دفين الرمال

كنا ثلاثة. أنا وأخي وابنه. اسمي محمود وأخي يسمى محسن وابنه نناديه بالسيمو. ننعزل عن الجميع، ونتلهى بالحكايا القديمة عن الأرض والخلق ونظام التفاهة. ولا نقلب الأرض بالفأس كي نستخرج الماضي من ذاكرتنا. اتفقنا على استغلال ما تبقى من الزمن في العيش مشيا، ومقت كل المغريات التي تعترضنا. السيمو يبصق عليها ويدفنها في نظام التفاهة. ولأن السيمو شاب يطير مع الحمامk يبحث عما تنقره التفاهة من نكت بذيئة ومقالب الأولين و المتأخرين ….
طوال عشرتنا خرقنا الحشمة ورميناها في الصحراء إلى حد أن أضحى السيمو أبا لابن عمي، يتمرن ويجرب عليه ما درسه وما يدرسه في الجامعة، يبحث عن الضوء الكثيف في كل مكان ليرسم على الجلد رسومات بديعة. بينما أنا أتبول على نظام التفاهة لأملأ رئتي بضوء ابن عمي الذي يبحث عنه. كل واحد منا متخصص في عمل ما، خصوصا حين نخرج من المدينة أنا أتكلف بقيادة السيارة وجمع مستلزمات الرحلة. ومحسن يجيد الطبخ وصنع الشاي، بينما السيمو بحكم صغر سنه يتكلف بالتسوق وشراء ما نحتاجه من مأكل وشراب.
اخترنا هذه الليلة السفر إلى الجنوب وبالضبط إلى مكان يسكنه الله بكامل أناقته وسلطته، حيث الصحراء تطوي السماء في الوصل، وتسافر في الأسطورة والخرافة. لم يكن الغرض رؤية المطلق في الصحراء ولا حتى ركوب فرس امرئ القيس أو الشمقمق. ولا حتى تنقية دواخلنا من تفاهة النظام. وإنما لغرض صحي، يتمثل في علاج ابن عمي الذي سكنت الرطوبة عظامه.. كيفما كان المبرر فنحن الثلاثة نهرب من المدينة الكبيرة بفرح طفولي. لم يكن أحد منا يقوى على الاعتذار أو تأجيل موعد الرحلة، كما لو كنا رصاصات تنتظر من يمسها كي تنطلق وتنفجر في الهدف مثل الرغبة الأولى للذهاب إلى أحد الجبال بالأطلس. لكننا نتوقف على حدود بركة من البركات المنسية في هذا البلد. نبني خيمتنا ونشعل النار على عجل. يخرج السيمو هاتفه النقال ويتحفنا بسماع أغاني الشعوب القديمة. كان يهوى سماع الموسيقى بجنون منذ أن كان صغيرا. صنع قيثارة وحاول الغناء وحين رآه محسن كسر القيثارة الورقية على رأسه. بكى السيمو وهو لا يعرف سبب تكسير هذه الآلة الورقية. يعيد الحكاية علينا كما لو حدثت بالأمس القريب. كان علي الانتقام قال السيمو. رد عليه الأب: هذا الولد مسخوط. شدتني رغبة ما لإحراق مرسمك. إلا أن صديقي تلفن لي وأخبرني بأن المقابلة بين بايرن ميونيخ وآسي ميلان انطلقت قبل دقيقتين. رميت دوافع الجريمة على السطح واتجهت مسرعا نحو المقهى. ابتسم محسن وقبل ولده بعمق وقال: الأجمل فيك هو طيرانك.استوى الجمر على الأرض. وضعت ثلاثة أحجار متساوية بجانبه. وضع محسن الطاجين والنوم يتسلل كلص إلى العوم في البركة الهادئة. كنت أرغب في رقصة زوربا الإغريقي. عدلت عن الفكرة لعياء حط علي كليل استوى على الماء. شربنا قنينة واحدة والتهمنا الطاجين وهو يفور بخارا و نمنا نحن الاثنين. بينما جلس السيمو على صخرة محاذية لبركة الماء. يتأمل بصفاء المتعبد. هو لا ينام إلا بضع دقائق. يقرأ كتابا ما على ضوء القمر أو على ضوء هاتفه النقال. ينصت إلى أشجار الصفصاف والسرو والجوز واللوز وسواها من أشجار تسكن الجبل وتنتعش بما تبقى من ندف الثلج. يخرقه خواء الطبيعة وعواء ذئب أو نباح كلب بعيد وأصوات أخرى تخيلها وأرعبته. شخيرنا ينتقل بقوة من مرحلة إلى أخرى. وضع السيمو سماعتيه على أذنيه واسترخى نائما بمفعول موسيقى بيانو ممتزجة بخرير المياه وشخيرنا.
في الخامسة صباحا أيقظنا السيمو بسخريته المعهودة، وهو يقذفنا بالشتائم ونحن نضحك ونضحك.. قال السيمو: لست حارس الليل والشخير. علينا التناوب على الحراسة كما التناوب الحكومي تماما. احتلت ضحكاتنا المكان. هيأنا فطورنا وانكمش كل واحد منا في عمله. هذه رحلة واحدة من رحلاتنا إلا أن رحلة الصحراء التي رسم محسن في قطع من الجلد مسارها، هي الرحلة الماتعة في تجربتنا.
لم نصل إلى الصحراء إلا بعد ثلاثة أيام. نتوقف في هذا المكان ليلة ثم تستهوينا امرأة ما نسهر في كوخها الطيني ونغني إلى أن يطل الفجر من كوة صومعة بعيدة، ندفع حساب الليلة ونمضي بعرقنا وذاكرة الماء.. نتابع الطريق نحو الصحراء.. مدن صغيرة موشومة بقساوة الطبيعة والدولة، فيها بنيت سجون بعلامات القرون الوسطى. سجون ما زالت تزعج هدوء الصحراء. قلت لهما: الصحراء مرتع الأفاعي والعقارب والتعذيب. في كل صحراء من هذا العالم تبنى السجون والسراديب وما إلى ذلك. قال محسن : وفيها كذلك صفاء الله ونقاء الروح. قال الولد : إنكما تتجهان نحو المجهول. كنت أعرف عشق محسن للصحراء، ورغبته في دفن جسده بسخونة الرمل وتلاوة ما تبقى من الشعر الجاهلي المحبوس في ذاكرته. وصلنا إلى أقرب مدينة من سراب المجهول الذي يسكننا. قلق ما يبدو على محيا السيمو بمهل وهو يسب في خاطره سبب مجيئه مع عجوزين يضرطان في كل لحظة ولا يقويان على عقلها. يشمان منها رائحة التراب. كما لو كانا يقتربان منه. لم يقل لي السيمو ما يدور في دواخله ولأنه مسؤول على تدبير مال الرحلة، أمرني بالوقوف قبالة فندق الصحراء. ثمة سياح يدخلون ويخرجون بألسن تختلط بسخونة الغبار. اقتربنا واتجهنا نحو مدخل الفندق. مكيف الهواء يعيد للأجساد طراوتها. جلست رفقة ابن عمي في ركن من الصالة على أريكتين متقابلتين بينما السيمو يقف قبالة مكتب الاستقبال. بالكاد وجد غرفة بثلاثة أسرة. دفع حساب ثلاث ليال دون إشراكنا في القرار. بيننا واستلام الغرفة ساعتان ونصف. أعطيت السيمو مفتاح السيارة. أخرج منها حقيبة ظهره. حط المفاتيح على الطاولة وأخرج من حقيبته مايو السباحة ثم دلف مسرعا نحو المسبح. نحن كذلك خرجنا إلى باحة الفندق المقابل للمسبح واتجهنا نحو زاوية مظللة وطلبنا الجعة وكأن الجعة قبالة الصحراء تنعش توازننا. أشار السيمو إلى أبيه لحمل ملابسه إلى طاولة تفرغ آهاتنا التي تنشف الحلق والسيمو يسبح بمتعة طفل تحرر من ملابس. ينظر بمكر إلى الأوروبيات وهن يسبحن بدون صدريات ويبحث بمكر كذلك عن شابة توقظ ما أخفته الصحراء في جاهلية أبيه. اقترب من واحدة ولمسها بخفة تقدم نحوها باعتذار وقدم نفسه إليها. و قال لها : ما رأيك في شرب كأس جعة باردة؟ ابتسمت له بابتسامة محايدة خرجا من المسبح وجلسا عند أقرب طاولة بدون شمسية. طلب من النادل جعتين باردتين وشمسية تخفي وجهيهما عن الشمس، تعارفا بسرعة دون الاسترسال في الخاص من الأخبار. كالمهنة والسن والبلدة وما إلى ذلك. لكنه حدس من كلامها أنها باحثة في الخيال. وكأن حدسه أسقطها عارية أمامه. كان السيمو قرأ للمفكر الفرنسي جيلبير دوران. اسمها كاتي وهي كاترينا في أوراقها الشخصية. عرف أنها أتت إلى هنا إلى هذه الصحراء لمتابعة بحثها حول السراب. وعرف كذلك أنها رفقة زميلتيها. طلبا جعتين، وشرباها دفعة واحدة، وارتميا في المسبح. تبول خفية، هي الأخرى تبولت. آه لو التقيا في ما بينهما وسط الماء. أخبرته كاتي أن عليها تناول الغذاء والاستراحة قليلا، ثم الذهاب إلى عمق الصحراء في هذا القيظ الممتع. اتفقا على الموعد ليلا.
جلس السيمو جنب أبيه، دون الالتفات إليه. أخذ هاتفه النقال وبدأ يقرأ كتابا ما أو ربما وجد شاشته مهربا من أسئلتنا، نحن العجوزين اللذين تعرفا على طيران السيمو. ضحك محسن إلى حد اختناقه و قال: إنها جميلة! رد عليه ابنه بطفوليته المعهودة : من؟ قال الأب : السماء والصحراء. وضحكنا حتى كدنا نسقط القناني على بعضها. دفع الولد الحساب، حملنا حقائبنا إلى الغرفة واستلقينا على الأسرة، والمسبح يتموج بضحكتنا كأننا نساير الولد في هواه. ساعتان من النوم الثقيل استيقظنا ورؤوسنا تتقلقل بزبدة الجعة الباردة، خرجنا من الفندق وبحثنا عن مطعم صغير لتناول الغذاء. السماء تقترب من الأرض بشموسها المتعددة والإسفلت تذيبه العجلات وأحذية الصحراء. تناولنا سندويتشات سريعة دون مذاق. يمتزج التراب بالغبار وخيوط الشمس التي أضحت سهوما تخترق دواخلنا وتحدث فيها حرائق، لا ماء بارد أو سطلا من الجعة المثلجة يطفئها. قال محسن: نحن في جهنم. رد السيمو: أنا الأحمق الذي يتبع عجوزين يقتربان من الموت كان علي،يضيف، أن أذهب إلى ماربيا أو شواطئ « كوت دازير». قلت مهدئا توتره: ستعيش « الكوت دازير» في الصحراء. احمرت وجنتاه وغرق في عرقه. خرجنا من المطعم والمدينة تطوي جحيمها على أجنحة ذباب تواق لما يشبه الرطوبة. دخلنا الفندق ثم الغرفة ودخلنا الدوش تباعا. استلقينا عراة على الأسرة الثلاثة، وتحدثنا في كل شيء ولا شيء لتذويب الزمن الثابت. الوقت في الصحراء يسير بتثاقل وصبر وحرارة المكان مرادفة لكسل لا حدود له.
قال السيمو: هل لديكما برنامج؟ قلت : تلك مسؤوليتك. اقترح برنامجا مدققا وملخصه أن كل واحد منا حر في هذا المساء. ابتلع محسن فطنة ابنه وسايره في مقالبه. نظر إلي السيمو بمكر وقال لنا : تجولا في الصحراء قليلا وابحثا عن حانة المتقاعدين الضائعين، واشربا ما طاب لكما، ولا تضيعا مالكما على النساء، ومضى نحو المسبح لتمرين جسده على ما ينتظره في الليل، وإذا لم يكن ذاك ممكنا، سيلتحق بنا خائر القوى.
لم نخرج من الغرفة إلا في حدود الثامنة مساء، كل واحد منا منشغل في قراءة كتاب ما. في طريقنا إلى الخارج، توقفنا قليلا داخل الحانة. كان الولد رفقة كاتي يتناولان المثلجات. لم نعرهما اهتماما وقفنا قبالة الكونطوار. جعتان باردتان كافيتان لإطفاء الحرائق الملتهبة في دواخلنا، وسرنا من الجهة الأخرى حتى نضيع مع خيال هذا الولد الطائر. تسكعنا في دروب المدينة. الفقر تبتلعه عدسات التصوير. والمطلق فينا لا تستجيب لعوز عجنته الشمس الحارقة. حتى القمر لا يلهم الشعراء في هذا القيظ الذي يوزع الجمر على الجميع ماعدا سياح التهمتهم برودة أوروبا. يلعبون بخيوط الشمس ولا يسجدون إلى القمر إلا حين يخرجون بضع كلمترات من المدينة. ذكرت محسن بما هو قادم لأجله. سألنا نادل الحانة عن الطريق والمسكن وسواه. و أعطانا بكل دقة التفاصيل عند أهل الصحراء ومد لنا هاتفا لأحد الأشخاص الذين يديرون دفن الراغبين في حرارة التراب. أعدنا الدائرة إلى بدايتها وهي لا تستقيم إلا بالنبيذ. كاد محسن يتلف قصيدة الشمقمق في الكأس الرابعة ، سوى جلسته وتحدث عن المسخوط، قال: الآن أراه وهو يجدف بيده على بياض تيبس بصقيع جبال الألب، سيعطيها المعنى في الخيال الذي تبحث عنه داخل هذه الصحراء المسكونة بالأفاعي. التمعت عينا محسن بألق وهو يرى ابنه وقد استوت رجولته ونضج. قلت لمحسن : علينا أن نزوجه. رد علي بتثاقل : لا أريد عودته إلى بطن أمه. دعه يطير كما العصافير الجميلة. دفعنا الحساب وخرجنا، وساعة الحانة تشير إلى الحادية عشر ليلا. الحانة قريبة من الفندق. مسحت المكان بعيني دون أن يكون الولد ولا حتى الباحثة عن الخيال في السراب. المفتاح غير معلق على سبورة المفاتيح. اتصلت بالغرفة لا جواب، أين هو الولد؟ قال محسن : لقد طار مع الطيارين وسننام قرب المسبح انتظرنا قليلا. هاتفي النقال يرن. أنا في الغرفة، قال الولد. وصعدنا إلى الطابق الثالث، بينما كاتي تودع عصفورها وبريق عينيها يضيف لرسومات محسن بعدا آخر. تواطأنا على ستر الحكاية في أقرب خيمة نصادفها في الطريق. مر اليومان الآخران بضم حكاية إلى حكاية أخرى ووضع الصمت بينهما حتى تبقى لكل واحدة منهما طراوتها. في الليلة الأخيرة، وضع الولد قنينة نبيذ فرنسي على الطاولة فتحها بصمت وصب كأسا لأبيه كي يشرب حكايته ويرسمها على ضوء القمر. قلت : أجمل ما في كاتي هو هذه القنينة التي طردت الغبار المتسرب في الحلق. قال : اشرباها بالصحة والسلامة. في الصباح، بعد فطورنا بالفندق، حملنا أغراضنا واتجهنا نحو باب الصحراء. المكان الذي سندفن فيه محسن برسوماته التي لم يكملها بعد، المسافة قصيرة، وأهل الصحراء بخيامهم وأباريق الشاي ولباسهم يعرضون علينا خدماتهم، الشخص الذي اتصلنا به هاتفيا ينتظرنا. اكترينا خيمة في مكان قريبا من مسبح تم ملؤه لأول مرة. الشمس تلهب مؤخرة الرأس وتذيب ما يبسه الزمن في العيون، نخيل لا يظلل إلا قليلا ولهيب الشمس تهب الصبر للمعوزين. كانت الحفرة مهيأة وعلى محسن دفن جسده بطواعية. كما هو الغابر الظاهر وبطقوس ممسوسة بالعجيب، تمتم العجوز بكلام لا تسمع منه سوى حرف الهاء. وجه محسن ثابت على سطح التراب، هو الآن ظاهر، بينما الجاهلي فيه غطته الصحراء. تركناه بتلك الحالة وتهنا بين الخيام، والولد يسخر مني ومن أبيه. لم أسأله عن ليلته مع الخيال. ولا عما كان الحديث يدور بينهما، كنت صامتا لا أعرف ما يدور في رأس ابن عمي وهو يتصبب عرقا. لم نكن نعرف زمن الدفن ولا زمن ملء العظام بحرارة باب الصحراء. ولم أسأل السيمو وهو يمسح خوفه من عينيه. لِمَ لَمْ يقل لي أنه الأحمق الذي يتبع عجوزين لا يقويان على عقل ضراطهما. فقط أرى ركوع الشمس في الجهة الأخرى من السماء. مغيب الصحراء يتلف الحواس ويبدع لوحة غريبة على سطحها. عدسات التصوير إساءة لها، وكأن اللوحة تلك لا تقبل التصوير. ثلاث ساعات كان محسن غابرا فيها تحت الرمال. أخرجه الشيخ من قبره وغطاه بملاءة صوفية. ناوله كأس شاي، كأسا من خليط لا أعرفه، تمدد محسن على سرير ونام، بينما أنا والسيمو تناولنا عشاءنا وجلسنا قرب المسبح نشرب نبيذا دون كلام. تقدمت نحونا فتاة في عقدها الثاني وطلبت مني سيجارة. مددت لها واحدة والسيمو يولع سيجارتها طالبا إياها الجلوس معنا قليلا . مد لها كأسا أدارت عينيها يمينا ويسارا ثم شربته دفعة واحدة. لم تقل له الشابة سبب تواجدها في هذا المكان الذي تسكنه الأفاعي والعقارب، وحين أنهينا القنينة، اتجهت نحو الخيمة لأستلقي قليلا بينما السيمو بعينيه اللعوبتين خرج رفقة هذه الصبية إلى الخارج كما لو كانا يرغبان كشف عريهما قبالة السماء. لم يكن ذلك ممكنا . سقطت الشابة بين عينيه عارية .شخير محسن يتلوى داخل الخيمة ولا يخرج إلا حين تزداد ذبذباته، بينما أنا أتصيد النوم بين شخير وآخر. دخل سيمو الخيمة والساعة تتجاوز منتصف الليل. جر السيمو الصبية مخبرا إياها أنهم نيام. تعريا وكان للجسد عري الحكاية ما قبل الأولى.


الكاتب : حسن إغلان

  

بتاريخ : 20/11/2020