دفاتر الطفولة : محمد نيات: الزبدة والفقيه

تَفتحُ جَريدَة «الاتّحَاد الاِشترَاكي» عينَ القارِئ المَغربيِّ علَى فترَةٍ أسَاسية منْ عالَم الطُّفولة، يَسترجعُ فيهَا أَصحابُها لَحظاتِ عُبورهم الاسْتثنائِي مِن “عَالم الطَّبيعَة” إلَى “عَالم الثقَافَة”، عَبر اللِّقاء الأَوّل بعَالمِ الكُتّاب أوِ المَدرسَة وَمُروراً بمُختلَف الحكَاياتِ المُصاحبَةِ: الدَّهشَة الأُولَى فِي الفَصل؛ الاِنطبَاع الَّذي يُخلِّفه المُعلِّم أوِ «الفَقيه»؛ تَهجِّي الحُروفِ الأُولَى؛ شَغَب الطُّفولَةِ وَشقاوَتهَا وَأشكَال العِقَاب غَيرِ المُبرَّر أَو المُبرَّرِ بمَا لَا يُعقَل؛ انْتظَار الأمَّهاتِ أمَامَ بابِ المَدرسَة؛ زَمَن الرِّيشَة والدَّواة وَالقصَص الَّتي تسْتَتبِعُ لَطخَات الحِبْرِ في الأصَابعِ وعَلى الدَّفاترِ وَالمَلابسِ؛ مُقرَّرات الرَّاحلِ بُوكمَاخ الشَّهيرَة، وَغَيرِهَا منَ التَّفاصيل الَّتي كانتِ الْبدَاياتِ الأُولَى التِي قَادَتْهم إلَى مَا هُم عَليهِ اليَوم وَالَّتي بكلِّ تَأكيدٍ، سَتتحكَّم، قليلاً أوْ كَثيراً، في مَا سَيكُونُونَه غَداً.

 

اعداد: زهير فخري

لست أدري كيف قرر والدي الزج بي في «المسيد» لدى الفقيه «نعامس» وهو يعلم حق المعرفة أنه كان فضاء أقرب إلى مخفر تعذيب بوليسي منه إلى أي شيء آخر؟ تساءلت حينها مع نفسي إن كان أبي حقا يحبني…
لست أدري كيف كان يفكر، وهو يتخذ قرار اجتثاثي في ذلك السن المبكر، من حضن الأسرة الدافئ، حيث كنت أنعم بالحب والطمأنينة، ليزج بي في ذلك المكان، تحت إشراف فقيه عدواني وعنيف.
قاومت رغبة والدي بكل ما كنت أملك من أسلحة؛ استعطفته وصرخت ملء حنجرتي وبكيت حتى جفت دموعي ثم استنجدت بوالدتي طالبا، فقط، تأجيل الالتحاق بالمسيد لأيام معدودة، دون أن يفضي كل ذلك إلى أي نتيجة.
حين هم والدي بإيداعي لدى الفقيه، التصقت بكل ما كنت أملك من قوة بتلابيب جلبابه الصوفي، إلا أن «الفقيه» انتزعني منه انتزاعا بعنف وفظاظة، وظل ممسكا بي بقوة من قفاي وهو يصغي إلى وصية الوالد «انت ذبح وأنا نسلخ»، وما إن توارى والدي عن ناظريه حتى رمى بي، بقوة وسخط، وسط جمع من الأطفال، كانوا منهمكين في ترديد تراتيل لم أتبين منها شيئا.
وجدتني وسط هؤلاء كخروف زج به وسط قطيع. فطنت بسرعة إلى أن أسلحتي لن تجدي شيئا أمام فقيه فظ وغليظ القلب، وبالتالي لم يكن من داع للاستمرار في العويل والبكاء. صمتُّ أخيرا، وظللت أمسح بناظري أنحاء المسيد. كنت مثل عنصر غريب اقتحم جسما له مناعة قوية سارعت إلى إبعاده ولفظه من دون رحمة. أستحضر هذه اللحظات المؤلمة بالنسبة لطفل، فأتساءل: كيف لأطفال (في عمر البراءة) أن يكونوا بكل هذه العدوانية وبكل ذاك العنف؟ لم يقبل بي أحد بجانبه، لا زلت أذكر، بل كنت أتلقى ضربات مؤلمة بأكواع كل من لامستهم أو اقتربت منهم.
بعد لحظات قليلة، جيء بأحد الأطفال من طرف والدته. كانت الأخيرة في حالة من الغضب الشديد، فقد اكتشفت أن طفلها تغيب لأيام عن حصص المسيد، حتى أنه لم يوصل «الرباعية» إلى الفقيه في مناسبتين، وكان ذلك أخطر ما في الموضوع كله، فأن تحرم الفقيه من «رباعيته» كان ذلك يعني شيئا واحدا؛ وهو أن العقوبة ستتعزز بأقصى ظروف التشديد. كان الطفل مستسلما ولم يبد أي مقاومة وهو يساق إلى قدره، ولعله وصل قبلي إلى النتيجة نفسها التي كنت قد توصلت إليها قبل لحظات من ذلك، كون لا شيء يجدي مع فقيه من هذه الطينة. لم ينبس «نعماس» ببنت شفة، لكنه وبحركة من عينيه، سينتصب اثنان من كبار مرتادي المسيد واقفين، توجه أحدهما جهة الزاوية الخلفية حيث يقعد الفقيه، فتناول عصا غليظة كانت مربوطة من جانبيها بحبل مرن، عرفت في ما بعد أن اسمها «الفلقة»، وبكل خفة وإتقان وضعا رجلي الضحية المتسختين النحيفتين داخل الحلقة، واستمرا في إدارة العصا الغليظة بينما كانت الحلقة تضيق حول الرجلين، ولم يتوقفا إلا حينما صرخ الطفل من شدة الألم. رفعا الفلقة فارتفعت تلقائيا رجلا الضحية إلى المستوى الذي سيكون فيه بمقدور الفقيه إنجاز المهمة بأريحية ومن دون عناء..استقام «نعماس» من مكانه فبدت لي جثته ضخمة كبيرة، وكرشه منتفخة وممتدة أمامه كامرأة حامل. احتدت ملامحه أكثر، تجهم وبدأ يزمجر غاضبا بكلام لم أتبينه. تناول سوطه وشرع يهوي به على رجلي الطفل الصغيرتين بكل ما كان يملك من قوة، فيما صراخ الطفل كان يتصاعد ويمتد إلى خارج المسيد.
توقف الفقيه أخيرا وهو يلهث جراء ما بذله من جهد، ولعله لم يتوقف إلا لأنه خمن أن الطفل كاد أن يفقد وعيه، فالأخير لم يعد قادرا على استرجاع أنفاسه وهو يبكي. بعد نهاية حصة التعذيب تلك، وبنفس الخفة والإتقان، فك مساعدا «نعامس» وثاق الطفل الضحية ورميا به كما خروف في مسلخ. لم تسعف المسكين رجلاه للوقوف أو المشي، وظل يزحف كثعبان إلى حيث مكانه وسط الأطفال وهو يئن من شدة الألم. تسمرت في مكاني من شدة الخوف والهلع، في وقت ظل الأطفال غير مكترثين ولا مبالين بما كان يحدث، فمن كثرة ما عايشوه من جلسات للتعذيب أصبح الأمر بالنسبة إليهم عاديا ،ولم يعد يثير في نفوسهم أي نوع من الهلع أو الخوف.
لم يتأخر الفرج كثيرا، فقد اكتشفت «ثغرة أمنية» كان بإمكانها تخليصي من ورطتي تلك، فقد كان من حق الأطفال الاستفادة من استراحة قصيرة لدواع بيولوجية، ذلك أن المسيد لم يكن مجهزا بمراحيض، وكان الفضاء المقابل له بديلا يقصده الأطفال لقضاء حاجتهم بالهواء الطلق من دون مرافق أو رقيب. قررت حينها مدفوعا بغريزة البقاء التي بداخلي أن أستغل تلك الثغرة وأهرب إلى منزلنا الذي لم يكن يبعد كثيرا عن المسيد، وهي الفكرة التي منحتني بعض الهدوء والتفاؤل والكثير من الأمل. طلبت من الفقيه وأنا أرتبك رخصة الخروج للتبول ولم يمانع، لكنه وبحركة من عينيه جاءه أحدهم بحبل في طرفه حلقة لفها حول عنقي وظل ممسكا بي من الطرف الآخر، وبينما أنا متوجه نحو مراحيض الهواء الطلق، أصبت بإحباط كبير، فقد أجهضت خطتي في الهرب. علمت بعد ذلك أن ما قام به الفقيه إزائي كان إجراء احترازيا يخص الملتحقين الجدد بالمسيد. وأذكر أنني عدت محبطا مستسلما إلى قدري البئيس دون أن أتمكن من إفراغ مثانتي.
كانت أجرة الفقيه مقابل ما يقدمه من خدمات عبارة عن أعطيات عينية تتشكل، في الغالب الأعم، من مواد غذائية لم تكن محددة القيمة أو الكمية، إذ كان الأمر يعود إلى أريحية الأسر وجودها والحالة الاجتماعية التي هي عليها. كان العرف يقضي بأن تسلم له «الرباعية» كل يوم أربعاء؛ حتى أنها اتخذت اسم «الرباعية» لارتباطها بذلك اليوم من الأسبوع. لاحظت بدهائي الطفولي أن ذلك اليوم هو اليوم الوحيد الذي يكون فيه الفقيه منشرحا ومسرورا، هو اليوم الوحيد الذي يفرج ثغره فيه إما عن ابتسامة صفراء باهتة أو ضحكة مجلجلة، كل ذلك بحسب قيمة ما يتوصل به من «هدايا»، كما لاحظت كذلك أن تعامل الفقيه مع الأطفال يختلف من حالة إلى أخرى، إذ كان يعامل البعض بمقدار من الود واللطف، والبعض الآخر بالمقدار نفسه، لكن من العنف والفظاظة. عجزت في بداية الأمر عن تفسير هذا التمييز الواضح، لكن تعامل الفقيه الاستثنائي مع المصطفى كان كفيلا بأن يكشف لي عن السر، فأبو المصطفى كان تاجرا للخضر والفواكه، ولم تكن أسرته تنتظر يوم الأربعاء لتقديم هدية الفقيه. كان الطفل يحمل معه كل يوم سلة مما لذ وطاب ما جعله يحظى باهتمام كبير لم يحظ به أي منا، حتى أنه كان ينعم من دوننا جميعا برخصة استثنائية تمكنه من الذهاب إلى بيته متى شاء.
هذا جعلني أكتشف ثغرة أمنية أخرى في نظام المسيد العسكري، فأن تتجنب كل أنواع التعنيف والقهر كان الأمر يقتضي أن تضمن ود الفقيه، وقد كان السبيل الوحيد إلى ذلك هو إرضاؤه بـ «رباعية» قيمة.
استنتجت بدهائي الطفولي أن الفقيه كان يحب كثيرا تلك القطعة من الزبدة الملفوفة بعناية في ورق خاص، والتي كانت تضمنها والدتي ضمن «رباعيته»، إذ لاحظت أن تلك القطعة الثمينة كان لها مفعول السحر على فقيهنا، فقد كانت كفيلة بأن تفكك ملامح وجهه المتكلسة والعابسة، لتحل محلها تقاسيم منشرحة وباسمة قلما كانت ترتسم على محياه. حينها فقط؛ أدركت أن كل مشاكلي مع تجربة المسيد ستحل دفعة واحدة، ما دامت تلك المادة السحرية كفيلة بأن تفي بالغرض، خصوصا وأنها كانت متوفرة لدينا بكثرة وفوق حاجتنا، بحكم مهنة والدي الذي كان سائقا لشاحنة لتجميع الحليب من الضيعات الفلاحية المحيطة بالمدينة.
لقد ترسخت تبعا لذلك في مخيلتي مند الطفولة وحتى اليوم، أن الزبدة مادة سحرية لها من القدرات ما ليس لغيرها، ألم تخلصني من تبعات تجربة كانت ستكون قاسية من دونها؟ ألم تكن سببا مباشرا في ترقيتي حين اشتد عودي قليلا إلى درجة مساعد الجلاد المكلف بالفلقة؟ ألم تمنحني كما المصطفى رخصة استثنائية ومن دون الجميع لزيارة بيتنا متى شئت ذلك؟
توفي الفقيه بعدها بسنوات، ولعل وفاته تلك كانت نتيجة مضاعفات ارتفاع نسبة الكوليسترول لديه من كثرة ما التهم من الزبدة.


الكاتب : اعداد: زهير فخري

  

بتاريخ : 28/12/2020