ديوان «جاؤوا لنقص في السماء» لعبد الحميد جماهري أو ملحمة السقوط في هاوية اسمها: الحياة

عبد الحميد جماهري، شاعر تتبعه اللغة طواعية كحيوان أليف. هكذا يقودها من عنقها تارة، بكل يسر شعرا ونثرا ، ويتركها في أحايين كثيرة تتعقبه إلى حتفها، حيث لا مكان للشعر عادة، فتجد عمودا له ضاربا في السياسية تخترقه طلقات شعرية في منتهى العذوبة، إمعانا في إحراج التقريرية الجافة.
يستهل الشاعر ديوانه الأخير «جاؤوا لنقص في السماء « بصيغة الأمر/ الطلب: دليني على البطل / وسأدلك على تراجيدياه كما في الإلياذة، في حوار مع الحبيبة يطبعه الإلحاح والاستعجالية: أسرعي/ حتى نلقي نظرة أخيرة على الحرب/هذا الكسوف/ الذي يرسمه الموتى/ لن يتكرر قبل ربع قرن (ص 8) .شيئا فشيئا تنجلي حيرة البداية في قصائد الديوان المبوبة كالتالي:

في انتظار الحرب
جاؤوا لنقص في السماء
اجلسي بقربي أيتها القسوة
سيرة عائلية لآدم
تعريفات الظل
فيسترسل في رحلة الكشف عن الأعماق متحدثا تارة إلى الحبيبة وتارة أخرى إلى المجهول : «المجهول من الآن فصاعدا شقيقك» (ص 54)، أنت الذي تتجول في روحي /قل ماذا / رأيت في غرف الخيال؟(ص55)، ليختتم مغامرته الشعرية بصيغة شرطية : لو كنت بلا أعماق لما كانت لي هاوية (ص83).
وبين البداية والنهاية تتبدى شيئا فشيئا تفاصيل الرحلة/ التراجيديا. يسافر بك الشاعر إلى عوالم مسكونة بالقلق، بالحب والألم، موشومة بصور شعرية بديعة وجمالية تعبيرية، دون إطناب في الزخرف ودون أدنى تكلف، ليقودك بسلاسة إلى هاويته الشعرية.. شعرية السقوط الأزلي والذي استمر منذ آدم. لاخيار للبشرية لأن الهاوية، حسب جماهري حتمية: «تلزمني هاوية (ص81) التي تتكرر في أكثر من موضع، ليكون بذلك هذا الإصدار الشعري توصيفا لديوان حالة الشاعر كما اختار أن يسميه (في ديوان حالتي)، أو رحلته لمعرفة البطل وتراجيدياه.
منذ البداية يعلن الشاعر عن نواياه في تشكيل ملامح البطل المجهول، الجندي الشاعر، الجندي الصامت الذي لا يحكي (ص13) إلى أن يعلن البطل مستفسرا عن نفسه في قصيدة من أنا؟ (ص34). بعد ذلك، يأخذ السقوط كل أبعاده في قصيدة «آدم يلقي بنفسه من أعلى السموات»، حيث يصرح: فقد بدأت الإنسانية بمحاولة انتحار فاشلة (ص 59)، والتي أخبرت عنها وسائل الإعلام القليلة آنذاك( وكان الإعلام وقتها منحصرا في ثلاث كتب كلها كتبت عن الموضوع ص60). السقوط بما هو تجربة للإستغوار، هذه التجربة الإنسانية التي تتطلب عمرا كاملا لمعرفة كنه النفس البشرية، إذ كيف يتسنى للإنسان معرفة ذاته إذا لم يحفر عميقا فيها:

تتعقبنا هذه الصحراء
ولن تتركنا حتى تجد البئر
التي حفرها الله
في أعماقنا ( ص)65

يصور الشاعر البطل في ديوانه على شاكلة البطل المرتاب، المنكفئ على لغته يكتب إلياذته كل يوم بحبر.
يورطك جماهري في رحلة قراءة الديوان في عوالمه المحفوفة بالكثير من القلق والشك. يسير بك في سراديب الشعر الذي لا يرتكن للطمأنينة. شعر يعانق الإنساني في أبعاده الضاربة في الجذور. شعر ينتصر للشك. وحده الشعر يعبد الطريق للبحث عن الحقيقة الكامنة في جوهر الأشياء والإنسان. معرفة الذات هذه تكون رهينة بتواطؤ ذات أخرى من دم ولحم ولغة، فتحضر المرأة في الديوان بصيغة المخاطبة في مواضع عدة( الحبيبة)، ثم الشقيقة الصغرى والفتاة الذاهبة إلى المدرسة.
يحفل الديوان بقصائد تحمل هموما إنسانية كثيرة كأنه يقول أن الهنا هو الهناك، بالضرورة. يكسر الحواجز بين القارات ويضع 11 سبتمبر و16 ماي في نفس الخانة ليدين الإرهاب أينما كان وخارج أي سياق، باستعارة عبارة بالفرنسية «Ce jour-là il faisait Dieu». العبارة التي يمكن ترجمتها كالتالي: في ذلك اليوم كان التوقيت/الطقس إلها، كإحالة على أن الضربات كان محفزها ديني بالدرجة الأولى. في ذلك اليوم كان الله والدين في المحك وكانت الإنسانية تمارس طقوس القتل بكل ما أوتيت من إيمان منذ الجريمة الأولى لقابيل الذي أباد، دون أن يدري ربع البشرية، حسب تعبير الشاعر، بتصفيته لأخيه.
هي تراجيديا الأزمنة الحديثة كما عبر عنها بيكاسو في لوحته الشهيرة الغرنيكا، وكما تقدمها نشرات الأخبار من مختلف بقاع العالم. لا فرق بيت التراجيديا القديمة بمفهومها الهوميري والتراجيديات الراهنة. الموت هو الموت والسقوط هو السقوط والإنسان هو الإنسان.
ولأن الكونية الشعرية تفترض معانقة المأساة الإنسانية برمتها وخارج الحدود، نجد الشاعر شديد الحرص على ترتيب مأساته بلطف (ص47)، ذاهب إلى خلاصه بكل العزم الممكن. فلا أحد يفلت من قدره، ومن الأجدر الذهاب إلى الهاوية بيقين المؤمنين.
منذ الوهلة الأولى، يظهر البعد الدرامي في الديوان: الأنا في حوار مع الأنت ، والذي يعبر ثنايا القصائد ويضفي عليها دينامية وتفاعلية جلية ما تلبث أن تخترقها فسحات بصرية ترمي إلى تجميد اللحظة وبروزتها في إطار: «أكون كاليأس في طبيعة ميتة» (ص82 ). هكذا تخترق الطبيعة الميتة أو الصامتة لوحات الديوان لتوقف القارئ بين مشهد وآخر، كفسحة بين مقامات شعرية يتوافق فيها النفس الملحمي الطويل بالشذرة حينا وباللوحة الشعرية أحيانا كثيرة . كما تعبر التناصات ثنايا هذا المنجز الشعري بأناقة بليغة، سواء في الكتابة «أنا من أنا؟ « لإيليا أبو ماضي، «لا تصالح» لأمل دنقل، «اللاطمانينية» لبيسوا أو في التشكيل: الساعات في لوحة الذاكرة لدالي ص80 ، وتوارد عبارة الطبيعة الميتة في أكثر من قصيدة فضلا عن إحالات مباشرة على فرويد (اللاشعور، شارع طويل بدكاكين للتحف القديمة، اليبيدو، الأنا الأعلى، الهو وكذا سبر أغوار الحلم.
تتوزع موضوعات الديوان بين الحب، الموت، القلق الوجودي، الألم، الحيرة، الألم، اللاطمأنينة، الحلم…حسب مزاج القصائد المتقلب، بنفس يطول تارة ويتكثف تارة أخرى في القصيدة الومضة :
ستبعث
وتصير نبوءة
يوم يراك الأعمى. (ص50)
*******
استيقظي يا أنت
هذا الصباح ينتظر عينيك
منذ الصباح..
ليرى. (ص75)

يبدو من خلال تحليل القصائد أن الديوان كتب على مرحلتين أو اكثر، حسب تركيز القتامة والضوء في الشعر والذي يغلب على بعضه طابع السوداوية ، ويفصح البعض الآخر عن منسوب عال من الأمل والإقبال على الحياة. ثنائية تجد تجسيدها كاملا في مطلع القصيدتين المتجاورتين في الصفحة ص 76:
سارع إلى الموت
حتى لا يحتل آخر مكانك
والتي تعزز مفهوم البطل التراجيدي، وفي القصيدة الموالية «لا تترك الحياة بلا اسم» ص77: هيا، انهض واعثر على الحياة والتي تذكر بعمر الخيام في قوله: انهض لنا الأبدية لننام. ثنائيات أخرى تخترق الديوان، نذكر منها: ثنائيات الأبيض والأسود في تعريفات الظل والتي تذكي حضور الصورة بشكليها الفوتوغرافي والتشكيلي في الشعر.
على سبيل الختم ، يمكن القول إن ديوان «جاؤوا لنقص في السماء « هو باختصار، ملحمة السقوط في هاوية الحياة بكل ما تحمله الملحمة من توالٍ للأحداث والمآسي وبدوي السقوط المفجع للذات، في قالب لغوي ثري، يتقاطع فيه المزاج الصوفي بالمزاج الملحمي بغنائية أثيرة تعبر المنجز الشعري، انتصارا لرومانسية ما.
يسافر بنا الشاعر من ديوان حالتنا إلى ديوان حاله والحال هنا يؤخذ بكل أبعاده الصوفية. صوفية تخترق القصائد بشكل لافت. يمتح جماهري من محبرة غزيرة تفيض لتتدفق بقصائد رقراقة . قصائد مشحونة بقلق وجودي بين، تفصح عنه إشراقات الذات الشاعرة وانكساراتها على حد سواء.


الكاتب : أمينة الصيباري

  

بتاريخ : 19/02/2021