خطورة الانتصار للسياسات النيوليبرالية في قطاع التعليم بالمغرب


تبنى النظام السياسي المغربي الليبرالية كنظام سياسي واقتصادي منذ فجر الاستقلال، وبالضبط لما تم إسقاط حكومة عبدالله إبراهيم في بداية الستينيات من القرن الماضي، ومعروف أن عقيدة الليبرالية تقوم على فكرة «خوصصة جميع القطاعات»، بما فيها القطاعات الاجتماعية، وعلى رأسها التعليم والصحة والشغل.
قد يتماشى النظام الليبرالي مع طبيعة الدول المتقدمة، على أساس أن معدل الدخل الشهري أو السنوي للأفراد فيها مرتفع جدا مقارنة بوضعية الأفراد في الدول المتخلفة أو السائرة في طريق النمو، كما هو الشأن بالنسبة للمغرب، حيث لا يزال الأفراد يعانون من استفحال ظاهرة الأمية والبطالة والهدر والرسوب المدرسي، ولذلك فتبني الليبرالية في ظل هذا الواقع لا يمكن إلا أن يعمق التفاوتات الاجتماعية والمجالية، ولعل هذا ما جعل محمد عابد الجابري يقول في خاتمة كتابه «أضواء على مشكل التعليم بالمغرب» الصادر في بداية السبعينيات من القرن الماضي أن: «الاشتراكية هي الحل الوحيد» الذي يتماشى مع طبيعة نظامنا السياسي، نظرا لحالاتنا التاريخية التي تتمثل في كوننا نُصنف ضمن «الدول السائرة في طريق النمو»، لأن الاشتراكية كنظام سياسي واقتصادي تقوم على فكرة «التوزيع العادل للثروة»، وكل فرد في هذا النظام يتلقى الأجر المناسب لمجهوده الفكري والبدني.
بالمغرب بدأ مسلسل خوصصة القطاعات الاجتماعية بهدف جعلها قطاعات منتجة وغير مكلفة لميزانية الدولة منذ الستينيات من القرن الماضي، وفي مختلف القطاعات الاجتماعية، ونحن في هذه المقالة سنقتصر فقط على مسلسل الخوصصة، الذي مسّ قطاع التعليم، وذلك عبر التركيز على أبرز لحظات خصخصة هذا القطاع، والتي تتجلى في:
-فرض سن محدد للولوج للمدرسة، -وإذا لم تخني الذاكرة-، كان قد حُدِد في سبع سنوات، بمعنى أنه لا يسمح لأي طفل تجاوز عمره هذا السن بالولوج للمدرسة والاستفادة من حقه في التعليم باعتباره حقا مقدسا.
-التحكم في قاعدة الخريجين، وذلك بتحديد نسبة النجاح في كل الأقسام والمسالك الدراسية، كاستراتيجية من الدولة للالتفاف على ظاهرة بطالة أصحاب الشواهد العليا.
-تشجيع أو إكراه التلاميذ على الولوج لمعاهد التكوين المهني، والشاهد على ذلك، أحداث 23 مارس 1965، التي جاءت ردا على المذكرة الوزارية المشؤومة، التي حددت سقف سن التمدرس في السلك الإعدادي في 18 سنة، أي كل تلميذ بلغ هذا السن، وهو لايزال يدرس بالسلك الإعدادي، إما يتم طرده، أو نقله إلى مؤسسات التكوين المهني.
-فرض رسوم التسجيل في مختلف المستويات الدراسية، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، أو الجمع بينهما في أغلب الأحيان، كمطالبة التلميذ والطالب بشراء وثائق ملف التسجيل.
-الرفع التدريجي في تكلفة رسوم التسجيل، إلى درجة أصبحت هذه الرسوم تشكل حجر عثرة أمام عدد كبير من أبناء الفقراء للاستفادة من حقهم المقدس في التعليم.
-الترخيص للمقاولات بخلق مؤسسات تعليمية، وتشجيعها ماديا والترويج لها إعلاميا، وإعطاء الأولوية لخريجيها في سوق الشغل، بل الولوج لأرقى المناصب في السلم الاجتماعي، في مقابل تهميش خريجي المدرسة العمومية، مما جعل العديد من الآباء وأولياء الأمور يتحملون مصاريف إضافية، لتسجيل أبنائهم في المدارس الخصوصية، وإن كانت تثقل كاهلهم، وتضيق الخناق عليهم، فالمهم هو الرهان على ضمان مستقبل يحفظ الحد الأدنى من كرامة أبنائهم.
الترخيص للجامعات العمومية بفتح تكوينات مدفوعة الأجر، على مستوى الإجازة والماستر والدكتوراه، مما سيساهم في المساس بقيمة وجودة الشواهد المسلمة من طرف هذه المؤسسات، فلا شيء يفهم من هذا الإجراء غير بيع الشواهد الجامعية، وبالموازاة مع ذلك بدأت بعض الجامعات المغربية في مسلسل مأسسة نظام البكالوريوس، وإن كان قد تم رفضه من طرف تيارات لها وزنها سواء في المجتمع أو في نقابة أساتذة التعليم العالي.
ثم ابتكار التوظيف بالتعاقد، الذي يكرس الهشاشة الاجتماعية، ولامتصاص غضب الشارع، وشرعنة هذا النمط من التوظيف، تم السماح في البداية للكل وبدون أي شروط لاجتياز المباراة، ولما شعر أصحاب القرار السياسي، أنه قد تمت مأسسة هذا النوع من التوظيف، انطلقوا في ابتكار ووضع شروط لا منطقية ولا ديمقراطية لاجتياز هذه المباريات، علما أن المجتمع في الأصل وبعض تنظيماته لاتزال متشبثة بإلغائه، والتنسيقية الوطنية للأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد أقوى مناهض له، إلى جانب الجمعية الوطنية للمعطلين، وأوط م، نقابة الطلبة المغاربة، وأحزاب ما كان يدعى قبل الانتخابات الأخيرة بفدرالية اليسار الديمقراطي، وبعض المكونات المدنية والسياسية والنقابية الأخرى.
هذه الشروط الموغلة في الليبرالية، تعد مؤشرا بارزا على أن التوظيف بالتعاقد في قطاع التعليم بدأ يتمأسس، بالرغم من وجود قوى مجتمعية مناهضة له، وما يؤكد هذا المؤشر هو مطالبة بعض المحتجين حاليا في الشارع بتراجع الوزارة عن بعض معايير الانتقاء الأولي، أو إسقاطه كليا.
وبالتالي، فعوض أن يطالب المحتجون والرافضون لشروط الوزارة بالتوظيف المباشر كما كانت تطالب بذلك جمعية المعطلين، أو بإسقاط مرسوم التوظيف بالتعاقد، كما تطالب بذلك التنسيقية الوطنية للأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد، يطالبون فقط بحذف السن، أو لنقل حذف معايير الانتقاء الأولي، والسماح للجميع باجتياز المباراة كما جرت العادة في السنوات القليلة السابقة.
عموما، ومن الناحية المبدئية، من حق جميع المواطنين الولوج إلى سوق الشغل، وعلى الدولة أن تضمن هذا الحق الدستوري، كما عليها أن تحرص على مبدأ المساواة بين جميع المواطنين في الترشح لمباريات الوظيفة العمومية في مختلف القطاعات، فلا يعقل مثلا، أن يعفى خريجو الإجازة الأساسية في كلية التربية من شروط الانتقاء الأولي، ولا يستفيد نظراؤهم الذين لهم نفس التكوين أو أعمق في مجال مهن التربية والتدريس من هذا الامتياز، وخاصة خريجي ماستر «سوسيولوجيا التربية»، وماسترMétiers d’enseignement et de formationen Physique chimie، ومختبر اللغات والديداكتيك بالقنيطرة، وخريجي ماستر «سوسيولوجيا المدرسة» بمكناس، وخريجي الإجازات المهنية في جامعات ومراكز مغربية مختلفة، وغيرهم من الطلاب الذين تلقوا تكوينات خاصة حول مهن التربية والتدريس. فعلى أي أساس فضلت الوزارة خريجي كلية التربية على نظرائهم الآخرين؟ ونحن نجد أن الوزارة الوصية صادقت والتزمت في دفاتر تحملها على أن من منافذ هذه التكوينات، اجتياز مباريات المراكز الجهوية للتكوين في مهن التربية، مباشرة ودون انتقاء أولي. خاصة وأن ما يميز أصحاب هذه التكوينات عما تلقاه خريجو كلية التربية، هو أنها لا تخول لهم فقط ممارسة مهنة التدريس، بل ممارسة مهام التوجيه والإدارة. والأكثر من ذلك، أن الطلاب الذين يستطيعون حجز مقعد في هذه التكوينات يمرون بسلسلة طويلة ومعقدة من الاختبارات، والمتمثلة أساسا في الحصول على الإجازة بميزة، ثم مرحلة الانتقاء الأولي، تليها مباراة الاختبار الكتابي، وبعدها مباراة الاختبار الشفوي، ثم الدراسة لأزيد من سنتين، ويكونوا مطالبين خلال هذه المدة من التكوين، بالحضور الإجباري للدروس، وإعداد عروض وتقارير نظرية وميدانية حول بعض قضايا التدريس والتوجيه والإدارة، وفي نفس الآن هم مطالبون باجتياز اختبارين في السنة-الدورة الخريفية والدورة الربيعية- في أزيد من ست وحدات دراسية، والأمر لا ينتهي هنا بل إنهم مطالبون في نهاية التكوين بإعداد بحث التخرج، الذي يناقش أمام لجنة تتكون بالضرورة من أساتذة جامعيين مؤهلين، أو أساتذة التعليم العالي، وأكثر من ذلك خلال مدة التكوين هاته يكونون مطالبين بالحضور والتنظيم والمشاركة في التكوينات الموازية، والتي هي في الغالب عبارة عن ورشات تدريبية وأيام دراسية، وندوات فكرية كلها حول بعض قضايا مهن التربية والتدريس.
ما أود التأكيد عليه من الإشارات السابقة، أن خريجي كلية التربية الذين تم إعفاؤهم من الانتقاء الأولي، لم يتلقوا تكوينا متينا حول مهن التربية والتدريس كنظرائهم في التكوينات الأخرى، الذين أعطينا ملامح أولية عامة حول طبيعة وعمق التكوين الذي استفادوا منه. فخريجو كلية التربية، شأنهم في ذلك شأن باقي نظرائهم في مختلف الشعب والمسالك الدراسية بسلك الإجازة الأساسية، أي أنهم بعد حصولهم على البكالوريا، يسجلون بالجامعة ويتلقون الدروس بشكل طبيعي، ثم يجتازون الاختبارات من أجل استيفاء المواد أو الوحدات الدراسية.
إن استحضار مثال خريجي كلية التربية لا ينبغي أن يفهم منه، أننا ننتصر لخريجي التكوينات في مهن التربية والتدريس المشار إليها آنفا، وكذا الشأن بالنسبة للإجازات الأساسية الأخرى على حسابهم، بل إن استحضارهم هو فقط من أجل أن نقول للوزير: لماذا هذا التمييز بين الذين يُفترض أنهم تلقوا نفس التكوين حول مهن التربية والتدريس في الترشح لمباراة التعليم؟
أظن أن الوزير الوصي على القطاع، والذي لا يتقن سوى لغة وثقافة الثكنات العسكرية، إما أنه جاهل كليا بهذه التكوينات التي تقدمها بعض الجامعات والمراكز المغربية حول مهن التربية والتكوين منذ سنوات، فخريجوها يعدون بالألف، وتتخاطف عليهم الدول الخارجية، فإسبانيا مثلا، سنويا توظف 20 متخرجا من مختبر اللغات والديداكتيك. وإما أنه يعلم بها، ويتجاهلها عمدا، لأنه يريد إنجاح تجربة ما يسمى بكلية التربية.
وفي جميع الحالات، إن كان الوزير يجهل فعلا هذه التكوينات فهذه مصيبة، وإن كان يعلم بها ومع ذلك يتجاهلها، فالمصيبة أعظم، لأن هذا يوحي بالعقلية السلطوية التي قد تكون صالحة في الثكنات العسكرية، فهذه الأخيرة معروفة بعلاقتها العمودية بين موظفيها، وهذه العقلية لا تصلح أبدا ولا تتماشى مع قطاع التربية والتعليم.
إذن، بهذا القرار الجائر، والذي يمس بحق المساواة بين خريجي مهن التربية والتدريس وخريجي كلية التربية، يكون الوزير قد تورط في فضيحة سياسية وأخلاقية تكمن في التراجع عن التزام صادقت عليه الوزارة الوصية في إعفاء جميع الذين تلقوا تكوينا حول مهن التربية والتدريس من شروط الانتقاء الأولي، بل وعلى أساسه منحت الوزارة الاعتماد ولاتزال تمنحه إلى الآن في هذه التكوينات.
نؤكد أن مطالبتنا بالمساواة بين خريجي التكوينات حول مهن التربية والتدريس وخريجي كلية التربية، لا ينبغي أن يفهم منه فرض هذه الشروط على أصحاب الإجازات الأساسية الأخرى، وإنما إعفاؤهم من الانتقاء الأولي لكونهم تلقوا تكوينات نظرية وعملية خاصة بمهن التربية والتدريس، لأن مباراة التعليم في المغرب كانت دائما تَفرض هذا الانتقاء، لكن شروطه كانت تتغير إلى أن جاء محمد الوفا لوزارة التربية، فهو الذي ألغى الانتقاء الأولي كليا، وسمح لكل الذين يحملون شهادة الإجازة الأساسية بالترشح لمباراة التعليم دون قيد أوشرط، ونفس الشيء قام به الوزير سعيد أمزازي.
المهم، الحكومة المغربية حاولت مواكبة كل هذه الإجراءات النيوليبرالية في قطاع التعليم بمنظومة قانونية، آخرها قانون الإطار51.17، الذي يشكل الغطاء القانوني لهذه الإجراءات، كما تحاول إضفاء الشرعية والمشروعية عليها، وفي الحقيقة لا شرعية لها ولا مشروعية غير شرعية ومشروعية الإكراه والفرض، والتعامل مع ملف التعليم كأمر واقع وليس كأمر متعاقد عليه بين كل مكونات المجتمع.
وطبيعة التعامل هذه، مع هذا الملف في نظرنا، لن تساهم سوى في تعميق التفاوتات الاجتماعية والمجالية بين المغاربة، وفي تغذية الحقد الطبقي، ومراكمة منسوب الاحتقان الاجتماعي، الذي لا يمكن أبدا الالتفاف عليه بالمقاربة الأمنية وسياسة الضبط.


الكاتب : محمد الدحاني

  

بتاريخ : 16/12/2021