شيء من اسْ الطاهر وفي المقصورة اشياء العروة.
أجل، في العروة الوثقى في أخبار الحمقى أكاد ارى عربة اسْ الطاهرفيغدوها ورواحها لفك الخصاص القاهر المهيمن علي ناس وساكنة البلدة. غير أن هذه المرة تكون مقصورة الرابحي مليئة بجماجم وأفئذة من شرّعوا لهذه الحياة كي تكون حياة : باشلار، زولا، بلانشو، السياب، إدوار مانش، بروطون، أبو ماضي، رامبو،دو نيرفال، Sénèque، أرسطو، تزارا،ماري نويل، بيكيت، فلوبير و أخرون.. تماما كما اسْ الطاهر ، يدأب رابحي على إخراج الترياق من مقصورته من هذه الجمجمة أو من هذا الفؤاذ، لكل من شعر بضيق أو مأزق في الفهم أو التأويل عند كل مقام من مقامات السادة الأخرين الحمقى:
ففي مقام السيدة بيبيش، سيدة الجسد الصلصالي المغري والموشوم قنافد، وحين يستوقف القارئَ استفهامُ الساردِ: أم أن عين الفراغ كبيرة يسكنها دوما دمع الارتياب؟ تلفي رابحي يمدك بترياق من فؤاذ اليا أبو ماض.
وفي مقام الزعيم حيث يقف القارئ على سؤال السارد : من أنت يا بوعبيد؟ ولأن بوعبيد أو الزعيم كانت له فراسة ثاقبة لا تعني إلا خاصة الخاصة، شَخصَ سؤال الهوية حجرا بيد بوعبيد لا محالة يكسر زجاجا ما .. يعود رابحي الى الجهة الخلفية من العربة ومن فؤاذ جرار دو نيرفال يدس بعض الترياق ثم يهش على أشهب الحكي وهو يضع يده على زاوية خلفية من العربة.
في مقام فاطنة لهبيلة التي تحول معها الصمت من غياب الجرس إلى غياب أثار الوجود من المدينة وكأنها لا حسّ تبقي وزقاق تقطع.. فجأة، يضعنا السرد وجها لوجه مع الصمت الصامت. يلتبس المشهد. يطفق رابحي ههنا يصب من جمجمة ارسطو بعض بلسم لدفع الشبهةوتبيان الافهام.
أما في مقام أدريس le fou، الذي عشق الأعالي حد الشهادة ، يقف الاستفهام أمام القارئ في شموخ وتحد:إلى متى سيظل هؤلاء المهووسين بامتلاك التوافه عاجزين عن فهم ما كان يريده ادريس؟ في هذا المطب أدرك رابحي أن بلسما فردا لا ينفع فطفق يصب قطرة من فؤاذ تزارا وقطرتين من فؤاذ باشلار. طبعا، لأن الأفهام لا تتجاوب إلا إذا كانت أطرافها من نفس الطين ، أما وقد صُنف ادريس ب le fou ففي ذلك بثر وقطع للفهم .
وفي مقام افريخ أو الحالم بالثوبة الموغلة في الامتلاء ولتكن النار سبيلا. يشخص سؤال من باب هل لنا أن نتطهر من أتام ندرك أننا لم نقترفها؟ههنا نلفي رابحي يمدنا بجرعة معتقة من فؤاد زولا وأخرى من جمجمة كافكا لربما تحمينا الوصفة من غيرية خارج المضمار.
أما في المقام الأخير حيث الزاهية بصرختها الحل والواجب، يستوقفنا الاستفهام : فمن يكون هذا الغائب / الحاضرباستمرار في الافئدة الخاشعة؟ كان رابحي يمدنا في هدوء، بكأس درويش ثم حرر الأشهب و عاد بنا إلى مقام الاستهلال ليسرٍّح جماجم وأفئدة حكماء القول بادئا كلامه : لم يحصل أن رأيت أحمقين يتجاذبان أطراف الحديث.
صحيح ما كان يرد به اسْ الطاهر حول الحمار أنه دابة الاولياء، ذلك لأن قطع المسافات لا يقتضي السرعة بالقدر الذي يقتضي الأمان، والتوأدة إحدى شروطالأمان. فلنثقل السير قليلا ونعود إلى صاحب العروة الوثقى لنفتح حوارا مشاعا من باب هل كان الامر ضرورة وأنت يا رابحي، في سفرك الخاص إلى طفولتك الخاصة وفي عربتك الخاصة أن تحتمي بكل هؤلاء الحكماء ؟ مم الخوف؟ هل منا نحن القراء الفضوليين والمشككين؟ هل من أشباح قبيلة ببيش والزعيم وادريس والاخرين؟ أم من هشاشة لا زالت تجوفك ؟ تلك الهشاشة التي قد تخونك وأنت تسترجع بيبيشفتجتاز الحجاب بغية استكمال الجزء الناقص في معرفة قنافذها.. بغية استكناهاشراقات الزعيم .. بغية معاندة صمت لهبيلة ، أوأن تنزل رأس لتفهم أنت سلوك ومراد ادريس أو لتصحب افريخ في ثوبته الموغلة في الامتلاء..؟؟؟؟ أجل، ربما اصطحبت جماجم وأفئدة أولائك لتكون طوق نجاتك للافلاة من غواية هؤلاء.أجل، فحتى العبارة التي ختمت بها هذه المعمعة : «هكذا،كانت دروب بلدتي.» كانت تلويحة سلام للدروب وليس لهؤلاء المخطوفين. تريد بذلك أن توهمنا بها أنك الان تنعم بالسلام، سلام العودة، سلام الخلاص، غير أنك لست كذلك، بيبيش والأخرون سيلازمونك ما دمت ترتكب فعل التذكر وسينتظرونك عند كل فجوة استرخاء. مهما غافلتنا بهندام»ca va» حين نستبينك :
comment ca va, mon ami?


الكاتب : المصطفى غزلاني

  

بتاريخ : 22/07/2022