خواطر من «مسافة الصفر»

هذه بعض الخواطر التي راجت في ذهني، وأنا اتابع قضايا وتفاصيل ومشاهد المعركة التاريخية الكبرى التي فجرتها المقاومة الفلسطينية يوم 7 أكتوبر، وفي يومها المائة. ولأنها مجرد خواطر فهي أقرب إلى حوار ذاتي مع الأسئلة التي كنت أطرحها على نفسي خلال مجريات الأحداث؛ ولا أزعم أنها ارتقت إلى موضوعات كاملة المعطيات ومتكاملة المبنى والتركيب. وقد عنونتها من مسافة الصفر كناية على أنها من وجدان مندمج مع المقاومة قلبا و قالبا.

 

 

إذا ما تأملنا في هذه الفكرة التي قد تبدو في مصاف البديهيات، ربما نخلص إلى أن التصنيم الذي استولى على عقولنا لما سمي بالحداثة وفكرها المؤسس ليس هو الحد المطلق للعقلانية وللتحديث في شروط وضعنا الراهن، فما كان بوسع الفكر المؤسس للحداثة في جل ميادينه المعرفية ان يستشرف قبلا أن الاستعمار والامبريالية ، وما ستولده الرأسمالية الوليدة من صراعات جديدة، هي عناصر بنيوية في النظام الراسمالي، والذي كان هو الأفق التاريخي التقدمي الناشئ ، وهو الممكن للعقلانية في ذلك العصر التأسيسي للحداثة. ان التمييز بين الحقيقة العقلانية والحقيقة التاريخية ضرورة منهجية تنطبق على جميع المراحل البشرية وكافة العقلانيات والإيديولوجيات. انه مكر التاريخ ، كما قال هيغل نفسه. وكما هو معروف ، فان البشرية مازالت بعيدة عن التحكم في مسارات تاريخها لا مع الطبيعة ولا بين مكوناتها الإنسانية . ولعل الشرط الأولي للإرادة العقلانية والتي ستظل رافعة دانمة للتقدم ، ليس سوى القضاء على الاستغلال الطبقي والقومي كيفما كان نوعه ، والانتقال من المجتمع المدني الى المجتمع الانساني.
وليس من شك في ان النظام العالمي القانم مازال مبنيا على مبدا القوة (والحروب) رغم كل ا لقوانين والمعاهدات نات الطابع الإنساني السلمي، وعلى راسها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها ، وأنه سيحتاح لمسار طويل الأمد من حلقات انتقالية تقلب موازين القوى القائمة في النظام العالمي.
وجدير بالنظر من أن التفكير في موضوعية الحروب وإمكان السلام الدائم ، كان في الماضي التأسيسي للحداثة مسؤولية اخلاقية في افضل الأحوال ، في مقابل تصور آخر يرى ان الحروب ضرورة مطلقة للدفاع عن المصالح القومية ، و عنصرا ثابتا في نزوعات النفس البشرية الطبيعية، وعلى الرغم من شره فهو آلية من آليات التقدم. وعطفا على ما قلناه عن محدودية الفكر الحداثي المؤسس ، كان من أفضل أطروحاته في هذا الموضوع ، مشروع الفيلسوف ــــكانتـ ـــ للسلام الدانم، والذي طرح فكرة عصبة الأمم ومبادئ قيامها ونجاحها. وأظن ان إنشاء هينة الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية بجميع هيأتها وقوانينها ، كما هي اليوم ، أقرب إلى التصور الكانتي ، لأنه تلمس من قبل إمكان هذا التطور في العلاقات الدولية ، وان كانت ضوابط انسنته العالمية أخلاقية بالأساس … لأن النزوع الاستعماري والامبريالي في النظام الرأسمالي وقتئذ لم يكن جليا كما هو في القرنين الأخيرين. و مع أن الظاهرة الإستعمارية قد صاحبت الرأسمالية في جنينيتها وكانت ركيزة لها، إلا أنها كانت لقرون سابقة تبدو للوعي و كأنها استمرار طبيعي لتقليد عريق نهجته كافة الامبراطوريات التي عرفها التاريخ في السابق.
صفوة القول لكل ما سبق ، أن معيار العقلانية في عصر العولمة الامبريالية عليه أن يتطلع إلى ما هو أبعد من ما قدمته الحضارة الغربية في مسارها التحديثي نحو حضارة عالمية أشمل حرية وتحررا ودمقرطة وتقدما لعولمة انسانية متوازنة الحقوق. ولا يفوتني هنا، ان أسجل تحفظا مقلقا طالما راودني حول مفهوم الحضارة ، والذي لاتساعه ، ما عاد يميز في المباحث الأكاديمية أو في الصراع الايديولوجي اليوم، بين بعض الخصوصيات المجتمعية المحلية، وبين الإضافات الحضارية الحقة التي هي قيمة مضافة في سلم التطور البشري عامة. وما يعزز خشيتي من هذه التعددية الحضارية التي لا ضوابط لها، انها تطمس وحدتها الإنسانية التاريخية، فليس من حضارة نمت مستقلة ومنعزلة، لم تتفاعل مع ما قدمته لها المجتمعات الأخرى، فلا تعددية بلا وحدة، ولا وحدة بلا تعددية. وهذا على سبيل المثال ينطبق على الحضارة الغربية وتفاعلها مع الحضارة العربية الإسلامية والصينية وغيرهما، لكن الانكى من ذلك ان هذه التعددية المنفصمة في ذاتها لمفهوم الحضارة، تكرس وتخدم ما بات يعرف بصراع الحضارات، وهو نهح ايديولوجي تبنته الامبريالية الأمريكية، قبل غيرها، وسقط في شركه حتى بعض من يناضلون ضدها.
تزعم الدول الغربية انها تدافع عن قيم حضارتها التي تنفرد بها دون غيرها من الشعوب الأخرى ــــالبربرية في نظرها، وإذا ما تجنبنا تفنيد هذا الزعم من خلال ما تفصح عنه الوقائع والمواقف الغربية من تناقضات وتخبطات شتى، فلا عجب ، أن كل تلك العجعجة الايديولوجية الحضارية ، تختزلها النخبة السياسية الغربية في كلمة السر واحدة ، ينبغي على كل الشعوب والدول الأخرى الانضباط لما تسميه ٠٠ بالقواعد الناظمة للعلاقات الدولية ٠٠ ، اي بصريح العبارة ، ينبغي الحفاظ على النظام الدولي ، كما هو ، تحت الهيمنة الأمريكية اساسا والغربية عامة.


الكاتب : محمد الحبيب طالب

  

بتاريخ : 16/03/2024