خودوروفسكي وسفينة الحمقى

تبدو سينما أليخاندرو خودوروفسكي للوهلة الأولى كمن يدخل إلى السيرك أول مرة، وذلك لكثرة الشخصيات والألوان في المكياج والأزياء
لا يبتعد أليخاندرو خودوروفسكي كثيرًا عن كرنفالات العصر الوسيط وطبيعة السخرية المزدوجة التي لا تميل إلى الهدم أكثر مما تميل إلى البناء

 

تبدو سينما أليخاندرو خودوروفسكي للوهلة الأولى كمن يدخل إلى السيرك أول مرة، وذلك لكثرة الشخصيات والألوان في المكياج والأزياء، وحتى الطبيعة الجسدية للممثلين تقترب كثيرًا من الشخصيات السيركية التي تستثمر التشوه والعطب محولة إياه إلى ميزة أو شيء ملفت، ولعل هذا الشيء ما ورثه من سرك والديه.
لكن ما ينقص السيرك الخودوروفسكي قبالة السرك العادي هو العرض، المتعة مقابل النقد، ليس للعرض الخودوروفسكي قيمة مادية، بل هو عرض متاح يملأه التعقيد البسيط المتكثف، يمكن للسيرك أن يبدأ من أي مكان، من الحانة أو من الرواق، من موقف تراجيدي أو هزلي، لكنه لن يخلو من المتعة السيركية أبدًا.
المتعة هذا المفهوم المائي أو المتسرب في الذاتية ربما هو الميزة الأهم لسينما أليخاندرو خودوروفسكي، إذ دائمًا ما تواجه الأفلام بمفارقة التصنيف، كيف يمكن لنا أن نصنف الفيلم الذي نشاهده كي يتسنى لنا فهمه بدقة أكثر، مع خودو يبدو التصنيف الوحيد ان الفيلم هو سينما خودوروفسكية، سينما لا تشبه إلا نفسها، محددة وواضحة بعلامات الغروتيسك المطبوعة على جسد العالم الذي تغوص فيه.
رغم الاختلاف الكبير على طبيعة مفهوم الغروتيسك إلا أن المعظم يتفق على عدة نقاط لتمييزه كالخصوصية، هدم القواعد، البروز المبالغ به للأجسام والأشكال، تشويه طبيعة الجمال الكلاسيكي الميت لخلق جمالية معاصرة من لحم ودم.
هذا التلاعب بجسد العالم هو ما يجيده خودوروفكسي، كيفية التأثير على المنظومة الحسية لدى المشاهد كي يستمتع أولًا ثم يندهش بعدها، كيف يمكن للقزم أن يبدو بكل هذه البطولية؟
في كتابه عن فرانسوا رابليه وكرنفالات العصر الوسيط الشعبية، يطرح ميخائيل باختين الرأي التالي “ففي كل هذه الظواهر يضطلع شكل الغروتيسك الكرنفالي بوظائف مشابهة؛ إنه يضيء جسارة الابتكار، ويسمح بجمع عناصر متنافرة، وتقريب ما هو بعيد ويساعد على التحرر من وجهة النظر السائدة عن العالم، من كل توافق وحقائق جارية، من كل ما هو مبتذل، اعتيادي، متفق عليه بالإجماع، إنه يسمح أخيرًا بإلقاء نظرة جديدة على الكون، وبالشعور بمقدار نسبية كل ما هو موجود، وبالتالي بأن وجود نظام مختلف كليًا للعالم أمر ممكن”.
بالنسبة لي فالغروتيسك الخودوروفسكي لا يبتعد كثيرًا عن كرنفالات العصر الوسيط وطبيعة السخرية المزدوجة التي لا تميل إلى الهدم أكثر مما تميل إلى البناء من حيث تهدم، لدى هيرونيموس بوش (1450 – 1516) وملذاته الارضية نجد الغروتيسك وهو في أوج انفعالاته، الهيجان الكرنفالي للحشد المنطوي على تجسيد منمق للكارثة، ازدواجية النظر للخطر محدق التي تدفع للبهجة بدلًا من اليأس وجمالية الرص التي تبني كيانًا متكاملًا، كل ما فيه ينطق وينفعل في حيزه الخاص.
لكن العمل الأقرب لسينما خودوروفسكي من بين كل أعمال بوش هو سفينة الحمقى، لكونه تجسيدًا للمنفى البهيج ومغادرة للعالم الميت المكبل بالقوانين، وتبجيلًا للشتات الروحي الذي يفتح باب المغامرة نحو المجهول مع غياب القصدية وحضور الجوهر العاري للرغبة ببلوغ نهايات الأشياء.
هذه السينما المنغلقة على نفسها -لدرجة أنها أسست لتصنيف منفرد في السينمات تحت مسمى أفلام منتصف الليل – والعائمة في بحر العالم هي سفينة الحمقى التي لا تعبأ بالريح أو موج البحر، ذاهبة إلى حيث ما يمكن للسفن أن تقف أو تسير، لا يهم إن سارت أو رست، لكنها ستضل منفية إلى الأبد قاطعة المسافات كلها بين الموج والشاطئ.


الكاتب : يعقوب رائد

  

بتاريخ : 12/12/2020