ذاكـرة وتراب

قبل أن تجف التربة من رذاذ الفجر، لمحتُ ذاك الرجل الثمانيني وهو يشم ظفيرة أمي التي ماتت وهي تستنشق رابوز الضيقة.
ذاكم أبي.. كائن عريض الصدر مقعور الخد متنمر العينين مربوع الجبهة. وُلد في حقل حنطة ودفعه شح المطر ليطوف في دوار الدباغ عطارا ثم عاملا في مصنع الفلين بالقامرة.. لينتهى شاويشا بدار الإذاعة.. كنت أود أن أقول له إني كنت حاضرا وقت سقي الكسكس بيد الموتىٰ في عاشوراء..وإني كنت طفلا شاهدا على نيزك سيدنا قدر وأماني الخواء.. يوم كان يعِدنا بأزرار فضية وبلي زجاجي وأقلام ملونة ..لكنه لا يفي.
كنت أود أن أبوح له بتلك الأسرار المنقوشة بقزحيات الباغباغ والتي يعج بها قلبي المرقط، وأسِرُّ في أذنه الفيالة أني أنحدر من نطفته التي تحولت في رحم أمي إلى علقة من الألومنيوم تعوم في سائل الكبريت..
كنت أتمنى أن أقف أمامه دون وجل وأقول له إني رغم يدك التي تشبه كماشة البولدوزر وحزامك الجلدي والسوط المصنوع من أسلاك الكهرباء فإني أحبك يا أبي وأشعر وأنا بجانبك أني رَهوان يرافق الحصان الطائر..لكني كنت أرتعب خوفا من احمرار عينيك وصفعاتك الخاطفة التي تذكرني بوميض البرق والتي أخرجت فكي يوما عن سكته.
أتيت راكبا سهاد ليلتين بعد توصلي بنبأ موته. وصلت للمقبرة وهم يوارون عليه التراب وحوله شواهد ناتئة تحمل أسماء لا توجد إلا عند سكان طروادة. اعتليت قبرا وسرحت بنظري في الجهات الأربع فبدت لي الأرض سفينة تعج بالهاربين من سدوم. حيث لا يحن أحد لأحد ولا يشتاق أحد لأحد. وهذه الزاوية الشرقية من السور هي نفسها تلك التي شهدت مبارزة بليليطة والشارغو..كنا نهتف بحياة الأول وسقوط الثاني.. ونعِد بعضنا بفرجة نادرة تزخر بالدم وتشخشخ العظام ومَسْل الأعين وتحطيم الأسنان..كنا متفقين مع بليليطة أن نغدر بالشارغو إذا رأينا أن الغلبة له، مقابل مقاعد في سينما ” العنبرا ” لنشاهد فيلم ” سبارتاكوس “.
كانا يقفان متقابلين وجها لوجه مكشرين على أسنانهم كقردة البابون.
وهما يهمان بالالتحام، صدر صوت تزامن مع لفة ريح وهدير رعد وزخة مطر.. صوت أشبه بزعيق محرك الدوشوفو.. يأتي ويروح.. ينكمش ويتمدد..يشتد ويخفت ويذوي مع انحسار الصدى.. تسمرت أرجلنا وغاصت بضع ملميترات في التراب الذي تحول لمرق الكرعين اللزج.. بينما الصوت يرتد إلينا كطنين معول في قعر منجم : ” خليونا ننعسو هانيين ف قبورنا يا بني آدم..آولاد الحرام…علاش كاتبرزطو ضيوف عزرائيل…؟! “.
لا أتذكر كيف استرددنا وعينا الذي تفتت كحبات بركوكش.. وتملكتنا قوة جارفة قذفتنا في كل اتجاه.. قفز الكل كالكناغر الهاربة من حريق الغاب…ضاربين في شواهد القبور.. واطئين أسنة الشوك.. ونتوءات الصخور.
إنتهى ذاك اليوم بخدوش وخروش ونذوب لكن عرفنا في ما بعد أن ” الميت ” الذي كان يتكلم ليس إلا بوشعيب العور، الذي كان ممددا بين قبرين ملتحفا نبات العوسج. انتقمنا منه بعد أيام بأن بعناه قطا مسلوخا منزوع الرأس على أنه أرنبا، فضايف به زوارا أتوه من قبيلة اولاد جرار مسقط رأسه..ربضنا قبالة منزله لنعرف ماذا سيقع.. لكن لم يقع شيء.
بعد أعوام مات بليليطة في حادثة سير والشارغو سقط بسكتة دماغية في ماخور ” العايدية ” وهو يغني ” يديرها الكاس آعباس ” أما أنا، فحين عدت من نوبة إغماء طويلة، رأيت نفسي أسامر غولا خرافيا يأكل جلسائه قبل أن ينام.
سألتهم كيف حدث هذا…؟
پَّا العيساوي الذي درس حتّىٰ البروڤي ويحفظ كل محفوظات الإبتدائي ونثف من أشعار ابن عربي وابن الفارض يستشهد بهما في الجنائز وجلسات الأمداح.. يحكي بأسلوب الأصمعي عن نهاية رجل صنع حرقة الانتظار :
في يوم قاس كلحاء الفستق كبا أبوك على ركبتيه وهو يتجرع آخر جرعة من الزمن الـمُرّ..أحسّ بشيء لزج ساخن رخو كضرع بقرة يقف على مدخل حنجرته.. لم يكن يعي أنه لسانه، ولكنه رأى حبلا من دخان بضخامة أفعى الأناكوندا يقترب منه ثم يلتف حول عنقه الذي يشبه فنارا مهجورا ويعصره كفَكَّـيْ الكلامونيط. تحوَّلَت نسمة الهواء في رئتيه لروائح الداد والبلوط المسلوق..واندست بين أضلعه رعشة هادرة كضبع يتجشأ.. فارتمت عمامته على مدخل الزقاق الذي لا زال يطن بصراخ الجيران.. التهامي السيكليس وحميدة الشفناج والروبيو التريسيان..كلهم يحاولون إسعافه.. يرُجُّوه ويهُزّوه ويزعزعوه..ثم أخيرا لطخوا خياشمه بقطرات قطران فبدا وكأنه يطل من زكيبة فحم، لكن تراخت أجسادهم فجأة وقد اكتشفوا أخيرا أن المسمى الطاهر بن الهاشمي الذي كان شاويشا يقرفص ببذلته الكاكي على مدخل دار البريهي ويتحمل فظاظة الموظفين بصبر الأنبياء وسخط الأسد المكبَّل، قد لفظ أنفاسه مع فقاعات بيضاء سحّت من فمه وصعدت مع الريح الشرقية تجاه روضة حجاج حيث تتدثر المقابر بأوراق الحرِّيكة.
( مولانا نسعاو رضاك
وعلى بابك واقفين
يا من يرحمنا سواك
يا أرحم الراحمين )
أتملَّىٰ في جسد أبي المرمري الذي تحوَّل لحزمة قزبر ملفوفة في قطعة قماش أبيض..يهيلون عليه التراب وأنا أرى ولا أقول شيئا. بينما كنت أحس بشيء في داخلي يسح كرماد البراكين.. فقد كنت أحب والدي وأشبهه بالسيد سوغان.. لكني كنت أخاف أن ينبذني وقت الشدة..
وقد فعل لكن غفرتُ.
كان هذا يوم رماني فوق القصعة المقلوبة أمام مقص الحجام الصدئ الذي يجز به صوف الأكباش..تشبَّثتُ بدفينة أمي وأنا أستغيث لكنها حذبت تلابيبها وأتمت نقرها على التعريجة وهي تغني :
” آلحجام العار عليك
ها وليدي ما بين يديك “.
ورغم الرعب الذي سكنني لم يفت انتباهي يد أمي المطلية بالحناء وحنَكها ولثتها المحمرتين بالسواك وحاجبيها المكحلتين بالإثمد مع ظفيرتيها المضمختين بزيت العود ومسحوق القرنفل..فقلت في نفسي ودمي يضخ على الفوقية والطربوش الأحمر..إن أمي تشبه صورة تلك المرأة التي على ملصق أسطوانات بوسيفون، والتي تُسمَّىٰ بالشيخة خربوعة.
الذاكرة كالأخطبوط..
ليس لديها هيكل عظام ولكن لها جراب حِبرٍ أسود مدفون في جيبها الداخلي..
وأبي.. هذا الملفوف بكفن أبيض ومحاط بجمهرة من عـبَدة المراثي ولصوص الأجر والثواب، كان قد جرّني يوما حتى باب الجامع ودفعني حتى سقطت عند رجل الفقيه المشربة بالصمغ وبراز الدجاج..وقال له وهو يحط أمامه قالب سكر وعلبتي شاي من نوع القافلة :
” هاك ولدي وديعة لديك.. إفعل به ما تشاء.. أنت تقتل وأنا أدفن. ”
هكذا ببساطة.. وكأنه كاهن يقدم قربانه ل ” رع “.
ما إن ولَّانا ظهره حتى ارتمىٰ علي الفقيه فجأة..رفعني عن الأرض نصف متر ورماني ككيس إسمنت على الحصير، ثم وضع رجله علىٰ وجهي وضغط بكل ثقله حتى اختلط أنفي وفمي وعيناي وأذناي في عجينة واحدة كرسوم المنمنمات، ثم وبكل ما في جسمه البقري من جهد رفسني في بطني فخرجت من حنجرتي آهة ضعيفة وغبت عن الوعي.
حين ترامى الخبر لأبي لم يزد على أن قال وهو يفرك يديه : فقيه مبروك قَلّ نظيره..اللهم انصره على القوم الضالين.
لم أكن وقتها أملك شَعرا فوق فروة رأسي ككل أقراني..ولكن كانت لذي ظفيرة تنبث يمين الجمجمة وتتدلى على كتفي الأيمن..كانت نقطة ضعفي في المعارك وكان غرمائي يعرفون هذا فيقبضون عليها قبل أن يبدأ النزال ليشلونني..وكنت أواجه طول النهار كل من يناديني ب ” بوڭرن ” فكان اليوم يمر في غزوات لم أكن فيها يوما لا عنترة ولا خالد بن الوليد.
في فجر من أيام أكتوبر الباردة وأنا أحلم ببساتين تثمر أشجارها كعكا ونقانق ومثلثات الجبن، نهضتُ فزِعاً إثر ركلة من رِجل أبي أوجعت وركي.
وأنا أحاول أن أفتح عيناي المعمّشتين رمىٰ لي بسروال قاطيفة وتريكو صوفي وصندالة بيضاء بلاستيكية. فرحت. ظننت أن اليوم عيد.. لكنه لوَّح في وجهي بمحفظة جلدية ودفتر وقلم رصاص وريشة وممسحة ولوحة حجرية ثم دفعني أمامه بعد أن تناولت فطوري على عجل.
وصلنا أمام بناية مرعبة فهمت من لغط الحشد أن اسمها المدرسة، وربما هي نفسها التي نقول عنها ” السكويلة “. دسَّني أبي وسط طابور من أطفال لا أعرفهم….ثم تركني وأنا أتملى في وجوههم التي تشبه لون الملحة الحية..شعرت بنفور منهم لأن شعرهم رطب ويلبسون أحذية بأزرار وخدودهم مطلية بلون الكوفيتير..لا يبصقون ولا يتمخطون ولايسبّون ولايبكون.. ولكنهم يتحدثون عن صعوبة كتابة الطاء والياء وبعض الكلمات التي نطق بها الأنبياء.
اكتشفت آنذاك أني وحيد.. وأن مؤامرة وضيعة تحاك حولي..مخطط دموي أسود يساهم فيه أبي والمعلمون والسبورة ولاردواز والطباشير والحساب وسورة الإخلاص وجرس المدرسة والتلاميذ الذين يحفظون بسهولة ويملكون مِقلَمات وخشيبات ومِنجَرات زاهية اللون.
من يومها وأنا أحلم كل ليلة بزلزال يفلق الأرض فتبتلع المدارس، وتنصب المشانق على أعمدة النور تعلق فيها جثث المعلمين وفقهاء الجوامع الذين يصفعون الأطفال ويفلقون أرجلهم. وكم مرة رأيت في منامي عفريتا يخرج من فوهة براد الشاي فأطلب منه أن يحولني لهرقل، طوله ثلاثة أمتار..أهزم السباع والضباع وأطارد كل من كان يناديني ب ” بوڭرن ” فأفصل رأسه عن جسده..
كانت رائحة المحفظة والبالطو البلاستيكي تشعرني بأنني في حضرة الڭناوي ياوي ياوي.. كنت أعود بعد تجوال في المزابل وجيوبي قد تحولت لسوق خردة..اكتسبت صفة الميخالي عن جدارة.. وساعدتني سحنة وجهي الذي كان مخروشا مهروشا كدفتر الوسخ.
لم أكن أعرف كيف أكبر وأصبح ” سِّـي عـبدالقادر “..فلا زلت أمر بيدي على ميمنة رأسي لأتاكد من أني لم أعد ذاك ال ” بوڭرن “..فأشعر بنشوة المهرج وأنا أرفس الحصى بقدمي وأغني لازمة لم أعرف معناها لحد الآن :
” ماخ ماخ أوا ماخ آتيتزريت….”
هي ذي الأرض تنشق لتزدرد أبي الذي لم يرتكب في حياته إثما ولا آلم نفسا.. مرة واحدة خرج عن وعيه فصرخ في وجه جارنا تاوتاو : ” يا ابن الرَّعواني “. لكنه قبل أن ينام طرق بابه ولثم رأسه وطلب الغفران.
وأنا الآن أتيت..
أتيت لأتيقن أن يده الغليظة قد دفنت معه..ولأحدثه قبل أن يبدأ الدود في قضم الأعضاء الرخوة عن أسئلته التي لم أجب عنها في وقتها..لذا تجرأت وجلست على سنام الطين المرشوش بماء الورد الذي يجثم فوق جسده المطهر بالتعب.
دُفن بالبشنيخة التي استعصت على الخروج من فتحة أسنانه فتركوها تسد تلك الفجوة التي طالما أزعجته وهو يقضم أكواز الدرة..جئت لأحكي له عن ما لم أستطع قوله وهو حي، حين كان قادرا على استعمال تلك الجرافة الغليظة التي يسميها اللغويون ب ” راحة اليد “.
سألتُه عن سر ذلك النَّدب الذي يبدو كالأخدود على وجنته اليمنى.. والذي لم يعرف أحد مصدره ولا حكايته..ذَكَّرته بذاك اليوم من يناير وقد دخلتُ عليه بالبزة الجوخية والقلنسوة الخضراء..حيث وقف مندهشا أمامي وهو يعيد لف عمامته وعيناه تبرقان كعيني سمكة. كزَّ على أسنانه يخفي الجهد الكبير الذي يبذله ليحبس دمعته، ثم فجأة، عصرني بذراعيه وهو يشهق جذلا..حمدا لك يارب – قال – إبني الآن رجل من صلب رجل. كنت أشم في جلبابه عرق السنين وأوجاع القهر وسهاد الليالي الشمطاء.. ولأول مرة رأيته ناشرا ظله حول نفسه. تحول وجهه لبدر أحاطت به نجوم جاءت من مجرات أخرى لترى الرجل الذي صنع زمنه بعجين الماستيك، وهو من غبطته يبكي. وقلتُ حينها إن تلك اليد الغليظة كانت تزرع الورد في بلاط البيت وسقف الغرف.. وتسقي اللبلاب المتسلق الجدران دون أن تخدش صمت الليل..ونحن نيام.
حان الوقت لأمنح ذاكرتي نصيبها من حصاد البندر وجني الكروم..وأضرب أعناق الفزاعات التي زرعت الذعر في خلجات الطيور.. حان الوقت لأعرف أن فصل الهجرة إلى الندم القديم قد ولىٰ وأن طريق الغفران مُـعبَّدة بالقشدة. كنت في نظر المعلم سي المحجوب” ولد بياعة شندكورة ” وتحولت وأنا الآن شيخ، إلى خنزير بري دمه أبيض، حرام عند الذين آمنوا وعملوا الصالحات وحلال عند الذين يغنون الرباعيات. لا شيء واضح ولا شيء مبهم.. حياة لها رائحة القش وروث النعام. أقصى ما كنت أتمناه سيجارة وغرفة ومكتبة وعشق صغير وأحلاما لا تهرب من النافذة ..لكنها تحبل بالسنافر وشمسون ودليلة وأقزام الغابات البعيدة.
لماذا منعوا عني الغناء والشِّعر وقالوا ذاك رجس من عمل الشيطان فلا تقربوه..؟
لماذا كلما أطلقت عصفورا من صدري أردوه قتيلا..؟.
القبر يا أبي عرضه شبرين. مساحة لم تحظ بها وأنت حي..ولكنك الآن تملك كل أفلاك السماء..
لذا أنتظر إطلالتك في ليلة بيضاء كليالي الوحي.. لتقبض على مرفقي بيدك الغليضة وتسري بي لتلك المدائن التي تقع وراء أحراش السديم.


الكاتب : عبد القادر الـخراساني

  

بتاريخ : 29/02/2020