خواطر من «مسافة الصفر» 3

هذه بعض الخواطر التي راجت في ذهني، وأنا اتابع قضايا وتفاصيل ومشاهد المعركة التاريخية الكبرى التي فجرتها المقاومة الفلسطينية يوم 7 أكتوبر، وفي يومها المائة. ولأنها مجرد خواطر فهي أقرب إلى حوار ذاتي مع الأسئلة التي كنت أطرحها على نفسي خلال مجريات الأحداث؛ ولا أزعم أنها ارتقت إلى موضوعات كاملة المعطيات ومتكاملة المبنى والتركيب. وقد عنونتها من مسافة الصفر كناية على أنها من وجدان مندمج مع المقاومة قلبا و قالبا.

 

 

أظهرت الدول الأوروبية تجاه طوفان الأقصى موقفا أشد تطرفا مما كنت اتوقعه. وبتأمل بسيط، يتضح أن هذا الموقف كان استمرارا للتحالف الأمريكي الأوروبي في الصراع الدانر ضد روسيا الاتحادية والصين. وعدا ما كان يجمع بينهم من أدوار مؤثرة للوبيات الصهيونية على مراكز القرار ، و فضلا عن عقدة الذنب التي ما زال الأوروبيون في تصعيد نفساني يهربون منها ، ليتملصوا من وخز وخزي تاريخهم في اضطهاد اليهود ولاسيما ألمانيا التي لم تتعاف بعد من اثار الهلوكوست . ولأمريكا هواها الخاص لانها ترى في قيام الكيان الإسرانيلي ما يشبه استنساخا لنشأتها ، هي، الاحلالية والاستطانية. وزادها غيبوبة عن الواقع تنامي القوة العددية ــ الانتخابية للمسيحية الصهيونية التي تعتقد ان حيازة اليهود لفلسطين يعجل من مجيئ السيد المسيح. ثم فضلا عن كل ذلك، شعور التحالف الغربي ان الكيان الإسرائيلي الذي تشاركوا في تأسيسه وتقويته لمصالحهم الامبريالية في المنطقة، يعاني في هذ٥ المعركة ، وفي ظرفية عالمية حرجة ، ازمة وجودية لم يسبق لها مثيل في كافة الحروب السابقة.
في الصراع الجاري ، سواء في اوكرانيا او فلسطين ، لجأ الغرب ليضفي على موقفه ، بعض الشرعية القانونية والأخلاقية ، إلى ان البادئ في الهجوم هو الظالم والمعتدى. والاحتيال هنا ان البادئ بالهجوم على المستوى الظرفي أو التكتيكي قد يكون دفاعيا على المستوى المبدني والاستراتيجي . و هكذا كان الوضع في الحالتين ، حتى وان كان من السهل ان ينطلي هذا الاحتيال على من لا يعرفون الخلفيات الدفاعية لروسيا الاتحادية ، لأن الصراعات مع الولايات المتحدة وحلفانها في أوكرانيا ، قبل الحرب، كانت تبدو صراعات خفية وناعمة طيلة سنوات سابقة . أما في الحالة الفلسطينية ، فالموقف الغربي العداني، كان افتراءا فاضحا يفقأ العين ، لسبب أن الصراع هنا كان ساخنا ومتصلا لعقود سابقة ، وضد محتل فاشي ليس له في المبدأ حق الدفاع عن النفس.
ولعلها نفس المفارقة، وبنفس الاحتيال القانوني والاخلاقي، كان موقف الولايات المتحدة وحلفانها، (بتفاوت درجي في التبعية) في صراعهم مع الصين . تقول الولايات المتحدة بانها ملتزمة بحل (الصين الواحدة بنظامين) ، لكنها في الممارسة تفعل كل ما يفضي إلى إفشال هذا التعهد، وبما يبقى على تايوان منفصلة بل وعدائية .. و تعمل كل ما بوسعها لعزل الصين عن محيطها الإقليمي ، و بما يعرقل قدراتها على ان تتبوء موقع الصدارة في النظام العالمي الناشيء.
وهو نفس الاحتيال في ادعائها على أنها ملتزمة بحل الدولتين في فلسطين ، بينما تصطف عمليا بجانب الكيان الإسرائيلي ومطامعه بكل قدراتها المالية والتسليحية والدبلوماسية.
وفي الصراع الخفي لروسيا مع امريكا وحلفها الأطلسي، من منا مازال يتذكر، أن الرئيس بوتين في بداية عهده ، لوح ولو من باب جس النبض ، برغبة روسيا الانضمام إلى الحلف الأطلسي، وكان الرد الأصم، أن الحلف الأطلسي استمر في توسيع عضويته من البلدان التي انشقت على الاتحاد السوفياتي وعلى غير ما كان قد تعهدت به القيادة الأمريكية في السابق. و كان هذا التوسع المستمر للحلف الأطلسي يهدف الى تطويق روسيا الاتحادية واحتوائها ان لم يكن تقسيمها ، لكي لا تستعيد مكانتها كقوة عالمية.
وفي المسألة الأوكرانية ، مَنْ مِنَ العموم يتذكر خطاب الرئيس بوتين في الملتقى الدولي للأمن في 2011 الذي حذر فيه الحاضرين من مغبة تمدد الحلف الأطلسي ، وقد كانت أوكرانيا محل نزاع خفي مع ا لحلف ، وتبدو لقمة سانغة وواردة له ، ثم جاء الانقلاب البرلماني2014 على اثر ١نتفاضة ملونة على نفس السيناريو الذي جرب في أكثر من بلد، وتلا ذلك من قبل الحكم الجديد سياسات عدائية ضد كل ما هو روسي في الساحة الأوكرانية واعتداءات مسلحة على المناطق التي تتحدث اللغة الروسية ، واوكرانيا في قسم منها على الأقل هي امتداد وساحة مشتركة للتاريخ الروسي، وكانت كييف عاصمة لروسيا في مرحلة منه.
ومَنْ من العموم مازال يتذكر اتفاقية مينسك المبرمة برعاية المانيا وفرنسا لمنح حكم ذاتي للمقاطعات الأربع الروسية في الأصل، والتي قالت عنها مؤخراً المستشارة الألمانية السابقة ميركل ، انها (الاتفاقية) كانت لكسب الوقت ، لا اكثر ! ولقد كتبتُ سابقا ، ان لا أحد من المسؤولين السياسيين الأمريكبين الكبار، ولا من المحللين ذوي الوزن، ينبس بكلمة تُذَكِّر بهذا الاتفاق ، وبمسؤولية الإخلال به وكأنه لم يكن موجودا قط، ولهذا التجاهل المتعمد دلالة في ما يخفيه من نوايا سيئة.
كانت تلك التلميحات الخاطفة في المسالة الأوكرانية تريد ان تستخلص ان من يحدد طبيعة حرب ما، دفاعية أم هجومية، ظالمة أم عادلة، ليس من بدأ الحرب في لحظة آنية منزوعة من سياقاتها العامة السابقة، حيث يمكن عبرها التأكد من الدوافع والأهداف التي قد تبين احقيتها ومشروعيتها في الدفاع عن النفس.

 


الكاتب :   محمد الحبيب طالب

  

بتاريخ : 14/03/2024