رأس بلا ظلال

لم أكن على علم بعادات تلك العشيرة المنزوية خلف جبل الخيبات، تودع موتاها بنشيد الحياة، تسجل الغائبين في عداد الموتى، تحفر قبورهم في سهل الصمت القاهر وتحتفظ بآثارهم في مخزن العظام المقدسة.
تخدعك نشرة الأحوال الجوية، تطلب منك الانتباه لمكر طقس يظهر عكس ما يخفي، تماما كما هي حالات قبائل تدعي الفرح وهي في أقصى حالات الكآبة، تقول النشرة: «غدا، في عز الظهيرة ومرتفعات العشاق، سماء بلا غيوم، شمس حارقة، والوقت ملائم للملابس البيضاء بياض الكفن الجاهز والتسكع رفقة الظلال الواضحة! «
قد تحتاج حضور الظل الوفي في يومك الكئيب، لكن الغيمة الرعناء ستتكلف بمحو ابتسامتك البريئة، تحملك للقمة المهجورة، وفي غفلة منك، تعانقك، تسلب منك الظل الحائر، ترحل عنك، لتعيش عذاب البحث عن تضاريس خيالك ما تبقى لك من حياة!
ما علينا.. تثاءب الوقت فوق سرير الأسطورة، خرجت بكامل غبائك، سألتَ الملامح العابسة عن سر انزياح الظلال عن أجسادها، لم تلق الجواب الشافي، وفي غربة المنفى الداخلي، لا سلطة سوى لتداعيات وباء غامض وماراطون أحلام دون عنوان.
في بداية المسخ، حلت اللعنة على أطياف الغروب، بدت الظلال أطول من المعتاد، التزم عسس الأراضي المستباحة حذر الكائنات المصابة بداء التوجس المزمن، والصمت الموحش سيد المساحات المثيرة للعجب، ولم يخطر ببالك أنها بداية اندثارك.
تعملقت غيمات الوهم والخديعة، أعطت الانطباع بوحشية أشكال تتحرك فوق الرؤوس ببطء، وبين شقوق الغدر والخطيئة، تسللت أشعة أدخلت الجميع في عوالم خرافية وجغرافية قاسية تحكمها عجائز ماكرة وجنيات ساحرات.
صدفة، رفعت رأسك نحو القمة المختفية وسط ضباب الطقس المضطرب، رأيت غيمة تتربع فوق تلة صخرية، بغير قليل من الذكاء، أدركت أنها تراقب عبوسك، وصعدت نحوها لتكتشف عمق الأسى وأسباب اهتمامها بك.
توهمت الوصول إلى القمة، حاصرتك ذرات الضباب الكثيف، ضيعت هوية الغيمة، ولم تعد تدري جدوى خسارتك المجانية بالصعود المتسرع، هنا لا وجود لظلال ترشدك ليقين الوقت ، ولا راحة للتائه وسط تضاريس بلا أسماء.
قال شيخ العشيرة العطلان: « إياك أن تأمن لرغبتك، ما تراه هو لعبة تسخر من غبائك، وقديما قال لي عائد من الموت، الميت يخدعه الانتظار، يغرق في بياض العدم، يزداد تشبثا بالوهم حين يكفنوه بالبياض، ويدفنوه في هضبة مرتفعة تحرس دروبا ثعبانية تقودك لكهف عرافة شمطاء! «
داهمتك حيرة العاجز الفاشل، قرفصت كما يفعل المأزوم الملعون،عاتبت نفسك الأمارة بالغباء،قلت لخوائك الداخلي:
«سري هذا وأستحق هذه النهاية، آش طلعني عند ساحرة القبيلة التي تحكمها الأموات؟!»
الجحيم هو أن تعتقد في الصدى حروف كلمات تخاطب لوعتك، تتردد في جمجمتك مناحات الفزاعة، تجعلها حكاية عن شبه الحياة، وأنت لا تخاطب سوى فراغك الأسطوري، في حفلة صامتة تحضرها أشباح تكفر بامتلاء الكلمات.
تابعت ندمك غير المفاجئ، لم تكن غيمة تبكي، ولا عذابات ولادة ممطرة، كانت دخانا غطى سواد الصخر القاسي، سعلت بقوة، اختنقت أنفاسك، توالت شتائمك، وانتقمت من بلادة الغيمة المزيفة.
ترددت في ذاكرتك أصداء أغنية أمازيغية للمسكونة الحسنية، أعادك نواحها الجريح لبدايات النزيف، وكما هي عادتك حين تضيع منك هوية الحاضر الغامض، استسلمت لسلطة الكمان وبحات الصوت وحنين البندير لتراب النبتة المدوخة، والحسنية المجدوبة لم تمل من تكرار اللازمة « الحب أعمى لا عمر له»، إمعانا في الضغط على موقع الجرح المشهود.
أمسكت رأسك بكفيك الباردتين، ندمت على ما بدلت من جهد للصعود نحو تشكيلات الغيمة الرعناء، اختفت عنك ظلال الكائنات المتحركة، تحسست قدماك أحجارا مسننة، وتساءلت عن عذابات من دفعت بهم ظروف الصدفة القاسية للاحتماء بكهوف مظلمة تجهل معنى الفرح بمفاجآت الحياة.
بسبب اقتناعك بغيمة الوقت الميت، ضيعت ظلك، حاولت تقبل الأمر، احتضنتك تداعيات الواقع العجيب، عجزت عن تحمل المشي المجاني نحو مصدر لعنتك الأزلية، توزعت الغيمة على تشكيلات شيطانية تمنحك إحساس التواجد في جحيم صامت، واستسلمت لخدر النزول من القمة طلبا للإفلات من وحشية الجنيات الرابضات خلف شباك متأهبة لاصطياد الأبرياء.
وسؤال العجب، لماذا غابت الظلال في رأس الجبل وحضرت في الأسفل؟ هل هناك حكمة لا تعلمها عينك المعتادة على اعتناق قسوة الظلام؟ وما الحاجة إلى ظل يخون صاحبه ولا يتفاعل مع ساعات عناق الفراغ؟ لذلك دع لعنة الغيمة العاقر تخفي طلتك العبثية! واسترح من لغو الاستنكار !
آلمك المشوار العبثي، أجلت صمتك لما بعد سقوطك، أتعبك الوقوع في نفس الحكاية، لا قديم يبتعد عن مشنقة الخيانة ولا جديد يُنْجِيك من صقيع التذكر، وفي كل مرة، تعود لنفس الألم بتفاصيل متشابهة تلتقي في خواء العدم.


الكاتب : حسن برما

  

بتاريخ : 03/03/2023