رحلات اجماهري إلى الصين: هل العودة من المستقبل ممكنة؟

«من الصعب أن تعود من الصين كما ذهبت إليها، ومن الصعب أن يقتصر الذهاب إليها، على حالة فرح مصاحبة لسفر كالأسفار الأخرى. الصين بقعة من العالم القادم، ولغة سميكة، قادمة من التاريخ أيضا، بلاد تستمر من التاريخ العريق إلى الغد المذهل». (ص. 5)
من الفقرة الأولى التي يستهل بها مقدمة مؤلفه « ذهبنا إلى الصين، وعدنا من… المستقبل»، يوضح عبد الحميد جماهري «دفتر التحملات» الذي يقترحه على قارئه المفترض: رحلته في المكان، التي بمفردها ممكنة، لأنه ليس من كتاب الخيال العلمي، لم تكن جغرافية فقط، انتقال من نقطة الانطلاق إلى نقطة الوصول والإقامة مؤقتا في رحاب الأخيرة، بل كذلك، وأساسا، سفرا في الزمن، الانتقال إلى حاضر الصين الذي هو «مستقبل» إذا ما قارناه مع «الهنا والآن» السائدين في بقع أخرى من العالم، منها جغرافية انطلاقه وعودته.
إننا، إذا ما اعتمدنا ما كتبه بوشعيب الساوري، في حضرة انتقال إلى «مجال الغير وثقافته»، حيث «أنا» الرحالة تحقق «الخروج من الذات لفهم الغير في اختلافه، وأيضا لفهم الأنا» (بوشعيب الساوري: 2014، 147).
رحلات هي إلى «مستقبل» هو حاضر الصين، سنحاول إبراز بعض معالمه كما جاء في الكتاب، «مستقبل» هو امتداد لتاريخ الاستمراريةُ إحدى سماته و»القطيعة» أحد محركاته، يقوم على عدة قيم أساس ويسعى إلى مستقبل مستقبلي يتجاوز المستقبل «الراهن». وبعدها نتساءل، عطفا على ما ورد في عتبة عنوان المؤلف: هل العودة من هذا «المستقبل» ممكنة، عودة «الأنا» غير القابلة للفصل عن «النحن»؟

مستقبل في رحم الحاضر

أربع مرات زار الجماهري الصين منذ 2010 ، أغلبها بقبعة مهنية/ إعلامية، «غير أن الذي رأيته في هذه الزيارة، يكتب عن زيارته الرابعة (2019)، يبدو لي غير قابل للتصديق، رأيت شعبا يقيم، منذ الآن، في المستقبل» (ص. 12).
من أمارات هذا المستقبل حيث تقيم الصين في حاضرها، مؤسسة علي بابا للتجارة المالية والإلكترونية واللوجستيكية التي تقدم من ضمن خدماتها المباشرة القروض، وفي هذا المجال «يمكنها أن تقدم 120 ألف خدمة في… الثانية. وفي طلب الاقتراض، تتم العملية في ثلاث دقائق، وتتوصل بالجواب في الثانية، وبصفر… إنسان، أي لا وجود للتدخل البشري…» (ص. 27).
ولم يعد «الأداء بالبطاقة أو بالهاتف المحمول ثورة وقفزة إلى أعلى السماوات التكنولوجية» (29)، بل عوضه الدفع باستعمال ملامح الوجه فقط. «لا حاجة لك للنقود، يكفي أن تقف أمام الآلة، بكاميرا متصلة بحسابك البنكي، قف وضع وجهك أمام الكاميرا وخذ بضاعتك، ابتسم أنت في المستقبل.» (29). «.
وللصينيين في الوجوه مآرب أخرى، حيث «يطورون كاميرا للتعرف على الوجوه، يمكنها تحديد هوية الأفراد من بين عشرات الآلاف في الشوارع أو الأماكن العامة.» (51). بل كذلك «نظارات مرتبطة بالإنترنيت، قادرة على رصد وتصوير الوجوه ولوحات السيارات، والمعطيات التي تجمعها ترسل إلى بنك للمعلومات للتعرف على الأشخاص المعنيين بالبحث.» (52)
والجريدة الإلكترونية «يومية شيامن»، في مدخلها «آلة للاستملاح، تحدد عمر من يقف أمامها ونسبة شبهه بنجم من نجوم العالم.» (59).. وشركة «كينغ لونغ» لصناعة المركبات الآلية تتوفر على لوحة إلكترونية ضخمة، منها تتم مراقبة كل الباصات التي تبيعها الشركة، وتتبع حالتها التقنية وهي تجوب شوارع العالم.
زد على ذلك السيارات بدون سائق! والأكياس الخضراء من مادة نباتية التي تكسو الأشجار لحماية من البرودة وشدة الصقيع، والتي. جي. في. المغناطيسي الذي يمكن لسرعته أن تبلغ 500 كلم في الساعة، وناطحات السحاب في شنغهاي (أكثر من 4500).

التاريخ والمستقبل

في رحلاته، يقر الجماهري بأنه رأى «كوكبا اسمه الصين، بصورته التي غيرت في زمن قصير – جيلا أو جيلين- حياة أكبر شعب في العالم.» (16). في هذا الصدد، يكتب الصحفي إيفان أوسنوس (Evan Osnos) الذي قضى في الصين ثمانية أعوام (2005/ 2013) مراسلا لجرائد أمريكية، في كتابه «عصر الطموحات»، أن الصينيين، قبل أربعين سنة، لم تكن تتوفر لديهم أدنى فرصة للولوج إلى الثروة أو معرفة الحقيقة أو ممارسة شعائر ديانة، أو إنشاء شركة أو تلبية إحدى رغباتهم، لكنهم استطاعوا، في جيل واحد، تحقيق كل هذا، بل ويسعون حاليا إلى أكثر منه.
في محطات عديدة من كتابه، يؤكد المتدخل، يعرج الجماهري على صين التاريخ، متوقفا عند عراقة إمبراطورياتها المتتالية وحروبها، وما خلفته من معالم استثنائية، منها على وجه الخصوص السور العظيم والمدينة المحرمة اللذان خصص لهما عدة صفحات وصفا وتأريخا، نعلم من خلالها مثلا أن « بناء القصر الإمبراطوري، أو المدينة المحرمة، (أخذ) أربع عشرة سنة، وساهم فيه حوالي مليون شخص.» (47) وأن إنجازه يعود للإمبراطور الثالث من أسرة مينغ في سنة 220 قبل ميلاد المسيح. كما يروي على امتداد فصل كامل يوما من حياة إمبراطور، مستضيفا القارئ أمام شاشة تعرض فيلما سينمائيا، ومحولا لغته السلسة والأنيقة التي لا تخلو من نَفَس شعري إلى صور متحركة وناطقة، علما أن للسينما وأفلامها حضور متعدد في صفحات الكتاب.
صين موغلة في التاريخ زارها ابن بطوطة، والتقط صورا مكتوبة عنها حفيده، كما يسمي الجماهري نفسه في الكتاب (هذا جدي/ 81)، كما أن «أتباع محمد» (79) تركوا فيها بضعة بصمات منها نشر «الدين الحق» أو «الدين القيم» (91).
ولعل الشجرة التي وقف أمامها الجماهري ولم يصدق ما كتب حولها تعكس استمرارية هذا الزخم التاريخي، وكيف لا وعمر الشجرة تلك… 2000 سنة (ص. 49). مثلما تعكس بعضا منه مطبعة سويسرا بشيامين، حيث «تاريخ الطباعة منذ 1298 قبل الميلاد. هنا الطباعة على الخشب الدائري قبل مطبعة نوتنبورغ. (56)
ورغم القطيعة الراديكالية التي شكلتها الثورة الماوية وتأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 1949، فقد «ظل الحزب والحكومة الصينية يهتمان بمتحف القصر الإمبراطوري، ويتم رصد كل سنة مبلغا خاصا لإصلاحه وإعادة ترميمه…» (49/ 50).
فرارشيانغ كاي شيك وأفراد حكومته إلى تايوان، ناقلا معه احتياطيات الجمهورية من الذهب، وإعلانه «تايبيه» عاصمة مؤقتة للبلاد، وقيام ماو تسي تونغ بإعلان قيام جمهورية الصين الشعبية على أراضي بر الصين الرئيسي وإعلان نفسه رئيسا لها (ص. 56)، أمارات على هذه القطيعة، «تاريخ ما زال يرخي بظلاله على المنطقة كلها» (ص. 56).
1979، «في الصين الخارجة من ثورة ماو الثقافية والدموية»، يقود دينغ كسياو بينغ ثورة أخرى في سياق تحول دولي محافظ… وقد «اعتبر أمين معلوف، الذي رافق كتابه «غرق الحضارات» الجماهري في رحلته الأخيرة إلى الصين، (…) أن الطابع المحافظ لثورته هو أنه أعاد الصين إلى هويتها التجارية، فكان له أن اتخذ قرارا بفتحها في وجه العالم بعد أن أغلقتها الماوية في وجهه.» (صص. 14/ 15).
ورغم هذا المنعطف «الإصلاحي»، تظل للحزب الشيوعي مكانة محورية في البناء المؤسسي والمجتمعي، يكتب سعيد عاهد، علما بأن ثمانية أحزاب ترافقه في التدبير والتسيير.وبالفعل، فعن سؤال مفاده: هل نقول إن الصراع الطبقي انتهى في الصين؟ (63)، يأتي الجواب حاسما: «جاء حسب العقلية الصينية، بأن الحزب الشيوعي الصيني هو الجبهة التقدمية وطليعة الطليعة للطبقة العمالية الصينية، كما هو الحال بالنسبة للشعب والأمة الصينيين، وهو بذلك جسد المصالح الأساسية للغالبية الساحقة لساكنة الصين.» (64). ويقول مسؤول سياسي آخر: «أغلب الصينين يشكرون الحزب الشيوعي على ما قدمه للشعب الصيني، إن جيلنا يعد جيلا من الأباطرة الصغار، بالمقارنة مع ما كان آباؤنا يعيشونه.» (100)
رغم المستقبل الذي عاشه الجماهري في حاضر الصين، والذي جعله يتساءل مع أعضاء الوفد المرافق له: «نتبادل النظر، بعضنا يشعر بالكآبة: ما الذي يوجد في العقل الصيني ولا يوجد في عقل المؤسسات المغربية؟» (28)، فإنه ينقل عن مسؤول في وزارة الخارجية الصينية قوله إن «لبلاده وللمغرب مهمة شاقة في الإصلاح والتنمية.» (32)، قبل أن يلاحظ في مكان آخر من الكتاب أن الصين «تمتلك التخطيط السياسي على المدى البعيد، وهي ميزة قل نظيرها في عالم اليوم» (101).
بناء مستقبل مستقبلي إذن انطلاقا من المستقبل الآني، يتوقف الكتاب عند العديد من آفاقه التي أشار منها على سبيل المثال لا الحصر:
– مؤسسة «علي بابا» تستهدف، قبل 2036 مثلا، 2 مليار نسمة كزبائن، مع خلق 100 مليون منصب شغل.» (27)
– البيت الذكي أو بيت المستقبل الذي اكتشفه الجماهري ومن معه في مركب الذكاء الاصطناعي بشنغهاي، (116).
علاوة على الروبو الجراح، والكاميرات التي تصور على مدار 360 درجة، والإنسان الآلي الذي يصنع نفسه بنفسه والذي كان مقررا انطلاق المصنع الجديد المخصص لإنتاجه نهاية 2020. (117)…
– استنبات أول بذرة زراعية على سطح القمر (127).
– طبيا، كبسولة تعوض المنظار الباطني (فيبروسكوبي) (134).
– إعلاميا، والهم المهني كما تعيشه الصين يركز الكتاب عليه انطلاقا من المؤسسات الإعلامية التي زارها: «يتوقع المسؤولون نهاية الورق، لهذا وضعوا منصات بث ونشر إلكترونية من جيل جديد» (63).
وفي تناوله للقيم الأساس التي جعلت الصين تعيش المستقبل راهنا، عرض الجماهري للكثير منها، ومن ضمنها:
الأخلاق والتناغم مع الأخلاق (صص. 43/ 44)
التربية على الثقافة والفنون والقراءة: يبلغ مجموع قراء المواقع التابعة ليومية الشعب 100 مليون قارئ!!! (24).
المحاسبة: ومن أمثلة ذلك المجموعة الإعلامية «شين مين إيفنينغ نيوز»، المحتضنة للوحة تقنية إلكترونية تنشر مقالات كل صحفي عامل بها وعدد قرائه وترتيب منتوجه في اليوم ضمن كل ما يكتب، وارتباط ذلك بالأجر…. (107)
النقد والنقد الذاتي الذي لم يفلت منه حتى الزعيم ماو. (120)
التكوين المستمر الذي يخضع له الجميع، بما في ذلك الوزراء.
الانضباط للوقت وضبطه، حتى بالنسبة لوجبات الأكل (144)
البساطة في الملبس: المشرف الأول على مركز رائد للبحث العلمي «هذه البساطة التي تغمرنا في لقائه وهندامه ولغته، تخفي وراءها عمقا لا يحد ومستقبلا هادئا في عقله» (148)
الاندماج الذي رافق تحول البلاد من حياة قروية إلى حياة حضرية. (122)

هل العودة ممكنة؟

«هل العودة من (هذا) المستقبل ممكنة لأنا الرحالة غير القابلة للفصل عن «نحن» مجتمعه وبيئته؟، «من لم يكتئب بعد الصين، فهو لا يحب بلاده» (5).
إن العودة ضرورية وحتمية، رغم ما طال «المسافر» وقارئ كتابه من تغيير، ذلك أن السفر إلى الصين وعيش المستقبل في رحابها شبيه بالحرب، لأن من يعود من الأخيرة يكون قد تغير بالضرورة حتى لو عاد منها سالما بحياته وجلده. لقد عاد الجماهري بنظرة مختلفة إلى واقع رقعته الجغرافية وحال البلاد والعباد ملؤها أسئلة من قبيل: لماذا أصبح العرب غرباء عن الحضارة، وعن الحاضر؟ وما الذي يوجد في العقل الصيني ولا يوجد في عقل المؤسسات المغربية؟ وما الذي يجعل مسؤولا صينيا يربط تعثر أوراش المشروع الصيني- المغربي حول المدينة التكنولوجية (طنجة تيك) بعدم جودة الوضع الاقتصادي العالمي وانخفاض مستوى التنمية، حسب البنك الدولي، إلى 3،9 % في 2019، ومسؤولا مغربيا ينفي أن تكون هناك أية عراقيل في تقدم الأعمال، ويعتبر بأن الأمور تسير كما تم التخطيط لها!؟


الكاتب : سعيد عاهد

  

بتاريخ : 08/07/2022