رؤية برتغالية لأوضاع مغرب ما قبل الحماية.. البارون دي كولاصو- ماكنمارا

تابع الأستاذ عثمان المنصوري، المؤرخ المتخصص في رصد إبدالات العلاقات المغربية البرتغالية خلال الفترتين الحديثة والمعاصرة، تعزيز اهتماماته العلمية، بإنجاز ترجمة راقية لكتاب «الملوك المغاربة» لمؤلفه البارون دي كولاصو- ماكنمارا، وذلك سنة 2016، في ما مجموعه 120 من الصفحات ذات الحجم المتوسط.
العمل الجديد، يشكل إضافة نوعية لمسار الأستاذ المنصوري، من موقعه كباحث متخصص كان له الفضل في الكشف عن أرصدة برتغالية هائلة من الوثائق الغميسة المحفوظة داخل المغرب وخارجه، وكخبير في رصد تطور العلاقات المغربية – الإيبيرية خلال العهود الماضية، ثم كمؤرخ يتقن اللغة البرتغالية ويمتلك ناصية اختراق أسرارها والكشف عن مظانها وعن موادها المعرفية الثمينة والتي لاتزال – في الغالب الأعم- بعيدة عن الاستثمار العلمي بالنسبة لمؤرخي الزمن الراهن.
والكتاب موضوع هذا التقديم، يشكل –في الأصل- تجميعا لمجموعة من المقالات التي سبق لصاحبها أن نشرها على صفحات مجلات وجرائد برتغالية مختلفة، وعلى رأسها دورية «O Diario Da Governo»، قبل أن يقوم بجمعها في كتاب مستقل صدر سنة 1906 بمدينة لشبونة تحت عنوان «الملوك المغاربة».
ويعتبر المؤلف، جوزيف دانييل كلاصو، سليل أسرة اشتغل العديد من أفرادها في السلك الديبلوماسي خلال القرنين 18 و19، الأمر الذي زكاه مساره المهني المرتبط بوظيفته كوزير مفوض للدولة البرتغالية بالمغرب إلى حدود سنة 1896. ولعل من عناصر القوة في مسار المؤلف، استقراره بالمغرب لمدة زمنية طويلة. فهو من مواليد مدينة طنجة سنة 1831، وبها استقر طيلة حياته إلى أن فارق الحياة بها سنة 1907. وبهذه الصفة، اكتسب ميزة الانتماء للمدينة والاطلاع على جزئيات حياتها اليومية، وتقاليدها، ولغتها، وخباياها التي لا يدرك أسرارها إلا أهل المدينة. كان المؤلف يتقن اللغة العربية، وأصبح منتميا لمدينة طنجة على مستوى انشغالاته اليومية، بل واكتسب إيقاع الحياة المغربية داخلها، فأصبح مغربي الهوى وبرتغالي الأصل. ولعل هذا ما ساهم في تيسير مهامه الديبلوماسية وفي ضبط إيقاع علاقات دولة البرتغال مع المخزن ومع عموم المغاربة، وكذلك مع القوى الأوربية التي كانت تتنافس من أجل تكريس هيمنتها الاستعمارية على بلادنا، وخاصة فرنسا وإسبانيا وإنجلترا وألمانيا.
تتوزع مضامين الكتاب بين قسمين متكاملين، اهتم المؤلف في أولهما بتقديم معطيات تعريفية عامة عن ملوك الدولة المغربية، حسب تسلسل الأسر والسلالات التي حكمت المغرب منذ عهد الأدارسة وإلى حدود مطلع القرن 20. وهي – على كل حال- معطيات عامة ومعروفة ومتداولة، قد لا تضيف الشيء الجديد لما هو معروف في الإسطوغرافيات الكلاسيكية، سواء منها العربية الإسلامية أم الأوربية. ومع ذلك، فإن هذا القسم يقدم معطيات مفيدة حول طرق تجميع المادة المصدرية، وحول رؤى مؤرخي البرتغال لمسارات تكون الدولة المغربية وأنماط تكون بناها المؤسساتية المرتبطة بالسلطة المركزية الحاكمة. وفي القسم الثاني من الكتاب، اهتم المؤلف بالتوثيق لأحداث هامة عايشها أو احتك بها أو كان طرفا في صنعها. ومن هذه الزاوية بالذات، يكتسي هذا القسم قيمة كبرى، ليس فقط بالنظر لاهتمامه بأحداث مفصلية عرفها شمال المغرب خلال هذه المرحلة مثل أوضاع منطقة الريف أو الوضع في مدينة طنجة، أو سيرة أحمد الريسوني، بل -أساسا- بالنظر لمعاينة المؤلف مباشرة لما كان يقع فوق الأرض المغربية، من موقع انخراطه في مهام ديبلوماسية دقيقة وحاسمة كان لها دورها في توجيه الأحداث وفي التأثير عليها. كان المؤلف يتحدث من موقع العارف المتمكن من أصول «المعلومة». فلم يكن تدوينه يكتسي طابعا انطباعيا أو نزوعا عاطفيا، بقدر ما جاء سرده انعكاسا لتفاعل ذات فاعلة في الميدان مع تحولات واقع يغلي تحت ضغط أزمات المخزن الداخلية وتزايد وقع الضغط الاستعماري على البلاد. ونظرا لاستقراره بشمال المغرب، فقد جاء سرده غنيا بخصوص وقائع هذه المنطقة، لدرجة يبدو معها أن القسم الثاني من الكتاب، تحول إلى جرد لوقائع منطقة شمال المغرب نهاية القرن 19 ومطلع القرن 20.
وللاقتراب من معالم السقف العام لهذا التدوين، وكذا من طبيعة الجهد العلمي الكبير الذي بذله الأستاذ عثمان المنصوري في تعريبه للمضامين، يمكن الاستدلال بفقرات مما كتبه المؤلف حول أوضاع مدينتي طنجة وأصيلا، وحول سيرة أحمد الريسوني خلال المرحلة المعنية بالتأليف.
ففي معرض حديثه عن ظروف بروز اسم شخصية الريسوني بمنطقة الشمال عند نهاية القرن 19، يقول المؤلف: «أما بالنسبة للريسولي، الشخصية التي ارتبطت بشكل وثيق جدا بالأحداث التي وقعت بمنطقة طنجة، والتي شغلت كثيرا الصحافة المحلية والدولية، من المعلوم أنه عندما اندلعت الثورة ضد مولاي عبد العزيز، وعلى الرغم من الهزيمة التي لحقته في تازة، فإنه بفضل همة وشجاعة المنبهي، فإن حكام الأقاليم البحرية وجدوا أنفسهم ممتعين بالهدوء الذي عم القبائل التابعة لأقاليمهم، في الموانئ المحيطية حيث يمكن للقبائل المجاورة أن تكون أسهل انصياعا و»انضباطا» منها في طنجة…» (ص. 87).
ولتفصيل الحديث عن أوضاع مدينة طنجة عند مطلع القرن 20، يقول المؤلف: «إلا أن طنجة، تقدم لنا أمثلة نادرة للتناقضات التي شابت طاعة القبائل المجاورة في الوقت الحالي، وهذه المدينة التي كان من المفروض أن تحافظ على ظروف الاستقرار المثالية، بالنظر إلى كونها ميناء المضيق الذي يضم الإقامات الرسمية لممثلي الدول الأجنبية… وحيث يقطن الوزير الممثل للسلطان لدى هذه الهيآت… في هذه المدينة التي أقيمت بها محطات البريد والتلغراف التي تصل المغرب بالعالم الخارجي، والبنوك والمؤسسات التجارية الهامة، والميناء الذي ترتاده باستمرار سفن عسكرية وأجنبية… في مهام لقضاء خدمات أو لنقل شخصيات سامية إلى هذا المركز الدولي أو العاصمة الديبلوماسية التي ترفرف فيه أعلام الدول المتقدمة التي تعطي نموذجا للنظام والتقدم والقوة، تحولت طنجة هذه، مؤخرا، من الأمان المثالي الذي رفلت فيه منذ عهود طويلة، إلى المركز الأشد خطورة بالساحل المغربي…» (ص ص. 88-89).
وبخصوص ظروف «ظهور الريسولي»، ارتباطا بتطور أوضاع مدينة أصيلا، يقول المؤلف: «في هذه الظرفية ظهرت شخصية الشهير الريسولي، الذي اتجه لمهاجمة أصيلا حيث يحكم الباشا معززا بحامية غير كافية، وكان الباشا عبد الصادق عدوه اللدود، وهو الذي سيخلف القائد بركاش على باشوية طنجة، لكن هذا القائد المقدام لم يتمكن من الدخول إلى أصيلا مع جيشه المتحمس، ويعود ذلك بالدرجة الأولى إلى أسوار المدينة البرتغالية، التي لم ينل منها توالي السنين، وكانت قوية بما يكفي لصد الهجوم وحماية باشا تلك المدينة، وذكرى مجيدة للبرتغال… في الواقع، قد يكون مولاي عبد العزيز رضخ للاعتقاد بأن الريسولي كان ضحية لسلطات البلاد، أو أنه بالنظر إلى استحالة إرسال جلالته الشريفية لفرق عسكرية إلى طنجة، جد قوية وكبيرة العدد لتخمد الثورة، ارتأى أن الريسولي، بما له من نفوذ واضح على القبائل الثائرة، يمكنه لوحده أن يعيد القبائل إلى الطاعة الواجبة للسلطان…» (ص ص. 94-100).
وعلى هذا المنوال، انساب السرد ليقدم تفاصيل هامة من واقع معاينة البارون دي كولاصو لوقائع تطور أحداث شمال غرب المغرب عند مطلع القرن 20. وعلى الرغم من كل المؤاخذات التي يمكن تسجيلها على طريقة جمع المعطيات وتدوينها، فالمؤكد أن لغة البارون دي كولاصو تحمل الكثير من عناصر التميز والإثارة التي لا شك وأنها تحفز الباحثين المتخصصين على ركوب مغامرة إخضاع المضامين لشروط النقد التاريخي العلمي، في سعيهم نحو تطويع المادة المصدرية وتحويلها إلى موضوع متجدد للبحث وللتأمل، ليس فقط بالنسبة لشمال المغرب، ولكن -كذلك- بالنسبة لعموم البلاد.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 26/11/2021