دراسات قرآنية : في الكتابة: القرآن نصّ أم نصّان؟ 3/2

التفكير في النص القرآني، وشرحه وتفسيره وحصر معناه، ليس انشغالا عربيا، فقد دأب المستشرقون، ومعهم الدارسون القرآنيون، على محاولة تفكيك الخطاب القرآني وارتياد علومه ومباحثه ولغاته، وتحديد نوازله ومفاتيح فهمه، وذلك في مواجهة التيارات الدينية التي تحاول فرض أساليبها بمنطق استغلاقي واحتكاري وإيماني، لا يستقيم الآن مع تعدد المناهج وطرق البحث العلمية التي تنبني على التشخيص والتحليل والتدقيق والتمحيص واستدعاء القرائن العلمية المادية والتاريخية.

يبدو أنّ مختلف التقاليد الثقافيّة الأقدم عرفت بنسبة أو بأخرى، نوعا من «الإحيائيّة” كانت تثيرها الأبجدية سواء الصوتية منها أو الرسمية أي تلك التي قامت على رسم الصوت أو تلك التي قامت على رسم الشيء. وربّما تعذّر الفصل بينهما عند العرب المسلمين، وهم الذين سمّوا الكتابة رسما، ومن معاني “رسم” كتب وخطّ؛ وشبّهوا النّطق بالخطّ والتّصوير. وربّما كان من السّائغ أن نقول ـ بناء على ما تقدّم ـ إنّ الكلمة صورة تنطوي على صورة، سواء انبنت العلامة بين الكلمة والصّوت على قانون المشابهة والمطابقة والرّمزية أو على ترابط المجاورة والاستبدال الكنائي. فالكلمة في هذه الحال أو في تلك طقس سحريّ أو “سحر تعاطفيّ” سواء اتّخذ هيئة “التّعاطف المثلي” القائم على المشابهة أو هيئة ” السّحر التّجاوري” القائم على المجاورة. وعلى هذا الأساس تحضر الكلمة، وبخاصّة في نصّ مثل القرآن تفنّن المسلمون في كتابته، من حيث هي صورة خطّية وعلامة بيانيّة، حضورا مضاعفا أي في ذاتها وفي تمثّلها، وتجمع بذلك بين وظيفتين: جماليّة وتوصيليّة. بل لعلّها تصهرهما في وظيفة إبداعيّة واحدة، إذ هي تنزع الأشياء من أقنومها وتفتح أغلاقها، لتعيد إنتاجها أو لتخلقها خلقا ثانيا. ومن ثمّ كان امتزاج الكتابة بالأسطورة، والصّورة بالإحيائية. ونقدّر أنّ هذا جزء من جوهر الكتابة لا ينفصل عنها ولا يفارقها.
إذا استتب لنا القول بأن الكتابة سلطة وأنّ هذه السّلطة منوطة بقيمة الكتابة الاجتماعيّة، أدركنا أن البحث في واقع الكتابة ومدى ذيوعها وانتشارها في المجتمع العربيّ ما قبل الإسلاميّ أو بعده هو من الكمّ الذي لا يعتدّ به كثيرا. فقد يكون المرء، جاهلا بالخطّ ولكنّه ليس جاهلا بالكتابة.
ولعّل كتابة القرآن أن تكون خير نموذج لما نحن فيه، فقد كانت تتأدّى بواسطة الإملاء على كتبة الوحي. ولا شكّ أنّ إملاء نّص كالقرآن “محكم” في صيغه وتراكيبه، لا يمكن إلا أن يستدعى أداء “مبنيّا”؛ لأنّ الأمر ـ على ما أوضحنا في مقال سابق ـ لا يتعلّق بنصّ يرتجل وإنّما بنصّ “يمليه” صاحبه على نفسه قبل أن يمليه على غيره.ومثل هذا النّصّ “الوحي” كتابيّ حتّى وإن أعدّ شفهيّا أو ذهنيّا في صمت أي قبل أن يمليه صاحبه على الآخرين، وقبل أن تتدبّره الكتابة وتثبّته في صورة خطّية وتقيّده في هيئة بصريّة. والكتابة بهذا المفهوم تنوب “التّفاعل” الشّفهيّ. فهي لا تحدّ في شيء العلاقة المباشرة بين متكلّم ومستمع، وهي أساس الكلام أو الأداء الشّفهيّ. ذلك أنّ نصّ الوحي مثل الشّعر قول لا يُسمع سمعا، بل يستغرق السّمع استغراقا.
نشير في هذا السّياق إلى قول القاضي عبد الجبّار،من أنّ النّبي “كغيره في بون ما بين كلامه وبين القرآن”، فهو قول في غاية الدّقّة. قال: “فلا يصحّ أن يقال: إنّه[النّبي] أتى به لمزيّته في الفصاحة، وحال كلامه كحال كلام غيره، في أنّ القرآن يفوقه، ويفضل عليه؛ وبيّنوا [شيوخنا] أنّه لا يمكن أن يقال: تعمّل له زمنا، وسائر كلامه ارتجله؛ وذلك لأنّ المتقدّم في الفصاحة يقارب المرتجل من كلامه المسموع عنه، بل ربّما فاقه البعض منه، على ما جرت به العادة، إذا كان ممّن يمكنه الارتجال كما يمكنه التّعمّل…” (المغني ص.275). ولعلّ في هذا ما يدلّ على أنّ نصّ “الوحي” كلام “متعمّل” أي مصنوع، وإن لم يقصد القاضي عبد الجبّار إلى ذلك، ولكنّ كلامه يسوق دون تمحّل إلى هذا الاستنتاج. و”نزول” النصّ [القرآن] منجّما أو في مواقيت متباعدة، يعزّز طابع الصّنعة فيه، والمقصود بها هاهنا الكتابة. وكذلك ما يحفل به من تكرير المعاني والموضوعات والصّيغ، فهذا راجع إلى ما يسمّيه المعاصرون “الاستعمال المتواطئ”الذي هو سمة الكلام المكتوب أكثر ممّا هو سمة الشّفوي كما يقع في الظنّ عادة.
و”الوحي” من ثمّة، يمكن أن يحدّ من حيث هو أداء كتابيّ حتّى وإن جاء بصيغة صوتيّة غير مخطوطة. فهو نصّ “يُملى”، وكلّما كان إملاء كانت كتابة. ووضعيّة الإملاء تتيح لصاحب النصّ أن يتعهّد نصّه المثبّت في الذّاكرة، حذفا أو زيادة أو تغييرا وأن يمليه دونما استئناس بنصّ مخطوط. وربّما وقع في الظّن أن وضعيّة الإملاء تنطوي على عناصر الاتّصال “الجاكوبسونية” جميعها من سياق ومرسل ومتلقّ، وأنّ النّصّ ينضوي، من ثمّة، إلى الأداء الشّفهيّ وليس إلى الأداء الكتابيّ حيث لا يظهر المرسل ولا يملك المتلقّي سوى الرّسالة وحدها. وهذا في تقديرنا من مدخول الظّنّ وخادع الانطباع، فالوحي محكوم بازدواجية مثيرة: ازدواجيّة السّياق وازدواجية المرسل وازدواجية المتقبّل.
أمّا سياقه فسياقان: سياق غائب يرجع إلى “الخطاب الصامت” السّابق على لحظة الإملاء حيث يكون المرسل قد تعهّد نصّه وثبّت الكلمات ومبناها في ذاكرته. وسياق حاضر يرجع إلى مواقيت إملائه ومواقعها.
وأمّا المرسل فمرسلان : فالوحي في معتقدات المسلمين وفي متخيّلهم الدّيني، رسالة أوحت بها ذات متعالية مفارقة (الذّات الإلهيّة) إلى متقبّل أوّل (النبيّ). وهذا المتقبّل مرسل ثان ينقل الرّسالة إلى متقبّل ثان لا يحدّ ولا يصنّف أو هو متحرّر من رقّ الزّمان والمكان، لأن ه(الإنسان) في كل زمان وفي كلّ مكان. على أنّ هذا المتقبّل في سياق الإملاء، إملاء الوحي “كاتب” يسّجل الوحي ويقيّده بالخطّ.


الكاتب : منصف الوهايبي

  

بتاريخ : 04/06/2020