خــبـر: عن الموقع أسفلـــــه المشنوق أعلاه !!

 

ـ 1 ـ صوت المنادي وهو يقرع طبلا مدويا :
« أيها الناس اسمعوا وعوا اليوم بعد الظهر هلموا للساحة الكبرى، لقد تم الحكم على « الحكيم « ومن معه من مرقوا وشطوا عن الصواب ففسقوا وهموا بالفجور وخراب الدور، فحق عليهم وعلى أضرابهم من المردة سوط عذاب، وحاكمنا لهم بالمرصاد، فليخبر الحاضر منكم الغائب .. أيها الناس .. «

ـ 2 ـ يفتح عينيه بالكاد وقد رُضت بالكدمات واللكمات، سجوف ظلمة القبو لا تتيح له تلمس ضوء قنديل شحيح يتسلل من كوة، لايدري بالضبط أين يوجد، يلتبس عليه الأمر، ويخال أنها مجرد شطحة حلم لا صحصحة علم، يتحرك بصعوبة جسده المكدود جراحه مفتوحة تؤلمه دبابيس واخزة ، بدأ يتململ وأنفاسه تتهدج :
ـ ماء .. ماء .. ماء ..
سعى سجين كهل أشيب يقاسمه الزنزانة وأسعفه بحسوة ماء وهو يسند رأسه :
ـ لقد راقبتهم وهم يحشرونك في هذا الجب ، قد انضفت إلينا كلنا رهناء وسجناء ولا نعرف ماهي جريرتنا وجريمتنا ، نوضع في القبو ومن بعد تطلق في حقنا أحكام بتهم ملفقة، السجن مكتظ بأمثالي وأمثالك ، لايعيب الرجال يدخلون السجون ماداموا يصدعون بالحقيقة.
أخذ « الحكيم « نفسا طويلا ، وقال متنهدا بحرقة :
ـ انتزعوا مني أقوالا وكلاما، وأصروا على أن أبصم وأوقع عليها والسوط يلهب ظهري وأطرافي، مزقوا دبري بالحديد والصديد ، ظلمة نعلة الله عليهم إلى يوم الدين وحسبي الله ونعم الوكيل !
ـ لست نسيج وحدك في هذا الجب معك خيرة من الرجال ، فإلى شمالك عالم جليل وعلى يمينك وراق ناسخ كاتب وخلفك مؤرخ نسابة عالم بأيام الناس، نعرف الدعوة والسبب، فإن كنا لا نعلم ما يعللون ويهرفون، فالله أعلم بحس وماينطوي عليه سر كل دابة تسعى على الأرض سواء كانت في حجم نملة لاتبين أو فيل ثخين.

ـ 3 ـ تذكر « الحكيم « دفء بيته وقد صك الباب كاشفا لوليفته:
ـ أشعر بأن هناك من يترصدني ، أينما وليت وجهي.
أجابت الزوجة مطمئنة :
ـ مجرد وسواس خناس استعذ برب الجنة والناس .
ـ أقول لك بعيني التي سيأكلها الدود تتقفى أثري حدو النعل للنعل.
_ وماذا يريدون ويبغون منك يارجل وأنت تفضفض ما يمليه عليك قلبك وعقلك من كلام فيه حكمة من سبقوا وتنبيه لرفع غفلة من لحقوا .
راود خاطره ذلك الحوار في تلك الليلة الليلاء، وتخيل امرأته تخلل أناملها الرقيقة لحيته، حتى يتداعى على صدرها الرحيم وقد تملكته سنة نوم ، انبجست دمعة تخضلت بها لحيته البيضاء التي زادتها غياهب السجن شعثا حتى أخفت معالم وجهه .

ـ 4- الحاكم ، يجلس على أريكة بمقصورته الرحبة، وقد حفت بالمفاخر والمباخر وفاح طيب الند والعود والعنبر، وأعد لجلسائه الأقربين الطنافس والمساند متقابلين متفكهين بنعيم الكلام ورقيق اللحن والنغم، وعليهم يطوف الخدم والحشم بشهي المأكل ولذيذ المشرب مبسوطة بسخاء على سماط ، يصفق بيديه، يتنحى الرجال جانبا وكسرب حمام زاجل تتسرب خروجا العازفات والراقصات والقيان .
درجت « فاختة « وهي امرأة ربعة متوسطة العمر ، مجللة بالدمسق والحرير، نساء بأكسية قشيبة بديعة الألوان والأشكال يتهدين بدلال، وترى من بينهن الغضة الممتلئة، ومنهن السمراء الهيفاء والبيضاء الحليبية والشقراء ذات العيون الزرق ، ومنهن العوادة، والزمارة، والصناجة، والطنبورة، والدفافة والرقاصة
جحظت العيون وبخاصة عيون النخاسين والكبراء، تبارت الجاريتين « قطر الندى « و» دنانير» ، في الغناء وترديد أرق النغم والأصوات، تمادى التنافس بينهما ، فصدحت قطر الندى بصوتها الكرواني :

قالوا عشقت صغيرة فأجبتهم أشهى المطي إلى ما لم يركب
كم بين حبة لؤلؤ مثقوبة نظمت وحبة لؤلؤ لم تثقـــــب *
أجابت دنانير بصوتها الرقي الندي بسخرية :
إن المطايا لا يلذ ركوبها حتى تذلل بالزمام وتركبا
والدر ليس ينفع أصحابه حتى يعالج بالسموط ويثقبا *

مالت إلى الحاكم قطر الندى غامزة بطرف عينها دنانير نكاية، مررت أناملها على خده ، أنشدت وهي تمرر يدها على رأسه :

ما ضرك الشيب شيئا بل زدت فيه جمالا
قد هذبتك الليالي وزدت فيها كمـــالا
فعش لنا في السرو وأنعم بعيشك بــــالا *

دنا كبير البصاصين من الحاكم هامسا في أذنه :
ـ لقد أتيت بهم ليمثلوا بين يديك .
ـ صه ! ويحك هل هذه سانحة تذكرني فيها بالغم ونحن نسلو ونلهو.
ـ لقد واعدتني بأن تعجل في أمرهم في ساعة نشوى حتى تتسلى بهم قليلا .
طرق برأسه ملية قائلا :
ـ لابأس أدخلهم ؟
بأرجل ومعاصم مصفدة تقدموا زاحفين على البلاط وقعقعة الحديد تثير صوتا نشازا .
نهض من متكئه ومسحهم بنظرة فاحصة .
عاد البصاص ليوشوش في أذن الحاكم :
ـ في حقيقة الأمر ، أسقط في يدي ياسيدي !
ـ كيف بماذا تغمغم ؟
أجاب موضحا :
ـ تقصيت أمرهم ، فوجدت كلامهم يريح صدور السوقة والدهماء، ويجدون فيه متنفسا يمتعهم وأحاديث تبسطهم ونكاتا يلوكونها فتضحكهم وتسعدهم .
ـ وإلى هذا الحد ؟
الحاكم وقد استشاط غضبه ونفد صبره :
ـ لقد أزعجتني وأفسدت سكرتي .
ثم بفورة بحنق نبر:
ـ أوجز قد آذيت سمعي وبلبلت خاطري بأحاديثك الخرقاء، وقد يكون سيفي أسبق لضرب عنقك قبل أعناقهم .
ـ عفوا سيدي لم أجد جريرة أو تهمة واضحة اقترفوه ، مجرد كلام في كلام يجري من لسان إلى لسان .
ـ ما أغباك هل أنت في خدمتي أوخدمتهم أو تتمنطق وتتزندق وأنت من أصفى رجالنا وتعرف دقائق أخبارنا ، ألا تدري بأن مقتل المرء بين شدقيه، ومن البلاهة العمياء أن تنسى أو تتناسى، بأن سم اللسان أفتك من سم الثعبان، ولا كلمة فوق كلمتي، ألا يقولون الرجل الكلمة؟
ـ نعم سيدي .
أجاب وعينه شاخصة إلى ثرايا قصره :
ـ أنا الرجل وأنا الكلمة، إذا قلت لك بأن هذا الثوب الأبيض أسود فهو أسود ولا يبيض أو يسود لون إلا برغبتي وكلمتي !
خطا خطوات مستعرضا وجوه المعتقلين ثم قال متهكما :
ـ من هؤلاء الضيوف الأعزاء !؟
ـ إنهم المعتقلون يامولاي .
أجاب وتعتعة السكر تتحشرج في صوته :
ـ ليس في بلادي معتقلون ولا سجون من أين أتيت بهذه التخاريف ! بلادي بلاد الحرية والحق والقانون .
رد كبير البصاصين مداريا بلطف :
ـ مجرد منتجعات راحة و تأهيل وإعادة تربية فقط .
ثم عمد إلى تقديمهم واحدا بعد الآخر :
ـ هذا عالم الحيل ؟
تفحصه الحاكم قائلا :
ـ ألست بساحر تسلب الناس عقولهم وأفئدتهم، كيف تتجرأ وتدعي بأنك تستطيع أن تنتقل بين الأزمنة بآلة، وترحل بعيدا حتى نرى الحديد يسير ويسبح ويطير ، ويصنع منه الخدم والحشم ، وبكبسة أو نقرة شبيك لبيك كل شيء بين يديك ؟ ماهذا الافتراء، لا زمن إلا زمني ومن عاقني أسقطته من دوائر المكان والزمان.
رد عالم الحيل كأنه يدخل نصل سكين:
ـ بئس زمان لا يوقر فيه الحكام العلماء !
بجنون رد الحاكم بحنق :
ـ أو تجرؤ على الكلام في حضرة كبير المقام .
ارتبك وتلهوج وصاح مناديا :
ـ أدخلوه المرستان ، فمكانه المناسب بين الحمقى . هل تريد أن تخرجنا عن طورنا ، فإن كان مس الجن قد طالك سننحيك عنا وننجو من لوثة جنونك .
يطوف وسط البهو مترنحا والأنظار تلاحق سكناته وحركات، وقد عم الصمت وتسطرت الجواري وهن يضعن اليد على الخد ويسرحن النظر بانبهار واندهاش .
ومافتىء أن خزر في وجه المعتقل الثاني وهو يتفحصه بنظرة قاصمة:
ـ وأنت يا محبر الأوراق ، لا تعرف في حياتك إلا القلم والدواة، تنسخ أوراق العلم والعرفان وتشجع على المروق والفلتان، ونحن لا تهزمنا السيوف القواطع ولكن نخاف من مضاء الحروف، فبأسها شديد ولا يخوض مضمارها إلا كل متمرد علي، سنعفيك من الكتابة وعناء القلم، سنسمل عينيك ونبتر أصابعك ونثقب أذنيك .
وقبل أن ينهي كلامه تصدى له الوراق بكلمة :
ـ العلماء لا يموتون فأرواحهم مقبورة في ما سطروه وكتبوه، فحبل الظلم كالكذب مهما امتد قصير قصير.
نفر الحاكم قاذفا عصابته من رأسه :
ـ انظروا هذا مجنون آخر يرغي بساقط الكلام أمام ولي الأمر .
أيها الحراس اقذفو به لقمة سائغة للوحوش الضارية .
رجع إلى متكئه ملتقطا أنفاسه وهو يوجه كلامه للمعتقل الثالث:
ـ وأنت أيها المؤرخ النسابة الفهامة العلامة، رفضت أن تدبج ما نملي عليك، فنحن الذين نكتب تاريخ الأولين والآخرين ونشطب على كل من يروج للبلاء ويحاول أن يقول لا ، فنحن نقلب المبتدأ والخبر ونخوزق من خالف رأينا وأثبط سعينا ولا رأي إلا رأينا، أنا التاريخ، والتاريخ يكتب على مقاسات جبتي .
أجاب المؤرخ تافا على وجهه :
ـ أنت وأمثالك لا تسعهم إلا مزبلة التاريخ !
سل سيفه من غمضه وهم بجز رأسه، سرعان ما أعاده وهو يقول :
ـ لا أريد لك أن تنعم بموت سهل، رويدك لأمزقك إربا إربا .
أيها الحراس دعوه تحت رحمة جلادين غلاظ شداد .
قال متداركا :
ـ وأنت أيها « الحكيم « تنازعني السلطان، فلا تستقيم الحكمة إلا بسيوف الحاكم .غدا نتفرج على عرسك .
أما الباقون فاحشروهم في جلود البقر المسلوخة، وأغلقوا عليهم بالمخيط وضعوهم تحت قيظ شمس الظهيرة .

ـ 5 ـ الحشود تتكاثف مع مرور الوقت في الساحة الكبرى، أمواج بشرية تتقاذف كسيل عرم في هذه الظهيرة التي تعامدت شمسها وتقد أوار جمرها، وتلظى وسطها عمود تتدلى منه أنشوطة من مسد قنب مجدول .
حمارة عرجاء يجرها سائس رث الأسمال متعرق الجبين، وعلى ظهرها الأجرب أركب « الحكيم» بالمعكوس وجهه خلف وظهره أمام، الأنظار تشد لهذا المنظر الغريب وأصوات شهود الزور تتعالى :
صوت : ـ عقاب عاق.
صوت : ـ شط وفسق .
صوت : ـ ساحر فتان .
صوت : ـ أراد فقد أن يقول فقط كلمة حق .
صوت : ـ آآآآآآآآآآآآآآآآآه.
صوت : ـ أنا لارى ولا أسمع أو أتكلم .
ابتعد عن الجمع وأدبر .

ـ 6 ـ قبل أن يخرج لسان « الحكيم» من بين فكيه متدليا، ويلفظ نفسه الأخير، تلا مستشار خطاب الحاكم بأمره أمام الأشهاد ، وهو يفرد صحيفة صكت من جلد ماعز بين يديه، وظلة من سعف جريد النخيل تمده برخي الظلال:
– «أيها الناس باسم الحاكم بأمره، قررنا مايلي :
إحراق كتب « الحكيم « حتى لا تسمم عقول الناس، وتدخلهم في الجدل واللجاج وشطحات سؤال يفجر فتيل سؤال، والحروف سيوف، من الأوجب أن تبتر وخير المحو الحريق .
أيها الناس بعد اعتراف وإقرار المتهم الخطير بالمروق والخروج عن أمرنا وعلو صوته فوق صوتنا ، فقبل أن نخرس حسه ونقطع أنفاسه ونتخلص من شره المستطير بوضع حبل الخلاص على عنقه ولا نحرم الناس من متعة رجمه بالحصى والحجارة ككل إبليس مارد، حتى يكون عبرة لمن يعتبر وبه الإعلام والسلام».

ـ 7 ـ صوت المنادي ، وهو يمتطي حمارة جرباء قارعا الطبل بحماس، والناس حيارى يتجادلون، ورأس « الحكيم» يتأرجح على عود في الساحة العامة منصوب على سفود : «اشهدوا يا ناس هذا رأس من تطاول ورفع صوته على صوت السلطان ..
اشهدوا .. اشهدوا «

*علي بن جهم
*مسلم بن الوليد الملقب بصريع الغواني
*بدعة الجارية عريب


الكاتب : المصطفى لكليتي

  

بتاريخ : 03/12/2021

أخبار مرتبطة

الأثر الطيب والتأثير المستدام   نظمت حلقة الوفاء لذاكرة محمد الحيحي، لقاء لتقديم كتاب بعنوان « محمد الحيحي.. ذاكرة حياة»

بايعوه و باعوا له كل شيء وقف جندي بزيه المضمخ دما ليس ليقول : أنا واحد من المليون شهيد بل

أعلنت جائزة غسّان كنفاني للرواية العربية التي تنظمها وزارة الثقافة الفلسطينية عن الروايات المرشحة للقائمة الطويلة بدورتها الثالثة للعام 2024،

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *