ديوان “جاؤوا لنقص في السماء” لعبد الحميد جماهري : جماليات التشكيل اللغوي وبناء المعنى

يتجه إبداع الشاعر رأسا إلى خلق الجميل وإشاعته بين القرّاء، سيرا على سنة الله في الخلق، وقد قال بيركليس مرّة: إن الجمال هو القوة التي يدعو بها الله جميع الكائنات إليه بعد صدورها عنه، وهو الصفة الإلهية التي تجذب المخلوقات إلى خالقها، وفي فعل الخلق ذاك يسخر الشاعر مادته الأثيرة الأولى وهي اللغة، فهي زادُه وسره الكبير، في مناكبها يوغل بحثا عن مكنونها، مسخرا إلى أقصى مدى طاقتها التوصيلية لجعل قارئه يقف مسحورا أمام صنيعه، لذا اخترت أن يكون عبوري إلى الجميل، في ديوان الشاعر عبد الحميد جماهري الموسوم بـ «جاؤوا لنقص في السماء، ديوان في حالتي» عبر آلية اللغة، وحتى لا تتشعب سبل القراءة سأحاول أن أبقيها متصلة بسؤالين مؤطرين:
1 – ما هي أهم الأساليب اللغوية والبلاغية التي سُخّرت في بناء القصائد؟
2 – كيف أسهمت هذه الآليات في تشكيل المعنى في القصائد؟
اشتغال الآليات اللغوية
في عتبات الديوان

لا يستقيم ولوج بيوت القصائد دون العبور عبر عتباتها، إذ لا يمكن لأي نص أن يبنى بدون عتبات لا بد من اجتيازها للدخول إليه، كما يشير إلى ذلك Gérard Genette، بصرف النظر عن النقاش حول جدارة هذه العتبات بالاهتمام، مادام بعضها يلحق بالمؤلفات في مرحلة متأخرة لأهداف تسويقية، وإغرائية غالبا. إلا أن بعض هذه العتبات تقدم جزءا من المعنى، وتساهم في توجيه آلية القراءة، واستنفار مداخل التلقي والتأويل. من هذه العتبات الموثوقة الدلالات، يمكن التطرق إلى العناوين بأصنافها المختلفة. يُلاحظ القارئ أن عناوين الديوان نسقت بطريقة تشبه دمى «ماتريوشكا» الروسية التي كلما فتحنا واحدة منها نجد نموذجا مصغرا عن الأخريات، ولا تكتمل جماليتها إلا بالنظر إليها مجتمعة بعد تنضيدها قرب بعضها بعد الانتهاء من عملية التفكيك.
العتبة الأولى، العنوان الرئيسي: جاؤوا لنقص في السماء، في ديوان حالتي
يؤطر هذا العنوان العريض الديوان بأسره، بوصفه مدخله الرّئيس، وسنجده يتحقق داخل الديوان مرة بوصفه عنوان جزء من أجزائه، ومرة أخرى بوصفه عنوان قصيدة من قصائده.
نرصد حضور آلية الاضمار والحذف في تشكيله، ممثلة بداية في الضمير المتصل بالفعل «جاؤوا»، حيث كُشِف الحدث(المجيئ)، وزمن وقوعه (الماضي)، لكن تم إضمار الفاعل، مما سيستدعي السؤال البديهي: من هم هؤلاء الذين جاؤوا؟ من أين أتوا؟ وإلى أين؟ هذه الأسئلة تغري بمُسايرة الذات الشاعرة والمُضي في لعبة فتح الدمى/العناوين واحدا تلو الآخر، لكشف ما أخفي من معانيها.
يحضر الحذف المعنوي أيضا في الجار والمجرور، «لنقص»، الذي سدّ مسد المفعول الذي لأجله وقع الفعل، محققا جوابا «بنصف المعنى فقط» عن سؤال لماذا جاؤوا؟ فمجيء هؤلاء المجهولين، كان لنقص معين في السماء، فما هو هذا النقص؟
يُشغّل العنوان الحذف ليثير فضول المتلقي، ويغويه بالتطلع إلى مزيد من المعرفة، والاستمرار في القراءة محققا شرط الاستدراج، ليسقط الغاوون في شراك الشعراء، أفلم يرد في الذكر الحكيم أن الشعراء يتبعهم الغاوون؟
غواية البحث عن المعرفة، استحضار للغواية الأولى التي قادت آدم إلى النزول نحو الأرض، يقول الشاعر، متحدثا عن ابن آدم:
ولأن أباه كان من قبل
لا يعرف أن المعرفة محاولة انتحار
فقد بدأت الإنسانية
بمحاولة انتحار فاشلة (ص59)
يوصلنا العنوان إلى خلاصة تؤطر عملية قراءتنا للديوان، وهي أن بلوغ المعرفة المضمرة بين القصائد ليس عملية سهلة، فدونها ودون المتلقي رموز، ولغة تخفي أكثر مما تظهر، وأساليب بلاغية، وسحر بيان، وعناوين بعضها فوق بعض، وطُرقٌ، وقصائد، ونقص ينتظر الكمال.
العتبة الثانية: العناوين الثانوية
العتبة الموالية في الديوان تنشئها العناوين الثانوية، التي تقسم الديوان إلى خمسة أجزاء، حمل كل جزء منها عنوانا ثانويا، كالتالي:
1 – في انتظار الحرب. 2 – جاؤوا لنقص في السماء. 3 – اجلسي بقربي ايتها القسوة. 4 – سيرة عائلية لآدم. 5 – تعريفات الظل.
لن أخوض في التحليل اللغوي والبلاغي الدقيقين لهذه العناوين، رغم أن هذه الإوالية تبدو مغرية، وواعدة بكشف أجزاء، وأجزاء من المعاني المضمرة في أبيات القريض، لكنني سأكتفي بقراءتها على ضوء أبرز ملامحها الدلالية واللغوية.
– العنوان 1 في انتظار الحرب: وظفت شبه الجملة من الجار «في» والمجرور ممثلا في المصدر «انتظار»، تحللا من التحديد الزمني الذي يفرضه استعمال الأفعال، مادام المصدر اسما يفيد حدثا معينا غير مرتبط بزمن، فجاء معنى الانتظار مفتوحا بلا حدود زمنية تؤطره، وهذا هو أسوأ أنواع الانتظار، وحتى في مدخل القصيدة نفسها يقول الشاعر:
قد تصل الثلوج إلى القفار
ولا تصل الحرب (ص13)
يمتد زمن الانتظار من العنوان حتى القصيدة، ومنهما حتى بعد وصول كلّ شيء آخر، إلا هذه الحرب المنتظرة، فهي تتأخر ولا تأتي، لتقبع في زمن ما في المستقبل وتقضّ مضجع الجميع، وتستنزف فكرهم، تاركة الجنود، وهم حطبُها الأثير، عرضة للفراغ والعزلة والخواء، والندم كما يصورهم الشاعر حين يقول:
ما الذي يقوله لك المستقبل أيها الجندي
وعلى قلب الحبيبة
بندم حقيقي وأنت تتفرس الخواء الوحيد (ص 13)
-العنوان 2 جاؤوا لنقص في السماء: يشكل هذا العنوان الفرعي عنوان الديوان ومدخله الرئيس كما أسلفت، مع حذف في هذا الموضع لعبارة ديوان في حالتي الذي ذكر سابقا، وإضافة تفاصيل أخرى إليه لاحقا هي التواريخ 11 شتنبر، 16 ماي، عندما سيجعل منه عنوانا لقصيدة لاحقة. خلال هذه السيرورة من الكتابة والاضافة والحذف، يَخضَع العنوان لسيرورة من الحذف والتعديل كما يلي:
– بداية، جاؤوا لنقص في السماء، في ديوان حالتي (عنوان الديوان)
– ثم، جاؤوا لنقص في السماء (عنوان الجزء الثاني منه)
-وأخيرا، 11شتنبر- 16 ماي، جاؤوا لنقص في السماء (عنوان القصيدة الأولى من الجزء الثاني)
يمكن تلقي هذه السيرورة كما يلي: يفصل العنوان عن الذات الشاعرة ليربط بالتدريج بسياقين زمنيين محددين، ارتبطا بأعمال إرهابية، وقع أولها خارج المغرب ووقع الثاني داخله. تتضح إذن معالم الحرب البائسة، هذه الحرب التي تسعى لبسط العتمة في الداخل والخارج، متوهمة أنها تكمل بذلك خطاب السماء، انطلاقا من فكر أحادي يشبه البرك الآسنة التي تتربص بالمروج والغابات محررة غرائز الرد على الكراهية بالعنف، بدعوى ضمان الفوز بالآخرة ومفاتيح جناتها، يقول الشاعر في القصيدة نفسها في هذا المعنى:
أقولها مرة أخرى للنسيان: أحاطت البركة بالغابات
وقالت الحياة بلسان صقيل لطفل يكذب
لا الحرب
بل أصابع الموتى أكثر وضوحا
لا أحد يقدم مفاتيح الآخرة
الموتى استنفدوا صبرهم فعدوا الصغار في القبر، أصواتهم حشرات (ص32).
يؤسس الشاعر من خلال وضع هذا العنوان عتبة ثانية، وتكريره أكثر من مرة، مدخلا مهما نحو المعنى الأهم في الديوان، فيبئر بذلك الجزء الثاني من الديوان، ثم يبئر بعد ذلك القصيدة الأولى في هذا الجزء.
-العنوان 3 «اجلسي بقربي أيتها القسوة»: في هذا العنوان يخاطب الشاعر القسوة بوصفها ذاتا واعية، موظفا صيغة الأمر الذي صدر على وجه الاستعلاء، طالبا منها أن تقترب منه لتجالسه، فالذات الشاعرة تحمل من الأسى ما قد يفوق تصورات القسوة ذاتها، وطلبُ القرب منها علامة دالة على انتفاء الخوف منها، أو الحذر من التواصل معها، بل إنّ الذات الشاعرة تبحث عن القسوة وتحتاجها في مخاطبة ذاتها، وفي القصيدة تأكيد لهذا، حين يقول:
أحتاجك لأتحدث إلي
لأعطيك حزنا رقراقا
لا يسألني أمامك
من أين أتيت به
-العنوان 4 سيرة عائلية لآدم: ينسجم بناء العنوان مع العناوين السابقة من خلال حضور مكون الحذف في بنائه، مكملا غموض المعاني، وتفلتها، فقد قدمت السيرة مجردة من كل صفة تحددها وتجلي المقصدية من إيرادها، وحذفت كل علامة تصفها، مؤجلة إدراك المعنى المحذوف إلى ما بعد قراءة القصائد كاملة. السيرة العائلية الحقيقية لآدم محفوظة يعرفها الجميع، لكن الغموض الذي شاب بناء العنوان يجعله متروكا للعبة الأسئلة، لمزيد من الانفتاح على معان أخرى، أ يتعلق الأمر في هذا الديوان بالسيرة العائلية نفسها كما تداولتها الكتب السماوية جميعها؟ أم بسيرة جديدة تخضع لإعادة المراجعة والنظر؟
يمكن القول أيضا أن اسم آدم وظف ليحيل على البدايات الأولى للبشرية، وعلى الذنب الأول، وهو الاسم العلم الذي يحمل طاقة تعريفية كبيرة، بوصفه اسما دالا على أبي البشرية الأول، آدم الذي ألقى بنفسه من أعلى السماوات، بحثا عن المعرفة، يقول الشاعر:
بدأت الإنسانية
بمحاولة انتحار فاشلة
لما ألقى آدم
بنفسه من أعلى السماوات
إلى الأرض
وظل حيا
حدث ذلك بدون قصد
في ما يبدو …
هذا التوظيف يوحي بضرورة العودة إلى البدايات دائما حتى نتمكن من فهم ما يحصل الآن، وتفسيره، وإلا فإننا بدون تلك الجذور سنظل نضرب في الأرض وفي بعضنا وفي الحقائق بدون نتيجة، غير أن هذه العودة تعني أيضا مراجعة ما مضى بناء على ما استجد الآن من تطورات، يقول الشاعر في قصيدة آدم يلقي بنفسه من أعلى السماوات:
تطبيق علم النفس الإجرامي على قابيل هو الحل. (ص59)
-العنوان 5 تعريفات الظل: في هذا العنوان الذي وسم الجزء الأخير من الديوان، انتقى الشاعر كلمة تعريفات في صيغة جمع التأنيث السالم مضافة إلى الظل المفرد، لأن التعريفات ليست منحصرة في تعريف واحد ضيق، بل هي متعددة ومتشعبة، وفي هذا التعدد إيمان بتعدد الرؤى، والأفكار والاستنتاجات، بل وحتى تعدد الخلفيات العقائدية والفكرية التي أنتجتها، فعوض أن نخضع الجميع لسلطة تعريف واحد قاطع نهائي، يجعلنا الشاعر ننفتح على تعاريف متعددة، غير محصورة العدد، لمفرد واحد.
والظل في دلالته الرمزية مساحة يستأسد فيها المسكوت عنه والهامشي، وهو أيضا مساحة تغيب فيها فرص تحديد الملامح الدقيقة فيحضر الإيهام، والإبهام، ويستدعيان حالة من التيه قد تجعل الفرد الواحد يبحث عن هويته في الظلال فلا يعثر عليها، يقول الشاعر معززا هذا التيه في مقطع من مقاطع هذا الجزء من الديوان:
أحد ما يطل
من أعماقي
ولا يصل إلى المرآة (ص72)
الذات الشاعرة، ليست سوى انعكاسا لذوات المتلقين، ذات مجزأة تعاني التشظي، وغياب ملامح المحددة، بدليل توظيف النكرة «أحد ما» في توصيف الجزء غير المدرك منها ذلك الذي لا تستطيع حتى هي رؤيته في صورتها على المرآة.
العتبة الثالثة: العناوين المختارة للقصائد
توصلنا لعبة التفكيك المشار إليها آنفا، إلى مستوى العناوين الفرعية التي اختيرت مدخلا إلى كل قصيدة، وهي أربعة وعشرون عنوانا فرعيا، أقدمها اختصارا ضمن مجموعات حسب تيماتها الرئيسية.
-المجموعة الأولى:(السماء لم تمتلئ بعد، بالملائكة- صراحة هي ليست وعكة- في انتظار الحرب- لولا الجثث- لاهوت الأنقاض- علمتنا المتاحف- لو يفاجئنا الخراب بموهبة). تحوم عناوين المجموعة حول تيمة الحرب، لذلك نجد أن الحقل الدلالي المهيمن على مفرداتها هو القتامة المميزة لأجواء الحرب، من خلال مفردات من قبيل الفراغ، والوعكة، والانتظار، والجثث والأنقاض والمتاحف بوصفها سجنا للذاكرة، والخراب. هذه القتامة الثقيلة الموحية بمشاعر مختلفة يؤطرها الخوف من المجهول تخيم على مداخل القصائد، وتوجه المتلقي إلى تناولها بمزيج من الحذر والتوجس.
-المجموعة الثانية: (11 شتنبر-16 ماي جاؤوا لنقص في السماء- سماء وأرض: واقعان، أحدهما ليس في مكانه- من أنا؟ -حديث مقتضب مع الملاك) المجموعة الثانية من العناوين تمتح من تيمة النقص وعدم الاكتمال، هذا النقص الذي لم تنج منه السماء، ولم يسلم منه حتى موقعهما الذي ينقص بعض المنطق مكانهما، بما أن أحدهما ليس في مكانه.
الذات الشاعرة بوصفها انعكاسا لمحيطها، تشكو أيضا نقصا تاريخيا في إدراك هُويتها، يعكسه السؤال من أنا، وحتى الحديث الذي يفتح مع الملاك في العنوان الأخير، يشوبه نقص نجم عن اقتضابه ومحدوديته.
-المجموعة الثالثة: (اجلسي بالقرب مني أيتها القسوة- سأخلق الألم أولا- الجديرون باليأس-مولود في نظرة شخص آخر-ضع حصاة في فمك وتذوق.. البحر كله- المجهول شقيقك في الحياة- أنا الرجل الأعمى الذي اشترى الشجرة). ينظم عقدُ هذه المجموعة خيط القسوة، وما يلازمها من مشاعر الألم واليأس والتشكل وفقا لإرادة الآخر، المجهول.
-المجموعة الرابعة من العناوين (آدم يلقي بنفسه من أعلى السماوات- أين كانت الأرض تربي هذا الضباب، يا أبي؟)، قد يوحي طول العناوين يكشف طول المدة الزمنية التي استغرقتها السقطة الشهيرة لآدم من السماء، والمأزق الذي علق فيه أبناؤه من بعده وهم يحاولون العودة إلى فردوسهم الذي فقدوه في لحظة تطلع إلى المعرفة الكاملة، في هذه المجموعة الأخيرة عنوانان فقط، يحقق انسجامهما لفظ آدم ولفظ الأب، فآدم هو الأب الأزلي للجميع، كما يعكس الاستفهام في العنوان الثاني تلك العلاقة التي لا تنقطع بين الأب وكل الأجيال التي جاءت من بعده، حاملة غوايته الأولى نفسها، باحثة عن المعرفة بكل السبل، متطلعة إلى إيجاد تفاسير لما تعجز عن فهمه، بسؤال الأب رمز المعرفة الأول.
-المجموعة الأخيرة أي الخامسة: (لا تترك الحياة بلا اسم- ضجر ميتافيزيقي- حتى الألم يعاملني كأن لي أجنحة). لم يخرج الحقل الدلالي الناظم لمفردات المجموعة عن التيمات السابقة، لذلك تقاطعت فيها معاني الضجر، والألم، مكملة أدق تفاصيل المأساة.
آليات تشكيل المعنى في الديوان
أعبر من عتبات الديوان إلى قصائده، مستحضرا أن جمالية المعاني لا تكون إلا باستغلال اللغة وأساليبها بالشكل الذي يجعلها تنفتح على معان أرحب، ولعلّ في توجيه هذه الأساليب توجيها إقناعيا ما يؤكد وعي الذات الشاعرة بالطاقة اللغة الكامنة، وقدرتها على تسخير الإشارة والتلميح والرمز بما يفوق قدرتها على الإفصاح والتصريح فقط، ومن بين آليات اللغة التي وظفت لتوجيه مواقف المتلقي، واستهداف وجدانه نجد:
أ-النعوت والصفات
يقول الشاعر في هذا الصدد، في قصيدة «في انتظار الحرب»:
بهذا سأسعف اللغة
لابد من أن تكون النافذة مفتوحة
على سماءٍ،
صحوةٍ بديعةٍ،
وطائرٍ يحلق قريبا
حتى تستطيع اللغة إعداد المشهد اللائق بوصول الجنود (ص9)
وظفت النعوت والصفات في هذا المقطع ممثلة في (مفتوحة- صحوةٍ – بديعةٍ – قريبا) لتخلق انطباعا وجدانيا بالرحابة والتساكن، ولتعبر عن توق جامح إلى كسر الحدود أمام التعابير لتمكينها من الانزياح عن معانيها المباشرة، وجعل لغتها تغادر سجنها الضيق كي تحلق قرب طائر حر طليق يوحي تحديد تحليقه في مستوى قريب بإحساسه بالأمان والتآلف مع محيطه، فالطيور لا تحلق إلا في سربها أو بالقرب من الأشياء التي تعي بغريزتها أنها لا تهددها، ولا تشكل خطرا عليها.
يعطي منظر الطائر الطليق وهو يحلق في سماء وصفت بالبديعة المفتوحة، إحساسا بالتناغم في مكان مفتوح، أليف يسود السلام بين عناصره. يكتفي الشاعر بإطلاق اللغة في هذا الفضاء ثم يتوارى ليجعلها تشتغل من تلقاء نفسها حتى توجد بنفسها مشهدا يليق بوصول الجنود.
ب- الجناس التام
وظف أسلوب البديع لغايات تجاوز الوظيفة التزيينية إلى غاية أكثر وظيفية تساهم في بناء الصور الشعرية الآسرة في الديوان، من هذه الأساليب أسلوب الجناس التام، يقول الشاعر في مقطع من مقاطع قصيدة «جاؤوا لنقص في السماء»:
ليس لي من بحر سوى
ما تركته اللغة من زبد على لساني
ومن نشيد،
وليس لي من لغة سوى ما تخلف من موج البحر
في وجداني
أنا الشاعر أوزع قسطي من إنسانيتي
على أشباحي
وشبهاتي (ص39)
يخلق الجناس التام في كلمة «بحر/البحر» بؤرة ينصهر داخلها معنيان متجانسان، يلتبس أحدهما بالآخر، وينشئان تقابلا دلاليا يعطي مساحة خصبة للتأويلات، فهذه البؤرة تفصح عن معنى قريب يحيل على البحر المائي الحقيقي بوجود قرائن قريبة دالة عليه هي (الزبد، والموج). يحيل البحر في هذا المستوى الدلالي على معان تستحضر عمق البحر الحقيقي وشساعته، والدينامية المميزة له، وهي الأوصاف نفسها التي تميز مقاطع القصائد ولغتها فهي دينامية شاسعة التأويلات تغوي القارئ لينزل إلى مكامنها للكشف عن مخبوئها.
كما أنها توحي في الوقت نفسه بمعنى بعيد يتسق عن سبق تدبير مع رغبة الذات الشاعرة في التحرر من ربقة حدود اللغة، والتحليق في سماء المجاز الرحبة، بلا قيود. يحضر هنا المعنى البعيد المضمر للبحر بمعناه العروضي الذي تحيل عليه قرائن مثل (لغة-لساني-نشيد-أنا الشاعر)، وكلها مفردات تزيد من حضور هذا المعنى، وتعبر عن توق إلى كسر قيد اللغة نفسه.
تضيق العبارات لولا فسحة المجاز، وتنوب اللغة عن بحورها نيابة الكل عن أجزائه، فتوحي الصورة الشعرية المنبثقة من هذا الجناس أيضا باتّحاد البحر بالذات الشاعرة، فهي عينها ما خلّفه البحر من صخبه وهديره فيها. يضطرب وجدانها، فيطفو زبد يشبه زبد الموج على لسانها شعرا وأناشيد. يختفي البحر إذن ويضمحل حضوره الحقيقي، وتظل أجزاؤه متحدة بذات الشاعر، يمثلها ويتمثلها. فيصبح المعنى أنا الشاعر البحر، ذو اللغة الهادرة التي تتلاطم أبياتها على شواطئ المعاني.
ج-التناص

آلية أخرى تأسست عليها المعاني في القصائد هي آلية التناص بوصفه استحضارا لنصوص غائبة شكّلت جزءا من صناعة المعنى في الديوان، ونجد أن التناص يحضر بوظائف متعددة، فهو آلية لاستدعاء المقدس ممثلا في التّراث الإسلامي، باستحضار النص القرآني كما في البيت التالي:
أرأيت إذا أوينا إلى الورقة
تلك التي تتكهن بأفكارنا
تستدعي هذه الأبيات الآية63 من سورة الكهف، «أرأيت إذا أوينا إلى الصخرة»، جاعلة لغة القصيدة تقترض من لغة القرآن، لأنه أرقى تمظهر للغة العربية في عرف كل الشعراء، كما يحضر التناص بوصفه وسيلة يحاور بها الشاعر قصائد سابقة من عيون الأدب العربي، ومن عيون قصائد النثر المعاصرة، فيقيم بينها وبين شعره محاورة، كما في قوله في قصيدة «في انتظار الحرب»:
لن أصالح
لم هذه الضجة
حول حقي في الأعداء
أنا لن أصالح
أنا لا أعرف سوى
حقي في التراب
كي أقيم للأعداء محكمة ! (ص17)
مستحضرا في ثنايا القصيدة، صرخة أمل دنقل في قصيدة لا تصالح، التي يقول في مقطع منها:
لا تصالح على الدم.. حتى بدم!
لا تصالح! ولو قيل رأس برأسٍ
أكلُّ الرؤوس سواءٌ؟
أقلب الغريب كقلب أخيك؟!
تؤكد آلية التكرار في المقطع الأول ممثلا في إعادة المعاني نفسها أكثر من مرة (لن أصالح- أنا لن أصالح- انا لا أعرف سوى حقي)، اقتناع الذات الشاعرة بأن خيار المصالحة في حربها المقدسة غير وارد، لأنه لا يرضيها ولا يرضي ذاكرتها المحملة بصراخ الأطفال، ولأنها تدرك بالتجربة -ولا شك- أن لا مكان لها خارج هذه القصة/القصة، فيقول مخاطبا ذاته التي تتحد مع ذوات أخرى كثيرة، هي ذوات رفاقه من الجنود المجهولين في الساحات العامة، وأصدقائه من الجنود الأخيرين في المعارك:
أيها الجندي الذي لا يحكي
إذا غادرت هذه القصة
تيقن بأنك لن تدخل أخرى (ص13)
مستوى آخر من حضور التناص، يمثله حضور ضمير الأنا في القصائد بوصفه استحضارا رمزيا لنهج الشعراء الأوائل، وهم يستدعون ذواتهم الصريحة في قصائدهم، سواء بغرض الفخر بالنسب والصنيع الإبداعي أم لرثاء حالة الإملاق والعوز أم غيرهما، كما في قول المتنبي:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم
وكما في قول عرقلة الكلبي (التغلبي الدمشقي، ق6م):
أنا الذي حظه تحت الحضيض وقد نظمت فيك بلا شبه ولا مثل
تأسس توظيف ضمير الأنا في قصائد ديوان «جاؤوا لنقص في السماء»، على مستويين أحدهما، استدعاء هذا الإرث النصي التليد، كما تأسس كذلك على مستوى آخر، استدعى صدى السؤال الإشكالي الجدلي الذي ختم به محمود درويش قصيدته لاعب النرد، عندما قال متسائلا:
من أنا لأخيب ظن العالم
من أنا؟
من انا؟
جعل الشاعر منتهى قصيدة محمود درويش، مبتدأ لقصيدته، بالتساؤل «من أنا» في عنوانها موجها بذلك شعريته، ولغته للنّبش في جينيالوجيا الذات وتشكلاتها، بحثا عن هويتها المتشظية، فقدم الجواب عن هذا السؤال متشظيا أيضا في أكثر من بيت، وفي أكثر من قصيدة في الديوان. فيقول في قصيدة «في انتظار الحرب»:
أنا لست أسيركم
أنا لست رهينة في حب
أنا حر في عداوتي (ص17)
ويقول في قصيدة «صراحة هي ليست وعكة»:
أنا فقط خرجت لأستقبل الحياة
استعصيت على الحقيقة قليلا
لأنني صدقت أن السعادة ستكون في الموعد (ص11)
وفي مطلع قصيدة «من أنا»، يقول:
أنا نحت سماء
مرت
على صخر
وعلى هواء
رسمتني… (ص34)
ويقول أيضا في قصيدة «جاؤوا لنقص في السماء» :
أنا الشاعر أوزع قسطي من إنسانيتي ص(39)
ويقول أيضا: أنا الرجل الأعمى الذي اشترى الشجرة ص(56)، ويقول أيضا في القصيدة نفسها: أنا مثل حواسي، أنا رضيع حواسي الأخرى (ص56). تعدد الأجوبة، يعكس وعي الذات الشاعرة بتنوع هوياتها، فهي وإن تجسدت في كيان واحد، تظل تحمل الجموع بين جوانحها، ففي الباطن، كما يقول الشاعر، فراشات من أرواح السابقين(ص27).
د-رمزية الماء
وظف الرمز أيضا في بناء بعض معاني القصيدة، ومن أهم هذه الرمز رمزية الماء، لما له من حضور قوي في الشعر العربي، لارتباطه من جهة بالخصوبة والحياة، ولارتباطه أيضا بأبعاد أخرى يحضر فيها المقدس أيضا.
يقول الشاعر:
أحتاج آلة رقن عتيقة لوصف كآبتي، عندما أجهش بوساوسي أضع كوب ماء بالقرب من الكرسي وأقف كفكرة طارئة تتلألأ فوق سطح الماء، وأنقر حروفا كبيرة بما يكفي لكي أصنع جلبة تلهيني، أكون كاليأس في طبيعة ميتة، من اخترع الكتابة؟ (تتساءل الذات الشاعرة). (ص82)
يعود ضمير المتكلم الذي أسندت إليه الأفعال الماضية في هذا المقطع (أحتاج-أجهش-أضع-أقف-أنقر-أضع-أكون) على الذات الشاعرة وهي في حالة مخاض إبداعي، ويشكل تواليها دينامية تعبر عن حركية تخبر عن لحظة الخلق، كما يؤسس تواليها تراكما لمعنى مضمر، يخبر عن ذات شعرية قيد التشكل داخل عوالمها.ويكسر ضمير الأنا الحاضر فيها حواجز التخاطب مع المتلقي، مقدما له الوصفة العريقة، السحرية والعجيبة في الآن ذاته التي تصنع لحظة إبداع لا تكتمل إلا بالثالوث المقدس:
1-آلة الرقن العتيقة، بوصفها الآلة التي نابت عن الريشة والقلم
2-فورة الأحاسيس واضطرامها.
3-كوب الماء، بدلالته الرمزية القوية. وما من نبوة صارت نبوة لم يمتحنها الماء، كما يشير الشاعر إلى ذلك، عندما يقول:
ما من نبي
خارج الصحراء
وما من نبوة
صارت نبوة
لم يمتحنها الماء!
على نهج الأنبياء ما من شاعر يخلو بنفسه إلى القصيدة إلا وكان كوب الماء ثالثهما، حتى يكتمل مشهد الإبداع.
ه-آلية السخرية في الديوان
أقف باقتضاب قبل الختم على آلية أخرى من آليات تشكيل المعنى في الديوان، وهي آلية السخرية بمستويات مختلفة أولها السخرية القائمة على التضاد.
لقد نبهتنا فكرة التضاد القائمة عليها بعض أبيات الديوان إلى تأمل هذا الأسلوب وكيفية استغلاله في تشكيل بعض الصور والمعاني، لخلق الإيهام بمعنى قريب وجعل المتلقي يكتشف بنفسه المعنى البعيد الساخر، يقول الشاعر:
منذ قرون
حققنا معجزة
النار والثلج
في عناق أخوي
وكنا أغرب أمة
أخرجت للناس
أفكارا جامدة
في مناخ صحراوي! (ص73)
ينشأ الإيهام في بداية المقطع بأن الخبر المتضمن فيه، يجب أن يؤخذ على محمل الجد، وأن التوفيق بين النار والثلج سبق حضاري ينفرد به المقيمون في الصحراء، من عرب وغيرهم، لأنه اكتشاف لم يسبقه إليه غيرهم، يبدو ظاهر الخبر موهما جدا، إذ كيف لحضارة قديمة أن تحقق المزج بين مكونين متناقضين من مكونات الطبيعة منذ قرون خلت بأساليبها البدائية، فالأمر قد يوحي بإنجاز يستدعي الفخر ولا شك، باعتبار هذه الحضارة حضارة متقدمة على بقية الحضارات.لكن إقحام عامل الغرابة في منتصف المقطع يزعزع هذه الاستدلالات المنطقية، ليتكشف ملمح السخرية، في القدرة على الجمع بين العيش في بيئة حارة تصهر كل شي، مع الاحتفاظ بخاصية الجمود الفكري، الذي ظل عصيا على حرها، فلم تروضه حرارتها الضارية. بهذا يقوم أسلوب السخرية في المقطع على التضاد، فالأصل أن:
-البيئة الحارة …………………….. تستدعي الانصهار
-البيئة الباردة ………………………. تستدعي التجمد
إلا أنه في حالتنا تختل هذه العلاقة، وتصبح هذه البيئة قادرة على احتضان التجمد والتعايش معه رغم أنه يخالف طبيعتها وبيئتها، وهو ما يبعث على السخرية.
صورة أخرى قائمة على استثمار المبدأ نفسه أي مبدأ التنافر، لتشكيل المعنى في مشهد ساخر، لكنه من نوع ثان من السخرية وهي تلك السخرية القاتمة، السوداء التي تخفي بكاء وحزنا عميقين، وتبرز في قول الشاعر:
تعلمنا الذي يكفينا كي لا نصدق الخديعة
المكتنزة بأحلامنا
من رسغ التفاؤل نقاد إلى اصطبلاتها
نكاد نكون فرحين ونحن ننخدع (ص67)
يصاحب الشعور بالفرح – في هذا المقطع- الوقوع في شرك الخداع، وهو ما يشكل تضادا في المعنى، فالوقوع ضحية الخداع يفرض الشعور بالخزي، والعار أو الغضب أو الحزن على الأقل، خصوصا إذا علمنا أن الضحايا تعلموا في الماضي ما يكفيهم من دروس، وتزودوا بما يكفي من خبرات حتى لا يصدقوا الخداع. لكن سراب التفاؤل يضللهم، ويحطم كل تلك الخبرات، وينجح في هدمها ليقود الجميع إلى اصطبلات الخديعة، بكل ما تحمله الاصطبلات من دلالة المهانة والإذلال.
خلاصة:

يمكننا القول إن الآليات اللغوية التي وقفنا عليها استطاعت أن تتسق وتنسجم بينها، محققة للقصائد أبعادها الجمالية والإبلاغية، فبعد أن تحرضنا العتبات على لعبة مطاردة المعنى في المرحلة الأولى للقراءة، وتغوينا بالنزول والسير في مناكب القصائد، تشتغل الآليات اللغوية الأخرى مشكلة المعاني القريبة والبعيدة، محققة لذة القراءة.
يقول الشاعر: «الجديرون باليأس، من يستطيعون ترتيب المأساة بلطف في قصص طاعنة في البراءة»، وأقول معارضا بيته المنثور» الجديرون بالشعر من يستطيعون ترتيب المعاني بصبر، في قصائد طاعنة في المخاتلة».

(باحث جامعي)
مختبر الدياكتيك واللغات والوسائط والدراماتورجيا غكلية اللغات والاداب والفنون
بجامعة ابن طفيل)


الكاتب : رشيد بلفقيه

  

بتاريخ : 30/04/2021

أخبار مرتبطة

الأثر الطيب والتأثير المستدام   نظمت حلقة الوفاء لذاكرة محمد الحيحي، لقاء لتقديم كتاب بعنوان « محمد الحيحي.. ذاكرة حياة»

بايعوه و باعوا له كل شيء وقف جندي بزيه المضمخ دما ليس ليقول : أنا واحد من المليون شهيد بل

أعلنت جائزة غسّان كنفاني للرواية العربية التي تنظمها وزارة الثقافة الفلسطينية عن الروايات المرشحة للقائمة الطويلة بدورتها الثالثة للعام 2024،

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *